منذ فترة وجيزة، أجريتُ مكالمة مذهلة مع نيتا فرحاني، وهي عالمة مستقبليات ومختصة بقوانين الأخلاقيات في جامعة ديوك في مدينة دورام بولاية نورث كارولينا. أمضت فرحاني فترة طويلة من حياتها المهنية وهي تدرس آثار التكنولوجيات الجديدة، وعلى وجه الخصوص التكنولوجيات التي تركز على فهم أدمغتنا أو تعديلها.
لقد شهدنا في السنوات الأخيرة انتقال التكنولوجيات العصبية من مختبرات الأبحاث إلى ميدان الاستخدامات في العالم الحقيقي؛ فالمدارس تستخدم بعض الأجهزة لمراقبة النشاط الدماغي لدى الأطفال كي تكشف مدى انتباههم إلى الدروس، وتستخدم الشرطة أجهزة أخرى كي تميز ما إذا كان شخص ما مذنباً بجريمة. أما أرباب العمل فيستخدمون هذه التكنولوجيات للحفاظ على مستوى الحيوية والإنتاجية عند الموظفين.
وتحمل هذه التكنولوجيات إمكانات واعدة يمكن أن تقدم لنا معلومات جديدة تماماً حول أذهاننا. ولكن بياناتنا الدماغية ثمينة، ويمكن أن يكون وقوعها في الأيدي الخطأ خطيراً، كما تقول فرحاني في كتابها الجديد "المعركة من أجل دماغك" (The Battle for Your Brain). وقد تحدثت معها عن بعض مخاوفها.
اقرأ أيضاً: كيف تحرر نفسك من أجهزتك الإلكترونية؟
تم تعديل المقابلة التالية بهدف الإيجاز وزيادة الوضوح.
يوضح كتابكِ الاستخدامات المحتملة للتكنولوجيات التي تجمع بياناتنا الدماغية وتسبرها، بغض النظر عن الهدف. ما الذي يمكن أن نستنتجه من البيانات الدماغية لشخص ما؟
عندما أتحدث عن البيانات الدماغية، فأنا أشير إلى استخدام التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG)، أو التحليل الطيفي الوظيفي للأشعة تحت الحمراء القريبة (fNIRS)، أو التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (fMRI)، وغيرها من الطرائق المستخدمة لجمع البيانات حول وظائف الدماغ البيولوجية والفيزيولوجية الكهربائية وغيرها. وتميل هذه الأجهزة إلى جمع البيانات من كافة أجزاء الدماغ، ويمكن بعد ذلك استخدام البرمجيات لالتقاط إشارة محددة.
بيانات الدماغ ليست أفكاراً، إلا أنه يمكن استخدامها لاستنتاج ما يحدث داخل دماغ الشخص. فمن الممكن التمييز بين الحالات الدماغية المختلفة، مثل التعب والانتباه والشرود والتفاعل والضجر والاهتمام والسعادة والحزن. كما يمكن استنتاج تفكير أو شعور صاحب هذا الدماغ، وما إذا كان جائعاً أم لا، وما إذا كان ديمقراطياً أو جمهورياً.
ويمكن أيضاً التقاط ردود الفعل، ومحاولة سبر الدماغ للحصول على المعلومات، واستنتاج محتوى الذاكرة أو أنماط التفكير. ويمكن حتى عرض بعض الأرقام على الشخص في محاولة لكشف كلمة المرور الخاصة به، أو صور مرشحين سياسيين لكشف ردود الفعل السلبية أو الإيجابية. ويمكن حتى سبر تحيزات الشخص، والمعلومات الحقيقية التي يحملها، مثل التعرف على مسرح جريمة، أو كلمات المرور.
حتى الآن، ما زالت الفحوصات الطبية الوسيلة الوحيدة التي استخدمها معظم الناس لمعرفة المزيد حول بياناتهم الدماغية. سجلاتنا الطبية تحظى بالحماية، ولكن، ماذا عن البيانات الدماغية التي تجمعها المنتجات الاستهلاكية؟
أعتقد أننا بلغنا منعطفاً حاسماً. فالكثير من الأجهزة الاستهلاكية ستصل إلى الأسواق هذا العام وفي العامين المقبلين. لقد تحققت تطورات هائلة في الذكاء الاصطناعي بشكل يسمح لنا بتفكيك ترميز النشاط الدماغي، كما أُحرز تقدم كبير في مسألة تصغير الأقطاب، ما يسمح للشركات المصنّعة بوضعها في السماعات على اختلاف أنواعها. إضافة إلى هذا، فقد استثمرت الشركات التكنولوجية الكبرى مبالغ ضخمة في هذا المجال. وأعتقد أن هذه التكنولوجيات ستصبح واسعة الانتشار عما قريب.
حالياً، لا يمكن لأحد الوصول إلى البيانات الدماغية سوى صاحبها، ولا يمكن تحليلها إلا ضمن البرامج الداخلية في الدماغ، ولكن ما إن يضع الشخص جهازاً على رأسه، فهذا يعني أنه سيشارك البيانات على الفور مع الشركة التي صنعت هذا الجهاز والشركة صاحبة المنصة. كما يمكن مشاركة هذه البيانات أيضاً مع أي جهة منحتك هذا الجهاز، مثل الحكومة أو رب العمل.
اقرأ أيضاً: تجربة شخصية: سأغادر منصة تويتر رغم نجاحي الكبير عليها
أهذا أمر سلبي بشكل مطلق؟
إن قدرة الأفراد على الوصول إلى بياناتهم الدماغية الخاصة كفيلة بإحداث تحول كبير وإيجابي. فلطالما كان الدماغ منطقة محرّمة ومغلقة من أجسادنا، وفجأة أصبح محتواها في أيدي الأفراد، وهو ما سيؤدي إلى تغيير علاقتنا مع أنفسنا.
وإذا أصبحت هذه البيانات في متناول العلماء والباحثين، فقد تساعدهم على فهم مشكلات الدماغ، ما يمكن أن يؤدي إلى تطوير علاجات جديدة للأمراض العصبية والعقلية.
ولكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في جمع البيانات أو تكوينها، بل في استخدام هذه البيانات بطرق مؤذية للأفراد أو الشرائح أو المجموعات، وتكمن مشكلة أخرى في أنه من المحتمل أن يحدث هذا الأمر بسرعة كبيرة.
فعندما تتمكن حكومة قمعية من الوصول إلى هذه البيانات، فستتمكن من استخدامها لكشف المعارضين لسياساتها، على سبيل المثال، وهي إساءة جسيمة وسريعة للغاية في استخدام هذه البيانات. كما يمكن استخدام هذه البيانات لكشف الناس الذين يعانون أي أعراض عصبية، والتمييز ضدهم أو عزلهم. وفي مكان العمل، يمكن استخدامها لتجريد الأفراد من إنسانيتهم بتعريضهم إلى المراقبة العصبية. وسيصبح كل هذا ممكناً في الوقت نفسه.
اقرأ أيضاً: كيف تتجنب مشاركة المعلومات المغلوطة حول الحرب الروسية الأوكرانية على الإنترنت؟
أما بعض المنتجات الاستهلاكية، مثل عصابات الرأس [الإلكترونية] والسماعات التي تهدف إلى قياس النشاط الدماغي وتحريض الإحساس بالسكينة، على سبيل المثال، فقد اعتبرها العلماء مجرد حيل سخيفة.
وهم محقون تماماً. فالمختصون المخضرمون في مجال الواجهات التخاطبية الدماغية، والذين يعملون على تصميم زرعات حقيقية يمكن أن تحدث ثورة في تحسين صحة الدماغ، يعتبرون أن هذه الأجهزة لا تلتقط الكثير من المعلومات الحقيقية. فهذه الإشارات معرضة للتشويش، بسبب الشعر وتقلصات العضلات، على سبيل المثال، ولكن هذا لا يعني أن الإشارات معدومة تماماً، فما زال هناك بعض المعلومات التي يمكن التقاطها. وأعتقد أن من يصرفون النظر عنها تماماً يبالغون في موقفهم، فهم لا يدركون ما يحدث في هذا المجال، ولا يعرفون السرعة الكبيرة التي تظهر فيها الإنجازات الجديدة.
اقرأ أيضاً: تعرف على الباحث المصري أحمد رجب ودوره في توضيح علاقة الدين بالرعاية الصحية
في كتابك، قدمتِ بعض الأمثلة حول استخدام هذه التكنولوجيات حالياً من قبل أرباب العمل. تُستخدم بعض هذه الأجهزة لمراقبة مستوى اليقظة والانتباه عند السائقين، على سبيل المثال.
وفي رأيي هذا ليس بالاستخدام المسيء على الإطلاق، فمن الممكن تحقيق التوازن بين الخصوصية الذهنية للفرد والصالح الاجتماعي العام للحفاظ على سلامة السائق وسلامة الآخرين على الطريق.
كما أن استخدام الموظفين لهذه الأدوات لالتقاط الإشارات والاستجابات العصبية في الزمن الحقيقي (أي القدرة على مراقبة النشاط الدماغي الذاتي) لتحديد مستوى التوتر والانتباه لديهم أصبح أكثر انتشاراً من ذي قبل. وإذا تم تقديم هذه الأدوات إلى الأفراد لمراقبة أنفسهم على سبيل التأمل أو التحسين، فلا أظن أن هذا يمثل مشكلة.
ولكن المشكلات ستظهر عندما يصبح استخدام هذه الأدوات إلزامياً، وعندما يقوم أرباب العمل بجمع البيانات لاتخاذ القرارات حول التوظيف والتسريح والترقيات، إذ سيحولون هذه البيانات إلى ما يشبه نقاط تقييم الإنتاجية. وفي هذه الحالة، أعتقد أن الوضع سيصبح مسيئاً وإشكالياً، فهو يؤدي إلى تقويض الثقة، ويجرد مكان العمل من الجوانب الإنسانية.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد التكنولوجيا علماء الآثار على كشف أسرار المدن القديمة؟
لقد وصفتِ أيضاً كيف يمكن للشركات والحكومات أن تستخدم بياناتنا الدماغية، وقد أثارت اهتمامي على نحو خاص فكرة الزرع الموجه للأحلام.
لقد رأينا هذه الفكرة في فيلم "إنسيبشن" (Inception)، أما في الواقع، فقد تعاونت شركة المشروبات كورز (Coors) مع فريق من باحثي الأحلام لزرع أحلام مجموعة من المتطوعين بأفكار حول الجبال والجداول العذبة، وربط هذه الأفكار في نهاية المطاف مع مشروبات كورز. ولتحقيق هذا الأمر، قاموا بتشغيل مقاطع صوتية يسمعها المتطوعون في لحظة الاستيقاظ أو في لحظة الاستسلام للنوم، وهي اللحظات التي يكون فيها الدماغ في أعلى درجات الضعف والحساسية للمؤثرات الخارجية.
إنها عملية صعبة ومعقدة لعدة أسباب، فهي تتمحور حرفياً حول البحث عن لحظات يكون فيها المرء غير قادر على حماية ذهنه، ومحاولة بناء هذه الروابط في الذهن خلال هذه اللحظات، ويبدو هذا الأمر أقرب إلى التلاعب الذي يجب أن يكون محظوراً.
استعانت الشركة بمتطوعين وافقوا على المشاركة، ولكن، هل يمكن تنفيذ هذه العملية دون موافقة الشخص؟ حصلت شركة آبل (Apple) على براءة اختراع لقناع للنوم مع مستشعرات مدمجة لقياس النشاط الكهربائي للدماغ، كما استعرضت شركة إل جي (LG) سماعات مخصصة للنوم مع نظام لقياس النشاط الكهربائي للدماغ، على سبيل المثال. لنتخيل أن هذه المستشعرات قادرة على تحديد اللحظة التي يكون فيها دماغك في أضعف حالاته، وحينئذ تتصل بهاتف خلوي أو جهاز منزلي قريب لتشغيل مقطع صوتي للتلاعب بتفكيرك. ألا يبدو هذا مخيفاً لك؟
اقرأ أيضاً: الإنسان المعزز بالتكنولوجيا: مستقبل التطور البشري
أجل، بالتأكيد! كيف يمكن أن نمنع حدوث أمر كهذا؟
أنا أتواصل بصورة نشطة مع العديد من الشركات، وأخبرها بضرورة وضع سياسات للخصوصية العالية الفعالية. وأعتقد أنه يجب أن يكون الناس قادرين على تجربة هذه الأجهزة دون القلق من النتائج.
هل تقبلت تلك الشركات هذه الفكرة؟
لقد اعترفت غالبية شركات التكنولوجيا العصبية التي تحدثتُ إليها بهذه المشكلات، وهي تعمل على وضع الحلول، وتحمّل مسؤولياتها بشكل جيد. وقد لمستُ لدى هذه الشركات درجة مشجعة للغاية من الصدق والإخلاص. غير أن بعض الشركات التكنولوجية الكبرى لم تكن على نفس المستوى. وكما شهدنا في موجات التسريح الكبيرة الأخيرة، فإن اختصاصيي الأخلاقيات هم من أوائل الموظفين الذين تفصلهم هذه الشركات.
وبما أن الشركات التكنولوجية الكبرى تستحوذ على بعض تلك الشركات الصغيرة المختصة بالتكنولوجيا العصبية، فأنا غير واثقة من أن البيانات الدماغية التي جمعتها الشركات الصغيرة ستبقى محمية وفق سياسات الخصوصية لديها. فتسليع البيانات هو نموذج الأعمال الذي تعتمده هذه الشركات الكبيرة، ولا أميل على الإطلاق إلى الاعتماد على أن الشركات ستنظّم نفسها بنفسها.
ماذا يمكن أن نفعل إذاً؟
آمل أن نتوجه بسرعة نحو اعتماد حق يضمن حرية الإدراك، وهو حق جديد من حقوق الإنسان، ولكنه موجود من حيث المبدأ ضمن قانون حقوق الإنسان الحالي.
وأعتقد أن حرية الإدراك مفهوم عام يرتكز على 3 مبادئ أساسية: الخصوصية العقلية، وحرية التفكير، وحرية تحديد الحالة العقلية الذاتية (حرية الإرادة الفكرية). ويعبّر المبدأ الأخير عن حقنا في الوصول إلى المعلومات المختزنة في أدمغتنا، ومعرفة أدمغتنا (كيف تعمل) وتغييرها (تغيير طريقة عملها).
ويمثل التعرف على شكل الحرية الجديد في العصر الرقمي تحديثاً للمفهوم العام للحرية.
ما هو احتمال تطبيق شيء كهذا فعلياً؟
أعتقد أنه مرجح للغاية. وتستطيع لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، من خلال منصة التعليقات العامة أو الآراء العامة، الاعتراف بحق حرية الإدراك، ولا يحتاج ذلك إلى عملية سياسية معقدة في الأمم المتحدة.
اقرأ أيضاً: تعرف إلى لقاءات ميتافيرس الوجدانية: حيث يمكنك مشاركة أفكارك ومشاعرك حول الموت والحزن والألم
ولكن، هل سيتم تطبيقه في الوقت المناسب؟
آمل هذا، فهذا ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب الآن. ليس أمامنا الكثير من الوقت. وإذا انتظرنا وقوع كارثة ما، فهذا يعني أن الأوان قد فات.
ولكن، يمكننا منذ الآن أن نحدد مسار التكنولوجيات العصبية بحيث تكون عاملاً في دعم البشرية.