بينما نتحول بسرعة بالغة نحو عالم شعاره الأساسي الرقمنة، نجد أن قوة الذكاء الاصطناعي بدأت بالتصاعد بطريقة لن تتمكن معها أي صناعة من تجنبها، وعلى رأسها صناعة الإعلام التي تسير بسرعة كبيرة نحو التحول الرقمي في جميع قطاعاتها الفرعية، بما في ذلك القطاعات المرئية والمكتوبة والمسموعة.
فإذا عدنا بالزمن نحو الأيام التي تميزت فيها المحادثات بالرسم على الكهوف وإرسال الأخبار والمعلومات عبر الحمام وحتى الوقت الحاضر، عندما أصبح استخدام فيسبوك أو سناب شات للتواصل وكتابة التغريدات وسيلة رئيسية لإيصال أفكارنا في لمح البصر، فإن هذا يعتبر إنجازاً كبيراً كانت فيه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي هي المحرك الرئيسي لهذا التحول.
كيف سيغير الذكاء الاصطناعي أداء وسائل الإعلام الرقمي الجديد؟
في الوقت الحالي تدخلت الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي في صناعة الإعلام بشكل كبير، ومن ضمن الحلول التي يتم استخدامها حالياً ما يلي:
السيطرة على المحتوى المتحيز
يعتبر التحيز بمثابة وصمة العار التي تواجهها منصات وسائل الإعلام الرقمية الحديثة، حيث غالباً ما يتم وضع المعلومات التي يتم تقديمها للجمهور مع درجات من التحيز تؤدي إلى محتوى مضلل بدلاً من الأخبار الواقعية والمتوازنة.
بينما يحمل الذكاء الاصطناعي بالتأكيد خطر كونه متدرباً على بيانات متحيزة، إلا أنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون جزءاً من الحل، فبناءً على البيانات المستخدمة للتدريب يمكن استكشاف القرارات التي يتخذها الذكاء الاصطناعي والإشراف عليها، على عكس القرارات التي يتخذها البشر.
اقرأ أيضاً: ما دور القوى العاملة البشرية في طفرة الذكاء الاصطناعي؟
تفصيل نظام الاشتراك غير المدفوع
هناك العديد من النماذج التقنية المختلفة لتطبيق منهجية حظر الاشتراك غير المدفوع أو ما يسمى باي وال (Paywall)، ولكن مهما كان الأسلوب المتبع فإن الهدف النهائي هو نفسه، وهو تحويل القراء إلى مشتركين يدفعون من أجل استهلاك المحتوى الخاص بك.
وأحد هذه النماذج هو جدران الدفع الديناميكية (Dynamic paywall) المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تعمل على تغيير حدود المقالات المجانية بناءً على العديد من المتغيرات والسلوكيات، بما في ذلك المنطقة الجغرافية وعادات التصفح والتفاعل في الموقع، بالإضافة إلى نوع المحتوى والجهاز المستخدم للمساعدة في تحديد سلوك المستهلك في هل سيدفع من أجل الوصول للمحتوى أم لا.
الذكاء الاصطناعي في الصحافة الآلية
تستخدم الصحافة الآلية التي يطلق عليها أيضاً اسم الصحافة المؤتمتة (Automated Journalism) خوارزميات توليد اللغات الطبيعية (Natural Language Generation) اختصاراً (NLG) المدعومة بالذكاء الاصطناعي، من أجل تحويل البيانات تلقائياً إلى قصص إخبارية متنوعة وصور ومقاطع فيديو وتصورات للبيانات ثم توزيعها عبر الحسابات المختلفة آلياً.
على سبيل المثال، تقوم شبكة النشر باتش (Patch) بدمج نماذج الذكاء الاصطناعي في نظام إدارة المحتوى الخاص بها لإنشاء وتوزيع مقالاتها المتكررة، مثل تقارير الطقس والتقارير المالية بشكل تلقائي عبر قنواتها وحساباتها المتعددة.
اقرأ أيضاً: لماذا عليك ألا تثق بمحركات البحث التي تعمل بالذكاء الاصطناعي؟
التوصية بالمحتوى المخصص
إحدى الطرق الأكثر شيوعاً التي تستخدم عبرها وسائل الإعلام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي هي تخصيص توصيات المحتوى، التي تُساعد على زيادة المشاركة وإبقاء القراء لفترة أطول. على سبيل المثال تستخدم النسخة الرقمية من صحيفة واشنطن بوست (Washington Post) الذكاء الاصطناعي لإضفاء الطابع الشخصي على الأخبار التي تقدمها بناءً على اهتمامات القراء وتفضيلاتهم.
وهو نهج يُستخدم حالياً عبر التطبيق والنشرات الإخبارية والصفحة الرئيسية الرقمية، فمن خلال صفحة لك (For You) يمكن للمشتركين أو المستخدمين المسجلين تحديد تفضيلات الموضوعات الخاصة بهم، ثم يتم تعزيز التوصيات بشكل أكبر من خلال سجل القراءة وبيانات الأداء الأخرى، حيث تسعى مع العديد من وسائل الإعلام الأخرى إلى عرض محتوى أكثر تخصيصاً وبعيداً عن نهج مقاس واحد يناسب الجميع (One size fits all) التقليدي.
اقرأ أيضاً: ليس خيالاً علمياً: الذكاء الاصطناعي صار قادراً على قراءة أفكارك
وضع علامات على البيانات الوصفية
مع وجود أجزاء غير محدودة من المحتوى يتم إنتاجها كل دقيقة، يصبح تصنيف هذه العناصر وتسهيل البحث على المشاهدين مهمة شاقة لموظفي شركات الإعلام، حيث تتطلب هذه العملية مشاهدة مقاطع الفيديو واكتشاف المشاهد أو الأشياء أو المواقع في الفيديو لتصنيفها وإضافة العلامات.
ولكن بدلاً من ذلك، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي للقيام بهذه المهمة بسهولة وسرعة ودقة؟ على سبيل المثال، تستخدم شركة بث الوسائط عبر الإنترنت سي بي إس إنتراكتيف (CBS Interactive) أدوات الذكاء الاصطناعي للفيديو لإجراء التعليقات التوضيحية وتحليل محتوى كل فيديو لتحديد العناصر والعلامات المناسبة، وبهذه الطريقة يصبح أي محتوى تنشئه الشركة متاحاً بسهولة.
اقرأ أيضاً: ما ملامح المرحلة التالية في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
إنشاء الترجمة التلقائية
تعني أهمية إتاحة الوصول إلى المحتوى للجميع أن الشركات الإعلامية بحاجة إلى توفير ترجمات متعددة اللغات خالية من الأخطاء لإنتاجها الصوتي والمرئي، وقد يقضي المترجمون البشريون آلاف الساعات لكتابة ترجمات مصاحبة للمحتوى يدوياً بمئات اللغات، بالإضافة إلى أنها قد تكون عرضة للأخطاء.
لذلك تستفيد الشركات الإعلامية من التقنيات المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل تكنولوجيا معالجة اللغة الطبيعية (NLP) للتغلب على هذه العقبات. على سبيل المثال، يمكن للناشرين في منصة يوتيوب إنشاء تسميات توضيحية تلقائياً لمقاطع الفيديو التي تم تحميلها لتسهيل الوصول إليها.
اقرأ أيضاً: لماذا يصعب تمييز النصوص التي ولدها الذكاء الاصطناعي؟
توزيع المحتوى
يمكن رؤية فائدة أخرى للذكاء الاصطناعي في قدرته على دعم وسائل الإعلام في نشر المحتوى للمستهلكين أينما كانوا، على سبيل المثال استخدمت النسخة الأوروبية من صحيفة بوليتيكو (POLITICO) الذكاء الاصطناعي لتحويل نشرتين إخباريتين شهيرتين إلى نشرات صوتية يومية، ما منح المشتركين طريقة جديدة لاستهلاك المحتوى أثناء التنقل.
حيث يمكن أن يساعد هذا النوع من الحلول التكنولوجية المدعومة بالذكاء الاصطناعي وسائل الإعلام في إدارة مواردها بشكل أكثر كفاءة، بالإضافة إلى توزيع المحتوى على منصات مختلفة في الوقت المناسب وبطريقة فعالة من حيث التكلفة.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على الصحافة وعمل الصحفيين؟
تحديات تبني الذكاء الاصطناعي في وسائل الإعلام
مع الجدل الكثيف حول المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإن تبني هذه التكنولوجيا في صناعة الإعلام الرقمي سيكون مواجهاً بالكثير من التحديات. على سبيل المثال، في الوقت الحالي سيكون من الصعب التنبؤ بالضبط بكيفية تفاعل الأشخاص مع المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي، حيث من المحتمل أن يعتمد ذلك على الفرد والسياق الذي يواجه فيه المحتوى.
وبينما قد يكون بعض الأشخاص متحمسين للإمكانيات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى أكثر تخصيصاً وجاذبية، إلا أنه قد يكون لدى آخرين مخاوف بشأن استحواذ الذكاء الاصطناعي على مجالات الإبداع والتعبير البشري. فأحد المخاوف المحتملة هو أن يكون الناس أقل انتقاداً لمحتوى الذكاء الاصطناعي لأنه يُنظر إليه على أنه أكثر موضوعية أو حيادية من المحتوى الذي أنشأه الإنسان، ما قد يؤدي إلى قبول الأشخاص بشكل أعمى للمحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي على أنه حقيقة دون النظر إلى التحيزات أو القيود المحتملة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن كشف النصوص التي يولدها الذكاء الاصطناعي؟
علاوة على ذلك، من المحتمل أن تعتمد ردود أفعال الناس على المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي على تجاربهم ومعتقداتهم حول الذكاء الاصطناعي وقدراته، فهناك الكثير من الأشخاص المتحمسين بشأن إمكانات الذكاء الاصطناعي في تحسين دور وسائل الإعلام، لكن قد يوجد من هم أكثر تشككاً أو تردداً.
ختاماً، من الواضح أن الذكاء الاصطناعي يؤدي دوراً مهماً في مساعدة وسائل الإعلام في تحسين وجودها في المشهد الإعلامي المتغير، علاوة على ذلك يمكن أن يساهم استخدام الذكاء الاصطناعي في العثور على أنماط يمكن أن تؤدي إلى إعلانات أكثر تخصيصاً وسياقية. وفي ظل خلفية العمل الصعبة حيث تبدأ المنافذ الإعلامية الرقمية في التركيز بشكل أكبر على مجالات مثل المنتج والاشتراكات والاحتفاظ بها، ستصبح مساهمة الذكاء الاصطناعي في نجاحها أكثر بروزاً وأهمية من أي وقت مضى.