كان الهيدروجين يعتبر ميؤوساً منه وخطيراً، ولا يتمتع بجدوى اقتصادية تنافسية، ولكنه تمكن من العودة إلى الساحة من جديد وبشكل رائع أيضاً. وتراهن بعض المناطق بشدة على الهيدروجين بوصفه الفرصة الجديدة التي تبلغ قيمتها تريليون دولار.
حتى بضع سنوات سابقة، كانت معظم عمليات التطوير على الهيدروجين تجري في الولايات المتحدة وأوروبا، وعلى وجه الخصوص، في بريطانيا واسكتلندا. ولكن يبدو أن الشرق الأوسط بدأ يحقق بعض التقدم الملحوظ، وبدأ يبرز كساحة اختبار لتوسيع الاستثمار والابتكار في الهيدروجين الأخضر، ما يجعله في وضع مثالي لإنتاج الهيدروجين الأخضر على نطاق واسع.
على سبيل المثال، فإن تكلفة إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر في منطقة الخليج تعادل ثلث المتوسط العالمي تقريباً. وهو أمر بات ملحوظاً منذ فترة. حيث تقوم المملكة العربية السعودية ببناء مصنع للهيدروجين الأخضر بقيمة 5 مليارات دولار، وسيكون المصنع الأكبر الذي يعتمد على طاقة الرياح والطاقة الشمسية في العالم. وهو متصل بمشروع نيوم الطموح. وما إن يكتمل إنجاز هذا المصنع، والمتوقع بحلول عام 2025، سيكون أكبر منشأة لتحويل الهيدروجين المستدام إلى الأمونيا، وسيكون إنتاجه مكافئاً للطاقة الناتجة عن 5 ملايين برميل من النفط سنوياً.
اقرأ أيضاً: كيف سيؤثر الهيدروجين الأخضر على مستقبل العالم وما أشهر الدول التي تنتجه؟
الهيدروجين الأخضر في المملكة العربية السعودية قد يكون الأقل تكلفة عالميّاً
والجدير بالذكر هنا، أن المملكة تنتج 12 مليون برميل من النفط يومياً على وجه التقريب، ما يعني أن محفظة مشاريع الطاقة ما زالت تعتمد بنسبة كبيرة للغاية على النفط. وعلى الرغم من هذا، فإن منشأة نيوم ليست سوى واحدة من المنشآت والمشاريع الضخمة المتعلقة بالهيدروجين في المملكة.
وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن المملكة قررت مضاعفة تركيزها على طموحاتها الهيدروجينية، وتمكنت منذ الآن من إنتاج الهيدروجين وفق الحد الأدنى من النطاق العالمي، والذي يتراوح من دولارين اثنين إلى 7 دولارات للكيلوغرام الواحد. ووفقاً لحسابات مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية، فمن الممكن تحقيق دولار واحد للكيلوغرام الواحد على المدى الطويل. وهو ما سيجعل الهيدروجين الأخضر السعودي الأقل تكلفة بكثير على مستوى العالم.
من المرجح أن تنخفض تكاليف الهيدروجين الأخضر بصورة ملحوظة، ما يعني فرصة استثمارية بقيمة 600 مليار دولار. ويتوقع تقرير استشراف الانتقال الطاقي زيادة في الطلب على الهيدروجين بمقدار ستة أضعاف بحلول عام 2050. ووفقاً لتقديرات مؤسسات وجهات أخرى، فإن هذا الرقم أعلى من ذلك حتى. أما الوكالة الدولية للطاقات المتجددة فتتوقع أن الهيدروجين ومشتقاته ستشكل نسبة 12% من الاستهلاك العالمي للطاقة بحلول عام 2050.
اقرأ أيضاً: ما أبرز مشاريع واستخدامات الطاقة الشمسية في المملكة العربية السعودية؟
هذه هي الأرقام التي توصل إليها الباحثون، والتي أدت إلى طموحات كبيرة للغاية. فقد أعلن وزير الطاقة السعودي عن هدف السعودية في أن تصبح أكبر مورّد للهيدروجين على مستوى العالم. كما تهدف الإمارات العربية المتحدة إلى أن تتحول إلى مركز يسيطر على 25% تقريباً من السوق العالمية للهيدروجين بحلول عام 2023. أما عمان ومصر وغيرها من بلدان الشرق الأوسط فقد وضعت جميعاً خططاً طموحة للهيدروجين. وفي منطقة تشهد تحولات هائلة، سيكون للهيدروجين دور أساسي، وقد أصبح من الواضح أن الهيدروجين يؤدي دوراً رئيسياً في استراتيجيات تنويع الطاقة والاقتصاد، على الرغم من أن هذه المعلومة غير مذكورة بصورة مباشرة في الكثير من أطر الرؤية المستقبلية الوطنية.
اقتصاد عالمي يعتمد على الهيدروجين
إن إطلاق الاقتصاد العالمي الذي يعتمد على الهيدروجين أو تسريعه، عملية مثيرة للاهتمام، إذ يجب أن يستخدم جنباً إلى جنب مع مصادر الطاقات المتجددة الأخرى، ويتكامل معها. ومن الجدير بالذكر أن الهيدروجين الأخضر يمثّل حالياً نحو 2% فقط من الإنتاج العالمي للهيدروجين. وكما يشير بعض المنتقدين –وبصورة محقة- فإن الوضع الحالي للهيدروجين أبعد ما يكون عن المثالي، وأمامنا الكثير مما يجب فعله.
على سبيل المثال، فإن مجموع الهيدروجين الرمادي من الغاز والهيدروجين البني والأسود من الفحم يمثّل 3% تقريباً من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة. وهو ما يكافئ إجمالي انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون من المملكة المتحدة وإندونيسيا. ويذكر منتقدون آخرون أنه يفضل استخدام الطاقة الخضراء بصورة مباشرة بدلاً من تحويلها إلى هيدروجين. ويمكن أن يمثّل الهيدروجين الأزرق (الذي يتم إنتاجه من الغاز الطبيعي مع اعتماد تقنية التقاط الكربون وتخزينه) خطوة وسطية تفيد عندما يكون من غير المتاح بعد اعتماد المقاربة الخضراء المباشرة. وفي هذه الحالة، يمكن استخدام حلول التقاط الكربون وتخزينه عند استخدام الوقود الأحفوري، وذلك لاحتواء انبعاثات الكربون الناجمة عن عملية الإنتاج. ولكن هذه الحلول لم تثبت فعاليتها على نطاق واسع بعد.
وحالياً، نجد أنفسنا مضطرين للإجابة عن السؤال التالي: هل نشهد موجة جديدة من الضجيج الإعلامي حول الهيدروجين؟
هل نشهد ضجيجاً إعلاميّاً حول الهيدروجين؟
فقد ركزت الموجة الأولى بشكل أساسي على الأبحاث التي وصلت إلى ذروتها في 2008. ويقدم سايمون بينيت، وهو محلل مختص بالتكنولوجيا في الوكالة الدولية للطاقة، مقارنة متفائلة. فقد شهدت المملكة المتحدة في الأربعينيات ذروة من الهوس بالسكك الحديدية، حيث وصلت أسعار الأسهم إلى مستويات مرتفعة للغاية، وتم اقتراح مد آلاف الكيلومترات من السكك، إلا أن هذه الموجة انتهت أيضاً.
اقرأ أيضاً: قطاع النفط والغاز: فرصة الهيدروجين النظيف للبلدان الغنية بالهيدروكربونات
ولكن هذا حدث بعدما تبين عدم الحاجة إلى استكمال نسبة الثلث تقريباً من السكك الحديدية التي تم التخطيط لمدها، فقد كانت السكك المكتملة كافية لاحتياجات السفر. وتمكنت هذه الخطوط من تلبية الطلب لفترة معينة. ويقول بينيت: "من المحتمل أن ما يجري الآن شبيه بالفقاعة، ولكن يمكننا القول إن هذه الفقاعة ضرورية لتوطيد القطاع". ومن المؤكد أن هذا القطاع، خصوصاً القسم الأخضر منه، يحتاج إلى المزيد من الترسيخ والتوسيع لإحداث تأثير حقيقي.
وبالتالي، فإن عودة الهيدروجين إلى الواجهة تمثّل عاملاً إيجابياً للغاية. ويعود هذا بشكل أساسي إلى أن كلاً من التركيز على الهيدروجين الأخضر والمضي به قدماً، والأهداف المقترنة به، مرتبط بالتحول الإجمالي نحو الطاقة الخضراء. فهذا القطاع يتطور في ظل موجة التسارع التي تشهدها الأبحاث والاستثمارات الموجهة نحو الانتقال العالمي إلى محفظة مشاريع أكثر تركيزاً على الطاقات المتجددة للكثير من البلدان، وللعالم بشكل عام.
وبالنسبة للشرق الأوسط، فإن الهيدروجين مسألة جديدة للغاية. فقد بدأ بناء أول معمل للهيدروجين الأخضر في الشرق الأوسط في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2021 في دولة الإمارات العربية المتحدة. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، فإن الانتقال إلى التنويع في مصادر الطاقة ما زال أمراً صعباً. فما زال النفط يشكل 60%-95% من الميزانية الوطنية، حيث تختلف النسبة باختلاف البلد ضمن هذه المنطقة. وقد كانت العائدات التي يؤمّنها النفط عائقاً أمام تسريع الانتقال إلى تنويع مصادر الطاقة. ولكن طموحات التنويع السابقة لم تكن واضحة كما هي الآن.
اقرأ أيضاً: لماذا يمثل الهيدروجين الأخضر بديلاً جذاباً للوقود الأحفوري؟
وعلى الرغم من هذا، فإن الشرق الأوسط، وبفضل عائده الفائق من الطاقة على الاستثمار، يتمتع بكل المقومات الفريدة اللازمة لرفع النسبة المئوية العالمية للهيدروجين الأخضر بدرجة كبيرة. إضافة إلى هذا، فإن المنطقة قادرة على تأمين تمويل ضخم بفضل عائدات قطاعي النفط والغاز، فصناديق الثروة السيادية تؤمّن موارد مالية ضخمة. ومن الأمثلة على هذا: صندوق الاستثمارات العامة للمملكة العربية السعودية، والهيئة العامة الكويتية للاستثمار، وجهاز قطر للاستثمار، والتي يدير كل منها مبالغ تصل على الترتيب إلى 500 و700 و450 مليار دولار.
إن التحول السريع من تحديد الفرص إلى الاستثمار من قبل هذه الصناديق السيادية يُظهر علاقة مختلفة بين الدولة والسوق مقارنة بنظيراتها الأوروبية، مع الحاجة إلى الأخذ بعين الاعتبار الاستثمارات الثورية من أجل المستقبل، التي بدأت تبرز كأرضية مشتركة. فالتمويل وحده ليس ميزة تنافسية، ولكن الاستثمارات الجريئة وبعيدة المدى والبنى التحتية طويلة الأمد ستقود مستقبل الميزة التنافسية والتميز في مجال الطاقة. وهو ما يحدث ضمن المنطقة الأوروبية وبلدان الشرق الأوسط في الوقت نفسه. لقد بدأ السباق.
اقرا أيضاً: تعرف على مشروع طاقة الرياح «دومة الجندل» في السعودية
أما الخلاصة فهي أن الهيدروجين الأخضر استعاد مكانته في خضم السعي العالمي المتزايد نحو الطاقات المتجددة. وبالتالي، فإن إنشاء استثمارات ضخمة في الهيدروجين يصب في صالح الشرق الأوسط بشكل مباشر. ولكن الهيدروجين الأخضر يتميز بأنه يقدم فرصة ممكنة للتعاون بين البلدان التي تسعى إلى تنويع مصادر الطاقة، وذلك عن طريق التشارك في الأبحاث التكنولوجية في مرحلة ما قبل المنافسة، فالأبحاث المشتركة يمكنها تسريع عملية تنويع مصادر الطاقة، وتحسين فرص التنمية الإقليمية الشاملة.
لقد بدأ العالم يتحول إلى مصادر الطاقة المستدامة بوتيرة متسارعة، وستساعد هذه النقلة أيضاً على تخفيف الآثار الحرارية في منطقة مشهورة بمناخها القاسي. وفي نهاية المطاف، مهما كان شكل التوزع العالمي لإنتاج الطاقة، فإنه سيحدد ملامح توزع مراكز القوى العالمية. وبالتالي، فإن الهيدروجين الأخضر سيجتذب المزيد من التركيز على الشرق الأوسط، بشكل أو بآخر.