لم تكُن لدى وليد الميداني، وهو شاب تونسي شغوف بالألعاب، أي ميزانية لإطلاق شركته الناشئة عندما بدأ العمل عليها (مع مجموعة من زملائه) قبل 10 سنواتٍ تقريباً. وقد وافقَ والده على دعم "الشركة" بإعطائهم مكتباً مجانياً ليعملوا منه، وأصبحوا يتقاضون مصروفاً متواضعاً جداً مقداره 5 دنانير تونسية، أو دولارين تقريباً حينذاك، لشراء بعض الطّعام والشراب لأنفسهم مقابل التفرّغ صباحاً ومساءً لصناعة ألعاب الفيديو. مرَّت سنتان كاملتان على هذه الحال حتى أصدر "ستوديو ديجيتال مانيا" (DigitalMania Studio) لعبته الأولى، التي باءت بالفشل الكبير تجارياً ومالياً. لكن هذه التجربة المحبطة لم تُثنِ وليد ورفاقه عن متابعة العمل لتحقيق شغفهم في جلب ألعاب الفيديو التونسية إلى السوق العالمي.
من لاعبٍ إلى صانع
يقول وليد الميداني -وهو مؤسِّس الشركة- في حوار مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو: "ترعرتُ في عائلةٍ محبّة للتقنية، فقد كان والدي يعمل في شركة لتقنية المعلومات، ووالدتي كانت مسؤولة عن تقنية المعلومات في أحد البنوك. ولكوني مولوداً في بداية الثمانينيات فقد عشتُ مراهقتي محاطاً بالتطوّرات التكنولوجية، وأهمّها شبكة الإنترنت وصعودها في التسعينيات".
دخل الميداني "كلية إسبري للهندسة" في تونس العاصمة عند تأسيسها سنة 2003، وذلك برفقة 30 طالباً آخر مُسجَّلين فيها فقط (رغم أن عدد طلبة الكلية الآن يتجاوزُ 10,000). ويعزو الميداني جانباً كبيراً من نجاحه إلى فرصة الدراسة فيها.
وهو يقول: "ما ميَّز كلية إسبري عن كلّ الجامعات الأخرى هي (الروح) التي أراد مؤسّسوها إعطاءها للطلبة. فقد كان من المسموح لنا أن نفعل أي شيء نريده، وبإمكاننا أن ندخل الجامعة في أي وقتٍ لنُجرّب ونكتشف، نفشل ونتعلّم من فشلنا"، وهو ما سمح لهُ بالبقاء لساعاتٍ متأخّرة في المساء بصحبة أصدقائه ليتعلّم البرمجة ويتعرّف إلى ألعاب الحاسوب، التي استحوذت على اهتمامه في فترةٍ قصيرة.
ويضيف: “سرعان ما تعبتُ أنا وثلاثة من أصدقائي من اللعب مع زملائنا في الجامعة، وهم ليسوا أكثر من 30 أو 60 شخصاً، فقرَّرنا إقامة منافسة لألعاب الفيديو بين الجامعات التونسية باسم (كأس تونس للرياضة الإلكترونية)"، وقد تحوَّلت إلى مسابقة كبيرة انضمَّ إليها أكثر من 15,000 شخص بين جمهور ولاعبين.
ولكن هذا الحدث توقّف في سنة 2008 بعد الأزمة المالية العالمية، التي دفعت شركات الألعاب إلى حظر تنظيم المنافسات على الهواة، وهو ما سبَّب شعوراً بالإحباط الشديد لوليد. وهو يعلق على هذا بقوله: "كانت لدينا المهارة والقدرة اللازمة لتنظيم نشاطات ضخمة جداً لألعاب الفيديو، لكننا لم نكُن نملكُ الألعاب نفسها، ولذلك قررتُ أن عليَّ صناعة الألعاب التي أريدها بنفسي".
رحلة تعلّم
قيل لنا إننا مجانين، فما نفعلهُ (ليس عملاً بل لعب أطفال)، لكننا لم نبالِ بذلك.
- وليد الميداني، المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة.
لم يكُن الميداني قد تعلَّم برمجة الألعاب قطّ، فاختصاصه الجامعي هو هندسة أنظمة التشغيل والشبكات، وبسبب انعدام صناعة الألعاب في بلده تونس وضعف ثقافة الاستثمار في الشركات الناشئة، فقد تراءت لهُ استحالة تمويل مشروعه من أيّ مصدرٍ سوى ماله الخاص. وبهذا بدأ هو وخمسة من أصدقائه في العمل ليلاً ونهاراً على لعبتهم الأولى، بمالٍ لا يكفيهم إلا لشراء سندويشة ومشروب، لمدّة عامين كاملين.
يقول الميداني: "كانت هاتان السنتان من أفضل سنوات حياتي. صحيحٌ أنه لم يكن بحوزتنا أيّ مال، لكننا كنّا نبني مشروعاً يخصّنا من الصّفر، وكُنّا نتعلَّم في كلّ يومٍ شيئاً جديداً. وقد قيل لنا إننا مجانين، فما نفعلهُ (ليس عملاً بل لعب أطفال)، لكننا لم نبالِ بذلك". وقد نجحَ مع زملائه في إطلاق الشركة الرسمية في سنة 2011، وعملوا لمدة سنة ونصف بعدها على صُنع لعبتهم الأصلية الأولى، واسمها Defendoor.
عملَ الفريق على اللعبة بحماسةٍ كبيرة، فقد أرادوا لها أن تعكسَ الثقافة التونسية الفريدة وأن تُعرّف العالم بها، وملؤها باستعارات وأمثال من اللهجة الدارجة. وقد كان الميداني مؤمناً بنجاح اللعبة المرتقب بحيثُ أنه صرفَ عليها كلّ رأس مال الشركة، الذي نالوه من قرضٍ بنكي. ونُشِرَت اللعبة في 12 من شهر ديسمبر سنة 2012، ولم تستقبل إلا عدداً محدوداً من اللاعبين، وانتهت بخسارة مالية هائلة.
ويعلق الميداني على هذا بقوله: "كانت اللعبة هي التجربة التي تعلَّمنا منها تصميم الألعاب، فقد أنفقنا كلّ ما بحوزتنا من مالٍ لنتعلَّم كيفية صناعة الألعاب. فهي لم تكُن صفقةً رابحةً لحظياً، لكننا أظهرنا منها للعالم ما نستطيع صنعه".
اتّجهت شركة ديجيتال مانيا، بعد هذه التجربة السيئة، نحو صناعة الألعاب تجارياً. ففي تلك الفترة، كان الطلب مرتفعاً على ألعاب الهاتف المحمول التي تساعدُ الشركات في الدعاية لنفسها وترويج منتجاتها، وقد استغلَّ الميداني وزملاؤه هذا الأمر، إذ بدؤوا بتطوير الكثير من الألعاب لهذه الشركات (التي درَّت عليهم الرّبح) واستثمروا ما جنوه منها في تطوير ألعاب أصلية خاصّة بهم. وبعد فترة، أدركوا أنَّ الاتجاه الثاني هو ما يرغبون في العملِ عليه فعلاً.
انطلاقة جديدة لألعاب الفيديو التونسية
يقول الميداني: "لقد كانت هذه الفترة صعبةً لنا، ليس على الصعيد المالي، وإنَّما المعنوي؛ فقد شعرنا بأننا نفقدُ روح الشركة وثقافتها. وحدث شيء حينها، وهو أننا تلقَّينا عرضاً من شركة ألعاب أوروبية كبيرة لشراء ديجيتال مانيا. وهو أمرٌ اضطررنا للتفكير فيه داخل الفريق لمدة 6 شهور. وقد فشلت الصفقة في النهاية لأسبابٍ متعدّدة".
إلا أنَّها جاءت بتغييرٍ كبيرٍ جداً له على الصعيد الشخصي، فقد جعلتهُ "يقعُ في حبّ شركته" مرة أخرى، ويؤمن بأهمية الدور الذي تقومُ به والمنتجات التي تعملُ عليها. ولهذا عاد ستوديو ديجيتال مانيا لصناعة ألعابٍ أصلية بدلاً من إنتاج الألعاب تجارياً.
عادت الشركة بقوَّة إلى إنتاجاتها الأصلية، التي كانت من أولها لعبة "تونس 2050"، وهي لعبةٌ مقتبسةٌ عن مسلسلٍ هزليّ من 4 مواسم يعرضُ صورةً خيالية عن مدينة تونس العاصمة بعد 30 عاماً. عكست اللعبة ثقافتها المحلية بصورة قويَّة، وأعيد إنتاجها بلهجاتٍ عربية عدّة، منها الأردنية (بالتعاون مع خرابيش) والفلسطينية والكويتية والسعودية.
وقد أصدرت ديجيتال مانيا مؤخراً واحدةً من أهمّ ألعابها الهادفة، وهي "الحلقة المفرغة" (Infinite Loop)، التي تعد أول لعبةٍ تعتمدُ على تقنية الواقع الافتراضي في تطوير مهارات التعاون والفريق في بيئة العمل؛ فهي تُحفّز اللاعبين على أخذ المخاطر وتطوير قدرتهم على العمل المشترك للفوز على الفريق المنافس. ويلعبُ اللعبة الآن أكثر من 5,000 مستفيدٍ في 17 دولة، وهو إنجازٌ كبيرٌ بالنظر إلى أنَّ اللعبة موجّهة نحو سوق العمل الاحترافي فقط.
أكملت ديجيتال مانيا منذ تأسيسها 128 لعبة، وهو عددٌ هائلٌ بالنسبة لأستوديو صغير من 22 شخصاً وفي بلدٍ نامٍ اقتصادياً، رغم أن قسماً من هذه الألعاب فقط منشورٌ لعموم الجمهور حالياً. وتعملُ الشركة الآن على مشروعها الكبير القادم: لعبة "وورشميلوز" (Warshmallows)، التي سيُوظّف فيها أعضاء فريق ديجيتال مانيا كُلَّ ما جمعوه من خبرة ومعرفة خلال السنوات السبعة الماضية، رغم أن معظم تفاصيل اللعبة ما زالت غير معلنة.
كما ينظرُ الميداني إلى المستقبل بتفاؤل، إذ إنَّه ينسبُ نجاحات الشركة الماضية والقادمة إلى فريقه، الذي لا يزال متّقداً بالطاقة لإخراج ألعاب مبدعة وناجحةٍ من السوق العربي إلى الجمهور العالمي.