تعتبر معضلة السجين واحدة من أكثر المسائل المستخدمة في نظرية الألعاب. تتضمن هذه التجربة الذهنية لاعبين -أليس وبوب- ارتكبا جريمة وتم اعتقالهما، ثم تم عزلهما عن بعضهما البعض لمنعهما من التواصل، وبعد ذلك عُرضت صفقة على كل منهما للوشاية بالآخر. غير أن تحديد نتيجة الوشاية أمر معقد بعض الشيء، فإذا وشى أحد اللاعبين بالآخر ولم يفعل الآخر ذلك، سيُطلق سراح الواشي ويمضي الآخر ستة أشهر في السجن. أما إذا وشى الاثنان ببعضهما، سيمضي كلاهما ثلاثة أشهر في السجن، ولكن إذا تعاون الاثنان مع بعضهما البعض وبقيا صامتين، سيمضي الاثنان شهراً واحداً في السجن.
ما هي أفضل إستراتيجية للاعب؟ أهي التعاون مع اللاعب الآخر والصمت، أم التخلي عنه والوشاية به؟
لطالما دُرست الإستراتيجيات المختلفة في هذه اللعبة بالتفصيل الممل من قِبل الاقتصاديين وعلماء البيولوجيا المختصين بالتطور ومختصي نظرية الألعاب. ويعلمون أنه في حالة اللعب لمرة واحدة، فإن أفضل إستراتيجية هي الوشاية، لأنها تضمن أن هذا اللاعب لن ينال أطول فترة سجن.
ولكن إذا كُررت اللعبة، يمكن للاعب أن يستفيد من خبرته لتطوير إستراتيجيات جديدة، مثل السعي إلى الانتقام أو تعلم التعاون. وبالفعل، فإن ما تُسمى معضلة السجين المتكررة تبين كيف تطور السلوك التعاوني بالنسبة للمخلوقات الاجتماعية، وهو ما أدى إلى حل مشكلة هامة بالنسبة لعلماء البيولوجيا المختصين بالتطور.
هناك سؤال آخر لم نجد له إجابة حتى الآن، وهو عن كيفية تطور الاستغلال في المجتمع، أي: كيف انتهى المطاف ببعض الأفراد إلى استغلال الآخرين لفائدتهم الخاصة؟
وإحدى الإجابات الواضحة هي أنه يمكن للأفراد الأقوياء استغلال الضعفاء اعتماداً على قوتهم وحسب، ولكن هذا يشير إلى أن السلوك الاستغلالي لا يمكن أن يظهر بين الأفراد المتساوين، غير أن المستوى الكبير والانتشار الواسع للاستغلال يقترح أن هذا ما يجب أن يحدث بالضبط. لكن كيف؟
حصلنا على إجابة عن هذا السؤال بفضل عمل يوما فوجيموتوا وكونيهيكو كانيكو في جامعة طوكيو باليابان؛ فقد استخدم هذان الباحثان معضلة السجين المتكررة حتى يبيِّنا كيف يمكن لأحد اللاعبين أن يستغل الآخر ليحصل على نتيجة أفضل، كما بيَّنا السبب الذي يدعو اللاعب المُستَغَلَّ إلى التعاون مع عملية الاستغلال للوصول إلى إستراتيجية مستقرة.
ولنبدأ ببعض المعلومات الأساسية. ففي 2012، اكتشف أخصائيو نظرية الألعاب إستراتيجية في معضلة السجين المتكررة تضمن لأحد اللاعبين نتيجة أفضل من اللاعب الآخر. أما الظروف المحددة التي تسمح بحدوث هذا فهي عندما يتعلم أحد اللاعبين (أليس) من الألعاب السابقة، في حين أن الآخر (بوب) لا يتعلم ويتابع اللعب بنفس الإستراتيجية. وعندما يحدث هذا، يمكن للأول أن يستغل الثاني للحصول على نتيجة أفضل مع مرور الوقت.
وكانت هذه النتيجة مفاجأة أشبه بالقنبلة بالنسبة لأخصائيي نظرية الألعاب، الذين لطالما افترضوا أن تكافؤ النتائج بين الطرفين أمر محتوم. وبالفعل، فإن الكثير من التكتيكات في العالم الحقيقي مبنية على هذا الأسلوب في التفكير، خصوصاً الإستراتيجيات السياسية ذات المخاطرات العالية، التي يستطيع فيها أي من الطرفين تدمير الآخر تماماً، والتي يمكن أن يتوقف عليها مصير الكوكب بأسره. لقد انتشرت هزة كبيرة في أوساط نظرية الألعاب عند اكتشاف إمكانية تلاعب أحد اللاعبين بالآخر خفية.
ولكن في المحصلة، طمأن أخصائيو نظرية الألعاب أنفسَهم بفكرة تقول إن كلا الطرفين في العالم الحقيقي سيتعلمان ولا بد من التجارب السابقة، أي أنه لن يقع أحد ضحية لهذا السيناريو. غير أن الباحثَين بيَّنا الآن أن هذا غير صحيح؛ فقد درسا لعبة في معضلة السجين المتكررة يتعلم فيها كلا اللاعبين من التجارب السابقة ويكيفان إستراتيجيتيهما وفقاً لذلك، وقد توصلا إلى نتيجة هامة تقول إن من الممكن حتى في هذه الظروف أن يتمكن أحد اللاعبين من استغلال الآخر للحصول على نتيجة أفضل. يقول الباحثان: "لقد بيّنّا عددياً وتحليلياً أن من الممكن وجود علاقة استغلالية حتى في وجود ديناميكيات متناظرة في الإستراتيجية وتناظر في الدور في اللعب". ومن المثير للاهتمام أن هذه الإستراتيجية مستقرة، كما يضيف الباحثان: "إن علاقة الاستغلال هذه تتصف بالاستقرار، على الرغم من أن اللاعب المُستَغَل -الذي يحصل على نتائج أقل من اللاعب الذي استغله- قام بأمثَلَة إستراتيجيته الخاصة".
أما السؤال الواضح فهو: كيف يمكن أن يظهر هذا السيناريو؟ والجواب يقول إن هذا يعتمد على الشروط الابتدائية للعبة. وقد بيَّن الباحثان فوجيموتوا وكانيكو أنه عندما تتعلم أليس إستراتيجية بوب، يمكن أن تستغل سلوكه لتحصل على أفضل نتيجة لنفسها، ولكنها يمكن أن تضمن تعاون بوب بأن تحرص على أن إستراتيجيته تقدم له نتيجة أفضل. وعلى سبيل المثال، يمكن في بعض الظروف أن تضمن أليس أن بوب سيحصل على نتيجة أفضل مما سيحصل عليه عند وشاية كلا اللاعبين. ولهذا سيكون لدى بوب حافز لقبول الاستغلال، على الرغم من أن أليس تحصل على نتيجة أفضل منه. يقول الباحثان: "بهذه الطريقة، تصبح علاقة الاستغلال مستقرة بالنسبة لكلا اللاعبين".
وبطبيعة الحال هناك نتائج أخرى محتملة أيضاً، مثل تأرجح السلوك الاستغلالي بين اللاعبين. وبالفعل، يمكن أن تكون النتائج معقدة وتعتمد بشكل حساس على الشروط الابتدائية. ولكن النتيجة الأساسية هي أن الاستغلال نفسه قد يمثل إستراتيجية مستقرة لأنه يؤمِّن نتيجة أفضل لكلا اللاعبين.
ويبين هذا العمل الممتاز أن الاستغلال يمكن أن يظهر حتى عندما يبدو كلا اللاعبين متكافئين وتكون الظروف والقواعد متناظرة.
يبدو إذن أن الاستغلال خاصية حتمية في نظام يمكن أن تظهر فيه سيناريوهات مشابهة في معضلة السجين، أي أنه خاصية أساسية في المجتمع البشري. يقول الباحثان: "تقدم هذه الدراسة وجهة نظر جديدة حول أصل الاستغلال في المجتمع".
غير أن هذا لا يقتضي القبول بوضع مماثل، ويجب أن تجيب الأعمال في هذا المجال عن سؤال آخر، وهو كيفية تجنب الاستغلال أو الإستراتيجية التي يجب أن يتبعها الأفراد الذين تم استغلالهم لتغيير وضعهم، وهو عمل يجب أن يقوم به أخصائيو نظرية الألعاب دون شك.
مرجع: arxiv.org/abs/1905.06602:
ظهور الاستغلال مع انهيار التناظر في معضلة السجين المتكررة.