من أجل كافة الأطوال الموجية تقريباً، يمتلك المهندسون هوائيات كهرطيسية يمكنها كشف الموجات وتسجيلها وتشكيل صور غريبة للعالم عند الترددات الراديوية، والميكروية، وتحت الحمراء، والمرئية، والسينية.
إلا أن هذا الطيف الموجي يتضمن بقعة عمياء. فما زالت التكنولوجيا في مراحلها الأولى للكشف عن الأشعة التي تتراوح طول موجتها بين 1 ملليمتر و0.3 ملليمتر، ويبلغ ترددها حوالي 1 تيراهيرتز. وتتصف الأجهزة التي يمكنها الكشف عن مثل هذه الأشعة بأنها كبيرة الحجم وباهظة الكلفة، وبأن الصور الناتجة عنها رديئة أيضاً. وهذا هو السبب الكامن وراء "البقعة العمياء" التي يطلق عليها المهندسون اسم فجوة تيراهيرتز.
وهناك حاجة ماسة لإيجاد طريقة أفضل لالتقاط هذه الأطوال الموجية، ولا سيما من أجل الحصول على نافذة جديدة ننظر من خلالها إلى الكون.
واليوم يصف مارتن برجر في جامعة مونستر بألمانيا وبضعة من زملائه تقنية التصوير الجديدة الثورية -الاستشعار المنضغط- المصممة لزيادة سهولة الوصول إلى هذا الجزء من الطيف الكهرطيسي. ومن المرجح لتطبيق التقنية على موجات تيراهيرتز أن يغير الطريقة التي نرى بها عالمنا والكون الممتد من ورائه. دعونا في البداية نتطرق إلى بعض المعلومات الأساسية.
تمر موجات تيراهيرتز عبر الملابس ولكن ليس عبر الجلد أو المعادن. فلو كانت عيناك قادرتين على التقاط مثل هذه الصور، لظهر الناس عراة ولكنهم مزدانون بالمفاتيح والنقود المعدنية، أو حتى ربما بالسكاكين والأسلحة النارية. لذا فإن هذا النوع من التصوير له تطبيقات أمنية هامة، ناهيك عما يترتب عليها من تداعيات تتعلق بالخصوصية.Bottom of Form
يصعب الكشف عن ترددات تيراهيرتز لأنها تتموضع ضمن الطيف الكهرطيسي بين الموجات الميكروية وضوء الأشعة تحت الحمراء، وهناك فرق هام يميز بين الطرق التي يمكن فيها اكتشاف هذه الأنواع من الأشعة.
فالموجات الميكروية، مثل موجات الراديو، يتم توليدها عن طريق مسارعة شحنة معينة باتجاه الأمام والخلف عند التردد المطلوب، الذي يبلغ في هذه الحالة نحو 300 جيجا هيرتز. واكتشاف الموجات الميكروية يعتمد على نفس العملية في الاتجاه المعاكس.
وفي المقابل، فإن موجات الأشعة تحت الحمراء مثل الضوء، يتم توليدها عن طريق جعل إلكترون معين في مادة مناسبة يقفز بين مستويين إلكترونيين. تولد هذه القفزة ضوء الأشعة تحت الحمراء عندما يكون مقدار الطاقة اللازمة لتنفيذها يعادل طاقة فوتون الأشعة تحت الحمراء. ويمكن تنفيذ العملية في الاتجاه المعاكس أيضاً للكشف عن فوتونات الأشعة تحت الحمراء.
ومن الصعب توليد موجات تيراهيرتز والكشف عنها لأنها تقع في منطقة وسطى، حيث لا يمكن لأي من هذه التقنيات أن يعمل بنجاح على وجه الخصوص. من الصعب تسريع الشحنات عند ترددات من مرتبة تيراهيرتز.
كما أن من الصعب العثور على مواد تمتلك فجوة الحزمة الترددية المطلوبة لتوليد فوتونات التيراهيرتز، وبالنسبة للمواد المؤهلة لذلك يجب أن يتم تبريدها إلى درجات حرارة شديدة البرودة، ولهذا السبب تميل أجهزة الكشف عن موجات من مرتبة تيراهيرتز إلى أن تكون ضخمة الحجم، وباهظة الثمن، وتصعب إدارتها.
ولكن الاستشعار المنضغط قد يلعب دوراً مساعداً، كما يقول برجر وزملاؤه؛ ففي السنوات الأخيرة، استحوذت هذه التقنية على عالم التصوير لأنها تسمح لبيكسل وحيد بتسجيل صور عالية الدقة، حتى في التصوير ثلاثي الأبعاد.
وتعمل هذه التقنية عن طريق التوزيع العشوائي للضوء المنعكس عن مشهد معين، ثم تسجيله باستخدام بيكسل واحد. ويمكن إجراء التوزيع العشوائي باستخدام طرق متنوعة، ولكن أحد الأساليب الشائعة هو تمرير الضوء عبر مصفوفة رقمية تسمى المعدّل الضوئي المكاني الذي يعرض نمطاً عشوائياً من البيكسلات الشفافة وعديمة الشفافية. بعد ذلك يتم تكرار عملية التوزيع العشوائي، ويتم تسجيل المجال الضوئي من جديد، ويتم تكرار العملية بأكملها عدة مرات لتوليد العديد من نقاط البيانات.
في البداية، من الصعب أن يدرك المرء كيف يمكن لهذا العمل أن يولد الصورة، ولكن المجال الضوئي يكون عشوائياً في نهاية المطاف؛ إلا أن نقاط البيانات لا تكون عشوائية تماماً. في الواقع، ترتبط كل نقطة من نقاط البيانات مع جميع النقاط الأخرى لأنها تولّدت جميعها من نفس المصدر، وهو المشهد الأصلي. لذلك من خلال العثور على هذا الترابط، يمكن إعادة تشكيل الصورة الأصلية.
وقد تبيّن فيما بعد أن لدى علماء الحاسوب مجموعة متنوعة من الخوارزميات التي يمكنها القيام بهذا النوع من العمليات الحسابية. والحصيلة هي صورة تتمتع بدقة تعتمد على عدد نقاط البيانات المسجلة باستخدام البيكسل؛ فكلما ازداد حجم البيانات، ازدادت دقة الصورة.
هذا العمل يقدم تطبيقاً مباشراً من أجل التصوير باستخدام موجات تيراهيرتز، فقد كانت الطريقة الوحيدة المستخدمة لإنشاء صور ثنائية الأبعاد حتى الآن هي استخدام مصفوفة من كواشف موجات تيراهيرتز، أو إجراء مسح للكاشف الواحد ذهاباً وإياباً لرسم خريطة للمجال الضوئي. وإن أياً من التقنيتين لا يقدم حلاً مرضياً، وذلك بالنظر إلى الحجم غير العملي لكواشف موجات التيراهيرتز.
إلا أن الاستشعار المنضغط يوفر حلاً بديلاً: وذلك باستخدام كاشف وحيد لموجات تيراهيرتز لتسجيل نقاط بيانات متعددة عبر معدّل ضوئي مكاني يقوم بالتوزيع العشوائي لضوء موجات تيراهيرتز. ويعمل هذا الأسلوب بنجاح من أجل الضوء المرئي وضوء الأشعة تحت الحمراء، وقد بدأت مجموعات عديدة باستخدامه بنجاح.
ومع ذلك، فإن ضوء موجات تيراهيرتز يتسبب في بعض التعقيدات الإضافية. فعلى سبيل المثال، ونظراً لأن موجات تيراهيرتز أكبر بثلاثة أضعاف من الموجات البصرية، فإنها تنحرف بسهولة أكبر. إن هذا التأثير وغيره من التأثيرات الأخرى يتسبب في اختلالات تجعل إعادة تشكيل الصور مهمة أصعب بكثير. وهذا هو التحدي المتعلق بإعادة تشكيل الصورة الذي تولى برجر وزملاؤه العمل عليه.
وقد حقق الفريق نتائج رائعة، فقد أظهر كيف يمكن للتقنيات المختلفة أن تحسّن بشكل كبير من جودة الصور الناتجة. يقول الفريق: "يمتلك أسلوب الاستشعار المنضغط بناء على التصوير أحادي البيكسل إمكانات كبيرة لتخفيض زمن القياس والجهد المبذول في التصوير بموجات من مرتبة تيراهيرتز".
ومع ذلك، هناك تحديات في المستقبل. فإحدى المشاكل التي يتضمنها التعامل مع الصور التي تم توليدها انطلاقاً من أكثر من تردد واحد لضوء موجات تيراهيرتز. هذا النوع من التحليل مهم على وجه الخصوص لأنه يوفر معلومات طيفية حول التركيب الكيميائي للموضوع الذي تتضمنه الصورة. فقد يخبرنا على سبيل المثال ما إذا كان المسحوق البلوري الظاهر في الصورة هو دقيق أم أنه نوع من العقاقير.
ولكن هذا يتطلب أنواعاً مختلفة من الأقنعة (طبقات الحجب)، ولذلك يتمثل التحدي في إيجاد أفضل طريقة لإنشاء صورة تتمتع بالمطيافية الفائقة باستخدام أصغر عدد ممكن من الأقنعة.
ومع ذلك، فإن برجر وزملاءه متفائلون بأن الاستشعار المنضغط سوف يسمح بإحراز تقدم سريع في سد فجوة تيراهيرتز في نهاية المطاف.
مرجع: arxiv.org/abs/1903.08893:
طرق إعادة الإنشاء في التصوير أحادي البيكسل باستخدام موجات تيراهيرتز