يقول المثل الشعبي "يخلق من الشبه أربعين". كثيراً ما نستعمل هذا المثل للتعبير عن التعجب عند رؤية شخصين بينهما تشابه كبير دون أن تكون بينهما صلة قرابة.
تخيل لو كان بإمكانك إنشاء توأمك الخاص، نسخة طبق الأصل منك، ولكن هذه النسخة عبارة عن نسخة رقمية تعيش حياة رقمية بحتة.
نعيش اليوم في عصر يتم فيه استنساخ كل موجودات العالم الحقيقية رقمياً من مدن وسيارات ومنازل حتى الأشخاص.
والتوأم الرقمي هو نسخة طبق الأصل من شيء ملموس في العالم الحقيقي، ولكن هذا التوأم تم إنشاؤه لتنفيذ هدف معين كالمساعدة في تطوير النسخة الموجودة في الحياة الواقعية.
اقرأ أيضاً: تكنولوجيا التوأم الرقمي في الشبكات اللاسلكية الناشئة ستجعل المدن الذكية أكثر ذكاءً
استنساخ البشر رقمياً
في بادئ الأمر، كانت هذه التوائم الرقمية مجرد نماذج حاسوبية ثلاثية الأبعاد، ولكن تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) وإنترنت الأشياء (IoT) مكّنت العالم من بناء توائم (نُسخ) رقمية قادرة على التعلم المستمر لتحسين النظير الحقيقي. ستكون الإصدارات الأولية من هذه التوائم الرقمية القادرة على التفكير موجودة على أرض الواقع قبل نهاية العقد الحالي.
ولكن ظهور هذه التوائم الرقمية المفكرة سيحتاج إلى قدر هائل من التفكير الأخلاقي، لأن نسخة طبق الأصل من تفكيرنا يمكن أن تكون مفيدة جداً لأصحاب العمل. بالمقابل ماذا سيحدث إذا أنشأت الشركة التي تعمل بها توأماً رقمياً لك قادراً على التفكير مثلك تماماً كي تستغني عنك وتكتفي بالتوأم الرقمي الذي لا تدفع له أي راتب ولا يطالب بأي إجازات؟
لقد بدأت رحلة توأمة البشر فعلياً، لكنها بداية متعثرة نوعاً ما. منصة الواقع الافتراضي ميتافيرس على سبيل المثال، تمكنت من إعطاء صورتك الرمزية (Avatar) وجهاً مشابهاً لوجهك، وتم تزويد هذه الصورة الرمزية مؤخراً بأرجل لأن هذه التقنية لا تزال في مراحلها المبكرة.
يظل السؤال الأبرز عند التفكير في مستقبل الشخص وتوأمه الرقمي: هل سينجح في الجامعة أمْ سيدخل السجن؟ بالاعتماد على نظرية الطبيعة البشرية مقابل التربية والتي لا تزال موضع جدل. ماذا عن الحظ والأصدقاء والعائلة، وخلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية والبيئة المحيطة بهم؟
لم يحقق الذكاء الاصطناعي نتائج جيدة بعد في التنبؤ بهذه النوعية من الأحداث الاجتماعية الفردية، نظراً لتعقيدها المتأصل، لذلك فإن لدينا طريقاً طويلاً لنقطعه حتى نتمكن من فهم وصياغة حياة الأشخاص من البداية حتى النهاية.
اقرأ أيضاً: تغيّر المناخ يدفع هذه الدولة لإنشاء توأمها الرقمي في الميتافيرس
تطبيقات التوأمة الرقمية في المدن الذكية
يعد استخدام التوائم الرقمية في مجالات تصميم المنتجات، والتوزيع، والتخطيط الحضري، الأكثر تعقيداً والأكثر اتساعاً، حيث نجد في سباقات الفورمولا 1 أن فريقي ماكلارين وريد بول يستخدمان التوائم الرقمية لسيارات السباق الخاصة بهما. كما نشاهد أيضاً أن عملاق التوصيل شركة دي إتش إل (DHL)، تعمل على إنشاء خريطة رقمية لمستودعاتها وسلاسل الإمداد الخاصة بها كي تكون أكثر كفاءة.
أما بالنسبة للمدن، فنجد أن كلاً من شنغهاي وسنغافورة لديهما توائم رقمية تم إنشاؤها للمساعدة في تحسين تصميم وتشغيل المباني وأنظمة النقل والطرق. في سنغافورة، يهدف التوأم الرقمي للمدينة إلى المساعدة في إيجاد طرق جديدة يستخدمها الأشخاص الراغبون في التنقل لتجنب مناطق التلوث البيئي. كما نجد مدناً أخرى تستخدم تقنية التوائم الرقمية لاقتراح مكان بناء بنية تحتية جديدة مثل خطوط مترو الأنفاق. ونلاحظ في الوقت الحالي بناء مدن جديدة في الشرق الأوسط بشكل متزامن في العالم الحقيقي والرقمي مثل نيوم ودبي وقطر.
تقوم بعض شركات العناية الشخصية باستخدام تقنية التوائم الرقمية لتصميم علب أكثر استدامة لحفظ المستحضرات، بدلاً من إنتاج نماذج أولية متعددة، ما يسهم بشكل كبير في تقليل النفايات والمحافظة على البيئة.
كما تعمل شركات أخرى على تصميم مشاريع ابتكارية مستقبلية جديدة رقمياً، مثل الدراجات النارية ذات العجلات العائمة فوق الماء والسيارات الطائرة. يوجد لكل مشروع نموذج أولي مادي تم تنقيحه مسبقاً في الفضاء الرقمي.
اقرأ أيضاً: توظيف تكنولوجيا النانو لتطوير المدن الذكية
قيمة التوائم الرقمية في الرعاية الصحية
أنشأ مشروع القلب الحي لشركة داسو سيستمز (Dassault Systemes) نموذجاً افتراضياً دقيقاً لقلب الإنسان يمكن اختباره وتحليله، ما يسمح للجراحين بتنفيذ سلسلة من سيناريوهات "ماذا لو" لاختبار العضو باستخدام إجراءات وأجهزة طبية مختلفة.
كما يستخدم مستشفى بوسطن للأطفال هذه التقنية حالياً لوضع خطة تفصيلية لاستكشاف وعلاج أمراض القلب الحقيقية للمرضى، بينما يعمل فريق من المهندسين في مستشفى جريت أورموند ستريت في لندن مع الأطباء على تطبيق هذه التقنية لاختبار الأجهزة التي قد تساعد الأطفال الذين يعانون حالات قلبية نادرة صعبة العلاج.
يسهم إجراء التجارب على القلب الرقمي في تقليل الحاجة إلى الاختبار على الحيوانات، ويعد ذلك أحد الجوانب الأكثر إثارة للجدل في البحث العلمي. وتخطط الشركة الآن لإنتاج المزيد من توائم الأعضاء الرقمية، بما في ذلك العين والدماغ.
في مرحلة ما سيكون لدينا جميعاً توأم رقمي يستطيع زيارة الطبيب، ويمكننا بشكل متزايد من تطوير الطب الوقائي، والتأكد من إضفاء طابع شخصي على العلاجات الخاصة بالمرضى.
اقرأ أيضاً: 5 دروس مفيدة للشركات من أبرز قصص التحول الرقمي الناجحة
نسخة كوكب الأرض الرقمية
قد يكون السباق لبناء نسخة رقمية من كوكب الأرض بالكامل أكثر طموحاً وإثارة من استنساخ الأعضاء البشرية.
تدير شركة البرمجيات الأميركية إنفيديا (Nvidia) منصة رقمية تسمى أومنيفيرس (Omniverse)، مصممة لإنشاء عوالم افتراضية وتوائم رقمية، كما يعد أحد أكثر مشاريع هذه الشركة طموحاً هو مشروع بناء صورة رقمية لكوكب الأرض، تسمى إيرث-2 (Earth-2) عبر التقاط صور عالية الدقة لسطح كوكبنا الحقيقي بالكامل.
تستخدم نسخة كوكب الأرض الرقمية مجموعة من نماذج التعلم العميق (Deep Learning) والشبكات العصبونية الاصطناعية (Artificial Neural Networks) لاستنساخ البيئات المختلفة الموجودة على كوكب الأرض رقمياً، لإيجاد حلول لمشكلة التغيّر المناخي.
اقرأ أيضاً: كيف يساعد التحول الرقمي قطاع النفط والغاز على مواجهة الأزمة الحالية في الطاقة؟
في شهر مارس/آذار من العام الماضي، أعلنت المفوضية الأوروبية، بالاشتراك مع وكالة الفضاء الأوروبية، خططها الخاصة لإنشاء توأم رقمي لكوكب الأرض، أطلق عليه اسم ديستينيشن إيرث (Destination Earth).
بحلول نهاية عام 2024، تأمل المفوضية في الحصول على بيانات كافية من عمليات المراقبة والمحاكاة في الوقت الفعلي لتتمكن من بناء توأم رقمي لكوكب الأرض يركز على الفيضانات والجفاف وموجات الحر، إلى جانب الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والانفجارات البركانية وأمواج تسونامي، وذلك لتزويد الدول بخطط ملموسة لإنقاذ الأرواح في مواجهة هذه التحديات المتزايدة.