منذ أكثر من 15 سنة، توصل العلماء في جامعة كيوتو في اليابان إلى اكتشاف مذهل. فقد أضافوا أربعة بروتينات فقط إلى مجموعة من خلايا البشرة، وانتظروا مدة أسبوعين تقريباً، ووجدوا أن بعض الخلايا تعرضت إلى تحول مذهل وغير متوقع، إذ أصبحت شابة مرة أخرى. فقد تحولت هذه الخلايا إلى خلايا جذعية شبه مطابقة للخلايا الموجودة في الأجنة بعمر أيام وحسب، أي في بداية رحلتها في الحياة.
ويستطيع الباحثون، ضمن أطباق التجارب المخبرية على الأقل، استخدام هذه الطريقة لتحويل خلايا البشرة المنهكة المأخوذة من شخص بعمر 110 سنوات، وإعادتها إلى الشباب بحيث تتصرف وكأنها لم تكبر قط.
اقرأ أيضاً: استراتيجية جديدة لإبطاء الشيخوخة تجتاز أول اختبار لها هذا العام
إعادة البرمجة الخلوية
والآن، وبعد أكثر من عقد من الدراسات والتعديل على هذه العملية التي تحمل اسم إعادة البرمجة الخلوية، تقول عدة شركات تكنولوجيا حيوية ومختبرات بحثية إنها توصلت إلى بدايات مثيرة للاهتمام لعملية يمكن أن تكون المدخل إلى تكنولوجيا جديدة وغير مسبوقة لعكس مسار التقدم في العمر. ويقول العلماء إن تقديم جرعات محدودة ومضبوطة من بروتينات إعادة البرمجة إلى الحيوانات المخبرية أدى إلى ظهور أدلة تشير إلى أن هذه العملية تجعل الحيوانات أو بعض أعضائها على الأقل أكثر شباباً.
وفي يونيو/ حزيران، وفي منتجع فاخر في سان دييغو بسعر تذكرة يبلغ 4,000 دولار، اعتلى ريتشارد كلاوسنر، أحد أبرز مؤيدي هذه الفكرة- المنصة، حيث استعرض بيانات من تجارب غير منشورة، والتي أظهرت أن مجموعة من الفئران المريضة عادت إلى وضع صحي جيد بعد تلقي العلاج التجريبي.
وتجرأ كلاوسنر على إطلاق تسمية "التجديد الطبي" على هذه الفكرة، أي أنها طريقة لمعالجة الحيوانات المسنة وجعلها "شابة". يشغل كلاوسنر دور المنظم وكبير العلماء في مختبرات ألتوس لابز (Altos Labs)، وهي شركة بحثية جديدة ممولة بأكثر من 3 مليارات دولار من كبار أثرياء وادي السيليكون وأموال من الخليج العربي. وقد تمكن كلاوسنر وممولوه من جمع العشرات من أهم العلماء –برواتب تبلغ مليون دولار أو أكثر- للعمل على التكنولوجيا التي تطلق عليها الشركة اسم "برمجة التجديد".
اقرأ أيضاً: هل تمنح التكنولوجيا الحيوية الشباب الأبدي للبشر؟
إعادة ضبط ما فوق الجينوم
ويبدو أن هذه التقنية تعمل، جزئياً على الأقل، عن طريق إعادة ضبط ما يسمى "ما فوق الجينوم" (epigenome) إلى حالتها الأصلية، وهي مؤشرات كيميائية على الحمض النووي تتحكم في الجينات التي يتم تفعيلها أو إيقاف عملها داخل الخلية. ومع التقدم في العمر، تنقلب بعض هذه المؤشرات إلى الوضعيات الخاطئة. وتستطيع تكنولوجيا إعادة البرمجة إرجاعها إلى وضعها الطبيعي. ولكنها يمكن أن تؤدي أيضاً إلى تغييرات خطيرة في الخلايا، بما في ذلك التسبب بالسرطان.
وتهدف ألتوس إلى السيطرة على هذه الظاهرة، وفهمها، وتطبيقها في نهاية المطاف كعلاج يمكن أن يقضي على نطاق واسع من الأمراض. وقد يكون هذا ممكناً، كما يقول كلاوسنر، لأن الخلايا الشابة تتمتع بمقاومة أكبر، وتستطيع تحمل الإجهاد البيولوجي بطرق تعجز عنها الخلايا المتقدمة في السن. وتوجد لدى كلاوسنر البيانات التي تشير إلى أن هذه الطريقة حققت النجاح فعلاً. فخلال حديثه، عرض كلاوسنر بعض الشرائح التي تحمل صفة السرية، والتي تقول إن الفئران البدينة تعافت من السكري بعد العلاج، وإن فئراناً أخرى تمكنت من تحمل جرعات من مسكنات الألم بمقادير قاتلة في الحالات الطبيعية، وكل ذلك بفضل جرعة منشطة من التجديد الطبي.
وقال للحضور: "نعتقد أنه أصبح من الممكن عكس اتجاه عقارب الساعة".
كان كلاوسنر يشغل منصب مدير المعهد الوطني للسرطان، كما كان مدير الصحة العالمية في مؤسسة غيتس. وهو من أهم الشخصيات في مجاله، ومن المساهمين في تأسيس بعض من أكبر الاستثمارات في مجال التكنولوجيا الحيوية، مثل شركة اختبار الدم لكشف السرطان غرايل (Grail). ولكن، وحتى بالنسبة له، فإن التجديد تجربة طموحة للغاية. فإذا أصبح من الممكن جعل الخلايا أكثر شباباً وصحة ومقاومة، فستصبح لدينا وسيلة عامة لإيقاف العديد من الأمراض في نفس الوقت. يقول كلاوسنر: "إنها طريقة معاكسة للطب الذي يعتمد على العلاج الموجه".
ينبوع الشباب
لا شك في أن كلمة "تجديد" تبدو مثيرة للشك، تماماً مثل سعي الغزاة الفاتحين خلف حلم لا يظهر سوى على علب مستحضرات التجميل غالية الثمن. ولكن يمكننا أن نرى التجديد إذا أمعنا النظر من حولنا. فالملايين من الأطفال يولدون سنوياً من خلايا البويضات والنطاف المتقدمة في السن من الوالدين. كما أن استنساخ الحيوانات مثال آخر. فعندما قامت النجمة باربارا سترايساند باستنساخ كلبها البالغ من العمر 14 سنة، تم أخذ خلايا من فم ومعدة الكلب، وتحويلها إلى جروين صغيرين يحبان اللعب. هذه جميعاً أمثلة عن إعادة برمجة الخلايا للانتقال من التقدم في السن إلى الشباب، تماماً على غرار الظاهرة التي ترغب الشركات مثل ألتو بالتقاطها وتعليبها وبيعها إلى الآخرين يوماً ما.
وفي الوقت الحالي، ليس لدى أي شخص أدنى فكرة عن شكل هذه العلاجات المستقبلية. يقول البعض إنها ستكون علاجات جينية تضاف إلى الحمض النووي للبشر، على حين يتوقع آخرون أنها ستكون حبوباً كيميائية تقوم بالمطلوب. ويقول أحد مناصري هذه التكنولوجيا، وهو ديفيد سينكلير الذي يدير مختبر أبحاث الشيخوخة في جامعة هارفارد، إنها قد تسمح للناس بالعيش فترة أطول بكثير من أعمارهم الحالية. وقال سينكلير في نفس الحدث الذي تم تنظيمه في كاليفورنيا: "أتوقع أنه سيصبح من الطبيعي يوماً ما أن تذهب إلى الطبيب للحصول على وصفة طبية تعيد جسمك عقداً من الزمن إلى الخلف. ليس هناك ما يمنعنا من العيش 200 سنة".
اقرأ أيضاً: تحذير من أحد العلاجات الجينية الباهظة للشيخوخة
لا وجود سوى لضجيج إعلامي متضخم
إن هذه المزاعم هي التي تثير الكثير من الشكوك. فالمنتقدون لا يرون سوى ضجيج إعلامي متضخم، وثقة زائدة بالنفس، وأسساً علمية ما زالت غير مستقرة. ولكن في هذا العام، ضاعت أصوات المشككين في تدافع المستثمرين. فإضافة إلى ألتوس، والتي حقق تمويلها البالغ 3 مليارات دولار رقماً قياسياً كأكبر تمويل لشركة ناشئة في تاريخ التكنولوجيا الحيوية، فقد قام ملياردير العملات المشفرة، برايان أرمسترونغ، أحد مؤسسي شركة كوين بيس (Coinbase)، بالمساعدة على جمع 105 ملايين دولار لشركته الخاصة لإعادة البرمجة، نيوليميت (NewLimit)، والتي تقول إن مهمتها "زيادة فترة الحياة الصحية للبشر بدرجة كبيرة للغاية". أما ريترو بايوساينسز (Retro Biosciences)، والتي تقول إنها تريد "زيادة فترة الحياة الصحية للبشر بمقدار 10 سنوات"، فقد تمكنت من جمع 180 مليون دولار.
ويتم تخصيص هذه المبالغ الضخمة للاستثمار في هذه الشركات على الرغم من أن العلماء غير متفقين على سبب الشيخوخة. وبالفعل، ليس هناك إجماع حتى على لحظة بدء شيخوخة الحياة. حيث يقول البعض إنها تبدأ منذ لحظة التلقيح، ويعتقد آخرون أنها تبدأ عند الولادة أو بعد البلوغ.
"ليس هناك ما يمنعنا من العيش 200 سنة".
ديفيد سينكلير، جامعة هارفارد
ولكن هذا الغموض هو ما يزيد من جاذبية ظاهرة إعادة البرمجة. ويعترف كلاوسنر أن تفاصيل أسباب نجاح إعادة البرمجة ما زالت "لغزاً مغلقاً بالكامل"، ولكن هذا يمكن أن يساعد على تفسير الاندفاع المفاجئ نحو الاستثمار في الفكرة. فإذا كان الجينوم يحتوي على ينبوع الشباب، فإن أول من يكتشفه سيكون قادراً على تجديد الطب جذرياً، وإحداث ثورة في طريقة علاج العديد من الأمراض التي تنغص حياتنا عند الكبر.
مشروع خيميائي
ولمعرفة مدى واقعية محاضرة كلاوسنر، قدمت تسجيلاً لها إلى المختص بالأجنة والخلايا الجذعية، ألفونسو مارتينيز أرياس. يعمل مارتينيز في مختبر في جامعة بومبيو فابرا، وقد أرسل لي رداً قال فيه إن الادعاءات كانت تنطوي على الكثير من المبالغة والشطط، إلى درجة كادت تفقده السيطرة على نفسه من الضحك. يقول مارتينيز: "لقد كان يتحدث بثقة بالغة، إلى درجة الإيمان، عن موضوع يبدو مثيراً للاهتمام في الوقت الحالي، ولكنه ما زال في بداياته ولا يعتمد على أسس راسخة". ويضيف قائلاً إن كلاوسنر كان يتحدث "كمن أصيب بنشوة بعد شراب منعش".
يقول مارتينيز إن ألتوس تمثل بالنسبة له مشروعاً خيميائياً، أي أنها أشبه بالمشاريع التي كان حكام القرون الوسطى يمولونها بحثاً عن حجر الفلاسفة، وهو المادة التي كانوا يعتقدون أنها قادرة على تحويل الرصاص إلى ذهب، ناهيك عن شفاء جميع الأمراض. ولكن مارتينيز لم يكن سلبياً تماماً. ويقول: "يوجد في ألتوس علماء متمرسون". ويضيف إن الخيميائيين تمكنوا في نهاية المطاف من تحقيق اكتشافات قيمة.
معاملات ياماناكا
إن التقنية الأساسية التي تدرسها ألتوس هي عملية اكتشفها العالم الياباني شينيا ياماناكا -والذي أصبح الآن مستشاراً علمياً للشركة- في 2006. وتستطيع البروتينات الأربعة التي اكتشفها مع طلابه (والتي تحمل الآن اسم "معاملات ياماناكا") أن تتسبب بتحول الخلايا العادية إلى خلايا جذعية فعّالة، تماماً كتلك الموجودة في الأجنة. وبفضل هذا الاكتشاف، حاز على جائزة نوبل في الطب في 2012.
"هل يوجد دليل على نجاح هذا المشروع الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار؟"
مارتن بورش جينسينن، غورديان بايوتكنولوجي
في البداية، تم توظيف اكتشاف ياماناكا لإعادة برمجة الخلايا من المرضى لصنع خلايا جذعية، والتي يمكن استخدامها في محاول تصنيع نسج قابلة للزرع، وخلايا القرنية، والعصبونات. وقد تساءل علماء آخرون عما يمكن أن يحدث عند استخدام معاملات ياماناكا على الحيوانات الحية. وفي 2013، أجرى فريق إسباني هذه التجربة بالضبط، مع نتائج مرعبة. فقد أصيبت الفئران بالأورام المسخية، وهي كتل من النسيج الجنيني الخبيث.
وتكمن مشكلة هذه الفئران التي خضعت إلى إعادة البرمجة في أن هذه العملية لا تجعل الخلايا شابة وحسب، بل تمسح هويتها وتحولها إلى خلايا جذعية جنينية لا تنتمي إلى جسم بالغ. ويقول جو بيت-لاكروا، الرئيس التنفيذي لشركة ريترو ومؤسسها، إن الباحثين بدؤوا بعد ذلك بفترة قصيرة بطرح تساؤل جديد: "هل توجد طريقة ما للفصل بين الظاهرتين، بحيث نزيل الشيخوخة جزئياً دون مسح هوية الخلية، حتى لا يتحول الشخص إلى كتلة من بروتوبلازما الخلايا الجذعية ويموت؟".
اقرأ أيضاً: الشيخوخة: مرض أم عملية بيولوجية مسببة للمرض؟ جدل قديم متجدد
في 2016، قال الباحثون في معهد سولك (Salk) في كاليفورنيا، برئاسة خوان كارلوس إزبيسوا بيلمونت، إن الإجابة قد تكون: نعم. فقد طبقوا تعديلات جينية على بعض الفئران المصابة بالشُّياخ (الشيخوخة المبكرة)، وهو مرض يتسبب بشيخوخة سريعة للغاية، بحيث تقوم خلاياها بتصنيع معاملات ياماناكا، ولكن فقط عند إضافة مكمل غذائي خاص إلى طعامها. وهو ما سمح للعلماء بتفعيل إنتاج المعاملات لفترة محدودة لا تتجاوز بضع ساعات في كل مرة. فعند ترك الجينات فعالة لفترة طويلة، ستصاب الفئران بالسرطان. ولكن باستخدام التفعيل على شكل نبضات محدودة –وهي طريقة أصبحت معروفة باسم إعادة البرمجة الجزئية- أمكن تفادي هذه المشكلة. إضافة إلى ذلك، بدا أن الفئران أصبحت بصحة أفضل، وعاشت فترة أطول بقليل.
كيف تعمل هذه الطريقة؟
يقول كلاوسنر، معتبراً هذا الاكتشاف لحظة مفصلية: "يمكن تجديد حيوية الخلايا، ولكن دون خسارة هويتها، وهو ما يمكن أن يكون أكثر أماناً، وقد تم تطبيق هذه الطريقة الآن على الكثير من الحيوانات. وهي لا تصاب بالسرطان عند عدم تجاوز تفعيل البروتينات لحد معين".
ما زالت تفاصيل ظاهرة إعادة البرمجة الجزئية محط تركيز ألتوس وغيرها من المؤسسات البحثية. وخلال اجتماع عُقد في يونيو/ حزيران في منتجع ماين للتزلج، تحدث العلماء عن دراسات تفصيلية لخلايا إفرادية بأعداد هائلة وصلت إلى العشرات من الآلاف، حيث كانوا يتتبعون بالتفصيل التغيرات التي تطرأ عليها بعد تعرضها إلى جرعات أقل من معاملات ياماناكا، أو مجموعات جزئية منها. وقال باحثون من المملكة المتحدة من المتعاونين مع ألتوس إنهم تمكنوا من تحويل خلايا البشرة لشخص بعمر 53 سنة إلى خلايا شابة مماثلة لما لدى شخص تخرج للتو من الجامعة. وقالوا إن "مرحلة التجديد" هذه تحققت بعد 13 يوماً من التعرض إلى معاملات ياماناكا، ولكن دون أي معالجة إضافية.
ومن الطرق التي لجأ إليها الفريق البريطاني للتحقق من تجدد شباب الخلايا استخدام "ساعة شيخوخة". وهي عبارة عن قياسات تستطيع كشف التعديلات فوق الجينية للحمض النووي، أي العلامات الكيميائية التي تحدد تفعيل أو تثبيط عمل جين معين. (إن أنظمة التحكم فوق الجينية هي أحد العوامل التي تمنح كل خلية هويتها المميزة، فالعصبون الشمي في الأنف لا يحتاج إلى تفعيل نفس الجينات التي تعتمد عليها خلية مفرزة للعصارة الصفراء في الكبد). وبما أن هذه المؤشرات تتعرض خلال الحياة إلى العديد من التغييرات التي تكشف عن وضع الخلية، فمن الممكن تقدير عمر شخص ما أو أي حيوان بدقة سنتين تقريباً بمجرد تفقد مئتين أو ثلاثمئة من هذه المؤشرات.
الرموز المفقودة التي تنظم عملية الشيخوخة
وبسبب الدقة الفائقة إلى درجة مخيفة بعض الشيء لهذه الساعات، إضافة إلى عوامل أخرى، يعتقد العلماء أن الشيخوخة قد تكون ناجمة عن التردي التدريجي للرموز ما فوق الجينية، بشكل مشابه لقرص مدمج تعرض للخدش ولم تعد مساراته سليمة بالكامل عند قراءتها. إنها نظرية جذابة، وعلى وجه الخصوص لأن إعادة البرمجة تقوم بإعادة ضبط هذه المؤشرات إلى حالتها الأصلية بشكل موثوق، فبعد معالجة بسيطة بمعاملات ياماناكا، ستصبح خلية من شخص بعمر 90 سنة مماثلة من حيث التركيبة فوق الجينية لشخص مراهق.
وبالنسبة لكلاوسنر، فإن إمكانية استعادة الخلايا لحالة الشباب ما فوق الجينية أمر مدهش، ومن المرجح أنه مدخل إلى مجالات جديدة في البيولوجيا. وكما يعتقد، فإن "قدرة الخلايا على التحول إلى قرص مدمج جديد من دون أي خدش" يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف "الرموز المفقودة" التي تنظم عملية الشيخوخة بأسرها.
ويقول علماء آخرون إن قدرة ساعات الشيخوخة على قياس التجديد بشكل فعلي ما زالت سؤالاً مفتوحاً، ويعتقدون أن هذا المصطلح أصبح واسع الانتشار بشكل يفتقر إلى الدقة. وبالنسبة لتشارلز برينر، وهو من كبار باحثي المركز الطبي الوطني سيتي أوف هوب (City Of Hope)، فإن الناس قد يقعون ضحية تفكير يدور حول نفسه عند الاحتفال بهذه التغيرات ما فوق الجينية. ويقول: "ليس هناك فرق بين القول إنهم قاموا باستخدام معاملات ياماناكا وإنهم قاموا بتغيير البنية ما فوق الجينية، لأن هذا هو ما تقوم به المعاملات. إنهم يقومون بالترويج لهذه الدراسة كإنجاز ناجح في مجال التجديد، ولكن ليس هناك أساس علمي لهذا. فهم ما زالوا يجهلون كيفية عمل هذا الإجراء. ويجب على الناس ألا يفترضوا أن قياسات الشباب وفق الساعة فوق الجينية تقتضي بالضرورة تحسناً في الصحة أو زيادة في العمر المتوقع".
اقرأ أيضاً: تجميد الجثث بالتبريد: من أفلام الخيال العلمي إلى المختبرات الطبية
وللإجابة عن هذا التساؤل، بدأ المزيد من الباحثين بتطبيق دفعات من معاملات إعادة البرمجة على الفئران في محاولة للتخفيف من أمراض محددة، أو لرؤية ما سيحدث ببساطة. ففي 2020، قال باحثون في هارفارد، بقيادة سينكلير، إن الفئران المعرضة لثلاثة معاملات إعادة برمجة يمكن أن تجدد عصبها البصري وتستعيد البصر بعد تعرض هذا العصب للسحق، وهو شيء لا يستطيع فعله عادة سوى قارض حديث الولادة. وبفضل هذه النتيجة، ظهروا على غلاف مجلة نيتشر (Nature) مع العنوان التالي: "إعادة الزمن إلى الخلف". وقال باحثون آخرون إن إعادة البرمجة الجزئية مكّنت الفئران من تحسين أدائها في اختبار الإمساك (حيث تتعلق بقضبان صغيرة) وتسببت بظهور أدلة تشير إلى تحسن نمو العضلات، بل وحتى تحسن الذاكرة.
حتى الآن، لم يتم تكرار الكثير من هذه الادعاءات الإفرادية للتجديد على الفئران الحية من قبل مختبرات أخرى، ويشك البعض في إمكانية حدوث هذا على الإطلاق. إن قياس المستوى الصحي النسبي للحيوانات أو أنسجتها ليس علماً دقيقاً بالضرورة. وكما في حالة الدراسات غير العمياء (حيث يعرف الباحثون الحيوانات التي تمت معالجتها)، فإن التفكير المتفائل يمكن أن يؤثر على النتائج، خصوصاً إذا كانت هناك المليارات من الدولارات من رؤوس الأموال الاستثمارية على المحك. يقول أستاذ علم الجينات في جامعة ستانفورد، هيرو ناكوتشي: "بصراحة، أشك في إمكانية تكرار نتائج أي من هذه الأبحاث". ويضيف ناكوتشي أنه تمكن أيضاً من تعديل الفئران باستخدام معاملات ياماناكا، ولكنه لم يلحظ أي دلالة على تجدد شبابها. ويشك في أن بعض المزاعم الرنانة "جذابة وتوقيتها جيد" ولكن الأساس العلمي الذي تعتمد عليه "ليس دقيقاً للغاية".
ومن مزاعم التجديد التي تم إطلاقها هذه السنة، والتي اعتبرها برينر مثيرة للقلق، البيان الصحافي الذي نشره معهد سولك في منطقة لاهولا في كاليفورنيا، والذي يقول إن مجموعة من العلماء هناك (والذين انضموا إلى ألتوس لاحقاً) تمكنوا من "عكس مسار عملية التقدم في السن لدى الفئران بأمان وفعالية". وبدا كأنهم يتحدثون عن دواء جاهز للطرح في الأسواق، بدلاً من شكل تجريبي من الهندسة الجينية. أما إزبيسوا بيلمونت، الباحث الرئيسي، والذي يدير حالياً مركز سان دييغو لشركة ألتوس، فقد زعم بشكل مستقل أنه قادر على "إبطاء التقدم في العمر" لدى الحيوانات.
ولكن في الواقع، فإن هذه النتائج لم تكن حاسمة بالقدر الذي تم الترويج له. فلم يرَ الباحثون أي أورام، ولكنهم أحدثوا تغييراً كبيراً في العمر فوق الجيني لاثنين من الأعضاء فقط: الكلى والبشرة. كما ظهر شيء محير آخر بخصوص هذه النتائج، وقد أثار استغراب الباحثين مثل برينر وغيره ممن دققوا البحث. فعلى الرغم من أن فريق سولك ادعى أنه تمكن من إبطاء التقدم في العمر، فإنه لم يعلق حول عمر هذه الفئران التي خضعت لإعادة البرمجة الجزئية. وتشير بعض البيانات في هذا البحث المنشور إلى أن أعمار هذه القوارض لم تكن لافتة للنظر.
وبالفعل، لم تذكر أي مجموعة بحثية أو شركة أي معلومة حول زيادة عمر الفئران الطبيعية بعد تعرضها إلى إعادة البرمجة الجزئية. وهو ما يمكن أن نتوقع أن يقوموا به، إذا كانت نتائج هذا العمل الخيميائي صحيحة. وبالنسبة لجواو بيدرو دي ماغالاس من جامعة بيرمنغهام، فإن هذه الفجوة في البيانات تمثل لغزاً محيراً، بما أنه يعتقد أن مدى تأثير التكنولوجيا على العمر المتوقع "سؤال تبلغ قيمته مليار دولار، وهو تعبير قد يكون أقرب إلى الحقيقة مما يبدو". أما جورج ديلي، وهو من أبرز العلماء المختصين ببيولوجيا الخلايا الجذعية، وعميد كلية الطب في جامعة هارفارد، فقد رد على بحث سولك قائلاً إنه لا يمكن النظر إلى إعادة البرمجة كإجراء مضاد للشيخوخة بشكل فعلي دون "دليل دامغ على وجود هذا التأثير".
اقرأ أيضاً: شركات ناشئة تطور تقنيات تساعد كبار السن على العيش بسعادة وصحة
يقول كبير علماء شركة غورديان بايوتكنولوجي (Gordian Biotechnology) ومؤسس منظمة تقدم المنح المالية، مارتن بورش جينسين: "لا يجب أن نطلق الأكاذيب حول حدوث الشيء الأكثر أهمية في هذه التجارب. وما أقصده هنا هو التالي: هل يوجد دليل على نجاح هذا المشروع الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار؟"
عكس مسار المرض
عندما تم إطلاق ألتوس بشكل رسمي في يناير/ كانون الثاني من عام 2022، بذل كلاوسنر وغيره من المسؤولين التنفيذيين كل ما في وسعهم لإبعاد الشركة عن مفهوم إطالة العمر، ووصل بهم الأمر إلى أنهم قالوا للمراسلين الصحافيين إن ألتوس "ليست شركة لمحاربة الشيخوخة أو إطالة العمر". وقد طالتهم الكثير من التعليقات اللاذعة التي تقول إن المشروع يهدف إلى مساعدة المليارديرات على التملص من الموت. وبدلاً من ذلك، ومنذ البداية، سعت ألتوس إلى ربط نفسها مع فكرة "فترة الحياة الصحية"، والتي تعني إطالة الفترة التي يمضيها الناس بصحة جيدة.
يقول كلاوسنر إن إعادة البرمجة تعد بتأسيس مقاربة تهدف إلى "عكس مسار المرض"، بحيث يمكن استخدامها مع أي شخص بغض النظر عن عمره. وإذا أدت هذه المعالجة إلى إطالة في العمر المتوقع، فسوف تكون عبارة عن "نتيجة عرضية" ناجمة عن تحسن الوضع الصحي، وذلك وفقاً لتعليقات أطلقها رئيس ألتوس، هانز بيشوب.
تسعى ألتوس إلى ربط نفسها مع فكرة "فترة الحياة الصحية"، والتي تعني إطالة الفترة التي يمضيها الناس بصحة جيدة مع تقدمهم في العمر.
حتى إن كلاوسنر قال في رسالة بالبريد الإلكتروني إن الشركة لن تحاول حسم مسألة تأثير إعادة البرمجة على إطالة العمر. وكتب قائلاً: "ليست لدينا نية بإجراء دراسات حول إطالة العمر المتوقع على الإطلاق". وأشار إلى أن التجربة ستكون غير عملية، حيث يستغرق إجراء اختبار كهذا على البشر وقتاً طويلاً للغاية. وبدلاً من ذلك، تأمل ألتوس بإجراء محاولات "محددة للغاية" لعكس مسار أمراض أو إعاقات معينة، باستخدام أطر عمل مألوفة للتجارب السريرية المقبولة من قبل الجهات المنظمة، والجذابة لشركات الأدوية الضخمة.
وبالنسبة لبعض المراقبين، مثل ماغالاس، فإن ألتو تحاول إخفاء عملها على تكنولوجيات مكافحة الشيخوخة تحت غطاء مقبول، على الرغم من أن بعض علماء الشركة نفسها، مثل إزبيسوا بيلمونت، توقعوا أن البشر سيعيشون 130 سنة. يقول ماغالاس: "إنه أسلوب نفسي غريب. فنحن نقول إننا لا نحاول شفاء الشيخوخة، بل زيادة فترة الحياة الصحية لدى البشر. ولكنني أعتقد أنه يجب ألا نشعر بالخجل مما نحاول فعله، وهو إبطاء الشيخوخة. وإذا تمكنا من تحقيق التجديد، فسوف يكون أفضل طريقة للوصول إلى هذا الهدف".
اقرأ أيضاً: تكنولوجيا جديدة تعتمد على كريسبر والذكاء الاصطناعي لإجراء تعديلات جينية وتطوير علاجات مستقبلية
قال لي كلاوسنر إنه يعتقد أن الجدل القائم حول مقارنة مفهومي الحياة الطويلة وفترة الحياة الصحية لن يؤدي إلا إلى "تشتيت التركيز". فمتوسط الحياة لدى الأميركيين يبلغ 77 سنة تقريباً، وهو أقل بعقود كاملة من أطول فترة حياة مسجلة، حيث توفي أكبر شخص معمّر تم تسجيله عن عمر يناهز 122 سنة. وهذا يعني أنه يوجد مجال كبير لزيادة عدد سنوات الحياة الصحية قبل أن يصل أي شخص إلى عمر غير طبيعي. كما أن زيادة العمر المتوقع ليست بالأمر الجديد، فقد تضاعف هذا الرقم تقريباً منذ 1850، ويعود هذا بنسبة كبيرة إلى اللقاحات، والمضادات الحيوية، والتقدم الذي تم إحرازه في مجال الصحة العامة.
يقول كلاوسنر: "ما زال المجال كبيراً أمام زيادة متوسط العمر المتوقع، وهو هدف الطب بشكل عام، سواء أكان عن طريق شفاء السرطان أم عن طريق علاج أمراض القلب".