تواجه المزارعين مستويات متعددة من التحديات، فهناك تحديات تخص الإدارة المزرعية لحساب التكاليف والإيرادات وصنع القرارات في كل مرحلة من زراعة محصول محدد، وصولاً إلى الحصاد والإنتاج. بالإضافة إلى تحديات تواجه المزارع في إدارة العمليات، والتي تتضمن مرحلة ما قبل الزراعة من تهيئة التربة للزراعة ورفع جودتها بإضافة المخصبات لو تطلب الأمر أو مكافحة الآفات إن وجدت، ثم تليها مرحلة غرس البذور أو الشتلات في الموسم المناسب وتقدير الحاجة من الري، ثم حصاد المنتج وتسويقه. وقد يتبدد مجهود المزارعين مع التغيرات غير المتوقعة في حالة الطقس أو إصابة المحصول بآفات زراعية تتطلب سرعة التصرف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ما الحلول التي تقدمها الزراعة الدقيقة؟
في الجانب الآخر، تصنع الزراعة الدقيقة (Precision agriculture) حلولاً وإمكانات مذهلة، فقد عمدت الكثير من الشركات الناشئة إلى تحويل العديد من التحديات إلى فرص استثمارية في المجال الزراعي، من خلال توظيف العلوم الأساسية والأبحاث المخبرية والتقنية. فمن خلال استخدام إنترنت الأشياء وأجهزة الاستشعار، تُجمع البيانات لمراقبة صحة المحاصيل، ويتم استقبال بيانات مراقبة الطقس عبر الأقمار الصناعية، ويتم توفير أدوات تحليل التربة أو الأوراق المأخوذة من المزرعة وربطها بنظام تحليل يستقبله المزارع، ليساهم في اتخاذ القرار الأمثل. ويمكن حصر مكونات الزراعة الدقيقة في مجموعة تكنولوجيات: نظام تحديد المواقع العالمي (Global Positioning System) (GPS)، والتطبيقات المعتمدة على الحاسوب أو الأجهزة الذكية، وتقنية الاستشعار عن بُعد، وتكنولوجيا نظام المعدّل المتغيّر Variable rate technology (VRT).
ولدت الزراعة الدقيقة مع إدخال نظام تحديد المواقع العالمي GPS (Global Positioning System) للجرارات في أوائل التسعينيات، وانتشر اعتماد هذه التقنية على نطاق واسع على مستوى العالم لدرجة أنها ربما تكون المثال الأكثر استخداماً اليوم على الزراعة الدقيقة. حيث كان "جون دير" (John Deere) أول من أدخل هذه التقنية باستخدام بيانات نظام تحديد المواقع العالمي من الأقمار الصناعية.
اقرأ أيضاً: تقنية جديدة في نظام تحديد المواقع العالمي تزيد من دقته
أحدثت تقنية نظام تحديد المواقع العالمي ثورة في ممارسات الزراعة مع توفير العديد من الفوائد والفرص المختلفة للمزارعين. ففي مرحلة الزراعة الأولية وبمساعدة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، يمكن إجراء الزراعة بدقة، حيث يمكن التبليغ عن الموقع والعمق والتباعد المطلوب لزرع البذور.
وتُستخدم بيانات GPS لإنشاء خريطة الإنتاجية التي تساعد في مقارنة توزيع الغلة كل عام داخل الحقل، وبالتالي تساعد المزارعين على فحص المناطق التي لا تنتج أي محصول أو تلك التي تتطلب المزيد من الري. فعلى سبيل المثال، ترسل مستشعرات النظام المغروسة في المزرعة، والتي صممتها شركة سويل تيك Soiltech، بيانات عن الرطوبة ودرجة الحرارة، ويستقبلها المستخدم عبر تطبيق في جهازه الذكي للتحليل واتخاذ القرار، أثناء نمو المحاصيل وتخزينها ونقلها في كل مرحلة، ويمكن بذلك توفير مصاريف الري، والتقليل من تكلفة زيارة المزرعة أو عدد العمال في الحقل.
كما يساعد نظام GPS مع برنامج رسم الخرائط في تنظيم عينات التربة التي تم جمعها من الحقول، حيث يتم استخدام هذه البيانات لتحديد خصائص وظروف التربة التي تعطي معلومات عما إذا كانت التربة مناسبة لنوع معين من المحاصيل أم لا. ومن هذه الفكرة، ابتكرت شركة سكودو Skudu (في جنوب إفريقيا) تقنية تحول التحليل المخبري لعينة من التربة أو الورقة من المزرعة المستهدفة، إلى تقرير مفصّل ودقيق للتنبؤ بالاحتياج الأمثل للأسمدة والمبيدات، ما يوفّر التكلفة الاقتصادية ويخفف من الآثار البيئية للاستخدام المفرط للمخصبات أو المبيدات الزراعية ويساهم في مكافحة التلوث.
كما يمكن استخدام مستشعر المحاصيل المحمول غرين سيكر GreenSeeker والذي تم تطويره في جامعة ولاية أوكلاهوما لاستخدامه في زراعة القمح وتم تكييفه لاحقاً لاستخدامه في محاصيل أخرى مثل الذرة والشعير، فمن خلال الأطوال الموجية للضوء المنعكس من أوراق النبات حيث توجد الأصباغ النباتية، ينتج قيمة فهرس نباتي لفرق معياري تسمى NDVI مرتبطة بكمية الكلوروفيل الورقي، والذي يعد مؤشراً عن كمية النيتروجين. وبناءً على هذه المعلومات، يمكن تحديد معدلات النيتروجين اللازمة والتي تتماشى مع احتياجات المحاصيل وبالتالي تحسين كفاءة التسميد أو إضافة المخصبات الزراعية.
اقرأ أيضاً: كيف ساعد برنامج ترانزيت على تحديد المواقع قبل ظهور جي بي إس؟
وفي مرحلة الحصاد، يعمل نظام تحديد المواقع العالمي للوقت الفعلي (real-time kinematic)(RTK) كنظام توجيه لمعدات الحصاد. حيث يتم إدخال بيانات حرث الحقل بنظام تسجيل GPS، وبالتالي يمكّن برمجة آلة الحصاد لتتبع نفس المسار للزراعة والحصاد والتباعد المطلوب بين المحاصيل.
وهناك أيضاً تقنية المعدّل المتغيّر Variable rate technology (VRT) التي تسمح بتطبيق متغير للبيانات المدخلة للمزارعين والتحكم في كمية المدخلات التي يطبّقونها في موقع معين. وتشمل المكونات الأساسية لهذه التقنية جهاز كمبيوتر وبرنامجاً ووحدة تحكم ونظام تحديد المواقع العالمي التفاضلي Differential Global Positioning System (DGPS). وهناك ثلاث طرق أساسية لاستخدام VRT: المستندة إلى الخريطة والمستندة إلى المستشعر وكذلك الإدخال اليدوي للبيانات. تصل نسبة المزارعين الذين يستخدمون هذه التقنية في أميركا الشمالية إلى 15%، ومن المتوقع أن يستمر استخدامها في النمو بسرعة خلال السنوات الخمس المقبلة.
ومع زيادة اعتماد إنترنت الأشياء (IoT)، وجدت الأتمتة تطبيقها الخاص في الزراعة الدقيقة. حيث تغرس مستشعرات في الحقل لإرسال معلومات في الوقت الفعلي حول ما يحدث، بما في ذلك درجة حرارة الهواء ودرجة حرارة التربة على أعماق مختلفة وهطول الأمطار ورطوبة الأوراق والكلوروفيل وسرعة واتجاه الرياح والرطوبة النسبية والإشعاع الشمسي والضغط الجوي. وبالتالي يصبح المزارعون على دراية بموعد حصاد محاصيلهم، وكمية المياه المستخدمة، وصحة التربة، وما إذا كانت هناك حاجة إلى أي مدخلات إضافية، حيث يتم قياس البيانات وتسجيلها على فترات زمنية محددة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن للتعلم الآلي وأجهزة الاستشعار أن يُسهما في زيادة المحاصيل الزراعية؟
تحدٍ معرفي يواجه انتشار التقنية
ومع الانتشار الواسع للتقنية وازدياد أهمية الزراعة الدقيقة في دعم القرار وتحقيق كفاءة الإدارة المزرعية، يبقى التحدي في توفير أجهزة التقنية لصغار المزارعين، ودعم المزارعين وتزويدهم بالمعرفة في كيفية استخدام التقنية وإدخال البيانات، ونشر المهارات والمعرفة الكافية لفهم البيانات التي يتم جمعها، ومعالجة المعلومات لمساعدة صانعي القرار والمزارعين في الإدارة الفعّالة والمستدامة للحقل. بالإضافة إلى أهمية التثقيف والفوائد المحتملة اقتصادياً وبيئياً.
وعلى مستوى أعلى قد تتعاظم المنفعة، عند توجيه النشاط الزراعي لنظام التحول الرقمي، وتزويده ببيانات تديرها الجهة المسؤولة عن النشاط الزراعي. تتضمن بيانات المزارعين مساحة المزرعة والأنشطة الزراعية وأنواع المحاصيل والإنتاج السنوي وتصنيف المزارع من حيث استخدام التقنية وطبيعة الإنتاج، والذي قد يعين متخذي القرار في الدولة على دعم النشاط الزراعي وتوجيهه نحو محصول يسهم في تحقيق العائد الاقتصادي للمزارعين والاكتفاء على مستوى الدولة والاستدامة والكفاءة في استخدام الموارد.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في تطوير الزراعة التقليدية؟
وكل ذلك ممكن عند تضافر الجهود من الجهات المعنية بالبيئة والمياه والزراعة وتقنية المعلومات والمؤسسات التعليمية.