هل سينتهي دور محطة الفضاء الدولية باعتبارها رمزاً للدبلوماسية العلمية؟

6 دقائق
هل سينتهي دور محطة الفضاء الدولية باعتبارها رمزاً للدبلوماسية العلمية؟
أعضاء طاقم محطة الفضاء الدولية من الولايات المتحدة والإمارات وروسيا في عام 2019. مكسيم شيبنكوف/ غيتي إيميدجيز

أعلنت روسيا أواخر الشهر الماضي، أنها ستنسحب من محطة الفضاء الدولية بعد عام 2024.

لقد عبّر خبراء الفضاء عن مخاوفهم من احتمال حدوث هذا الأمر منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، لذلك لم يكن هذا الإعلان مفاجئاً، ولكنه كان محبطاً مع ذلك.

منذ إطلاقها في عام 1998، كانت محطة الفضاء الدولية بمثابة رمز للدبلوماسية العلمية، وهو مصطلح يعبّر عن تعاون الدول فيما بينها في مجال العلوم من أجل الصالح العام مع تنحية القضايا السياسية جانباً. في الواقع، لا يمكن للمحطة أن تعمل اعتماداً على دولة واحدة فقط؛ إذ يوفر الروس من جانبهم المحركات الدافعة التي تحافظ على المحطة في المدار، بينما يوفر الأميركيون المعدات الكهربائية عليها. يعود هذا الترابط والتعاون المتبادل إلى زمن معاهدة الفضاء الخارجي التي تم توقيعها عام 1967. كانت الخشية من أن ترسل القوى العظمى في العالم أسلحة نووية إلى الفضاء الدافع وراء توقيع الدول، وروسيا والولايات المتحدة من بينها، لهذه المعاهدة.

نصت المعاهدة في البداية على مجموعة من القواعد التي تفرض عدم استخدام الفضاء للأغراض العسكرية، ولكنها تطورت إلى خارطة طريق لنوع من اليوتوبيا العلمية. فبالإضافة إلى تحديد الفضاء الخارجي كمكانٍ مخصص "للأغراض السلمية"، نصت المعاهدة أيضاً على "حرية البحث العلمي في الفضاء الخارجي" و"التعاون الدولي في مثل هذه الأبحاث".

كانت رؤية طموحة حقاً، وبعد الحرب الباردة، أصبحت محطة الفضاء بمثابة ساحة اختبار لهذه الرؤية.

اقرأ أيضاً: ناشطون يستخدمون «برامج احتجاج» مفتوحة المصدر احتجاجاً على الحرب الروسية الأوكرانية

ملاذ للسلام

منذ إطلاق المكون الأول للمحطة إلى مدار الأرض المنخفض عام 1998 حتى اكتمال وحدات المحطة عام 2012، كان هناك سبب للأمل. يقول الباحث المشارك في مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية وأحد مؤسسي مختبر دبلوماسية الفضاء بجامعة ديوك، بنجامين شميت: «يمكننا القول إن وكالتي ناسا وروسكوسموس قد حققتا نهضة عظيمة من حيث التعاون العلمي في مدار الأرض المنخفض. ولكن كما هو الحال دائماً، لا بُدّ من نهاية للأشياء الجيدة، فقد بدأ المدير العام لشركة روسكوسموس، ديميتري روجوزين، في تصعيد التهديدات ضد الشراكة بين الولايات المتحدة وروسيا بطريقة درامية».

بدأ الأمر بتهديدات غامضة بالانسحاب في عام 2014، حيث أدى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم إلى فرض عقوبات أميركية أضرت بقطاعات التكنولوجيا المختلفة في روسيا، بما فيها روسكوسموس. تصاعدت التهديدات في عام 2022 إلى مستويات مقلقة حيث قالت روسيا بأنها ستترك متعمدةً محطة الفضاء تسقط إلى الأرض. لكن أكثر اللحظات رعباً جاءت في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2021 عندما فجّرت روسيا قمراً صناعياً خاصاً بها دون سابق إنذار، ما أجبر أفراد طاقم محطة الفضاء الدولية السبعة على الاحتماء في مركبات العودة الخاصة بهم بعد مرور الحطام الناتج عن التفجير بالقرب من المحطة، وكان من بينهم رائدا فضاء روسيان. 

يقول شميت: «كان حجم الحطام الفضائي هائلاً». يعتقد شميت أن هدف الروس كان ردع الغرب عن دعم أوكرانيا، وكأنهم يقولون «يمكننا إسقاط أقماركم الاصطناعية». ويضيف: «من الواضح أن الروس لم يعودوا مهتمين باستثماراتهم العلمية التعاونية في محطة الفضاء الدولية، ولكن لم يكن من الواضح سبب تعريض رائدي فضاء روسيين للخطر في هذه العملية».

اقرأ أيضاً: ما الدور الذي تلعبه أسلحة الذكاء الاصطناعي في الحرب الروسية الأوكرانية؟

على الرغم من الخلافات والارتباك الحاصل، لم تفقد محطة الفضاء الدولية جاذبيتها كملاذ للعلم والسلام، ولا يزال رواد الفضاء الذين يعيشون فيها يؤمنون بذلك. قبل بضعة أشهر، قال رائد الفضاء الروسي أنطون شكابلروف عن محطة الفضاء الدولية إنها رمز الصداقة والتعاون، أثناء تسليم قيادة المحطة إلى رائد الفضاء الأميركي توماس واشبورن. قال شكابلروف حينها: «هناك مشكلات بيننا على الأرض، لكننا طاقم واحد هنا في المدار».

يعتمد رواد الفضاء الروس والأميركيون على متن محطة الفضاء الدولية على بعضهم بعضاً. إذ يتعين على رواد الفضاء شرب بول بعضهم بعضاً بعد إعادة تدويره للحفاظ على رطوبتهم، وغالباً ما يخلطونه مع مساحيق منكهة. يبدو ذلك منطقياً، إن الاعتقاد بأن المحطة الفضائية في منأى عن الخلافات السياسية الحالية يسمح حتى بهذا النوع من التعاون. 

ماذا يعني ذلك؟ حسناً، إذا كانت محطة الفضاء الدولية يوماً ما رمزاً للدبلوماسية العلمية، فإن ذلك لم يكن أبداً مفيداً بشكل خاص. في الواقع، لا يمكن للبشر الاتفاق في أي مجال بعيداً عن السياسة، حتى لو كان مجالاً بعيداً جداً عن السياسة نفسها. إن المشكلات المتعلقة بالعلوم التي تنشأ على الأرض اليوم في جوهرها سياسية وتتطلب براغماتية لم تسمح بها دائماً المثل العليا لمحطة الفضاء الدولية، أو على الأقل لم تسمح بها لفترة طويلة. وبالتالي تمنحنا هذه المرحلة الفرصة لإعادة النظر في دور محطة الفضاء الدولية واستكشاف الفضاء عموماً في الدبلوماسية العلمية بشكلٍ عام.

اقرأ أيضاً: رواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية يتعقبون مصدر تسرب هوائي غامض آخر

محطة الفضاء الدولية ورمزيتها في الدبلوماسية العلمية

تتجاوز الدبلوماسية العلمية سحر استكشاف الفضاء، والأهم من ذلك، تتجاوز القوى العظمى، الولايات المتحدة وروسيا، التي هيمنت على الفضاء منذ فترة طويلة. تؤثر معظم مشكلات اليوم الأكثر إلحاحاً على البلدان الصغيرة والفقيرة بشكل أكبر، لكن هذه البلدان تمنحني أيضاً أملاً أكبر في مستقبل الدبلوماسية العلمية والمستقبل بشكل عام.

المستقبل كبير بما يكفي ليكون هناك أنواع مختلفة من التعاون الدولي الذي يمكن أن يتكيف مع مختلف الثقافات والسياسات بحيث يمكن للبشر فهم الطبيعة وإدارتها من أجل الصالح العام. هذا ما ناقشناه أنا وزملائي من 6 دول في الخليج العربي في مجلة "ساينس" مؤخراً: نحن بحاجة إلى دبلوماسية علمية براغماتية تتجاوز سياسات اليوم وتقلباتها، سواء للأفضل أو الأسوأ، من أجل غد أفضل. قال أحد الزملاء من العراق ضاحكاً: «ما بعد الصراع؟ قد لا ينتهي الصراع أبداً!».  كانت وجهة نظره أن ذلك لا يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك تعاون علمي.

خذ على سبيل المثال تدمير محيطاتنا. بصفتي عالم بحار وعلى اطلاع مباشر بحال محيطاتنا، فهي ليست بخير مطلقاً. يتعرض نحو 40% من مخزون الأسماك في العالم للصيد الجائر، ويتسبب الشحن في تسميم مساحات شاسعة من المحيطات، ويؤدي ارتفاع درجات حرارة المحيطات إلى إجهاد الحيوانات بشدة، ويربك التغيّر المناخي نظام المحيطات البيئي ويعيد تشكيله، بينما يرتفع مستوى سطح البحر بشكلٍ أسرع مما كان يعتقد العلماء في السابق. 

لأنني أميركي، فأنا محمي من تداعيات هذه التأثيرات أكثر من زملائي الذين يعيشون في بلدان الجنوب العالمي الذين طالبوا بمزيد من الدبلوماسية في التعامل مع المحيطات في مواجهة تغيّر المناخ المتسارع.

دبلوماسية المحيطات ضرورة لا بد منها

يغذي المحيط العالم وينقذ المجتمعات من الفقر. تقدر الأمم المتحدة أن مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية تزود 3 مليارات شخص بنحو 20% من حاجتهم من البروتين الحيواني سنوياً، وتصل هذه النسبة في غرب إفريقيا إلى 60%.  لا تمتلك دول العالم الأكثر اعتماداً على البحر برامج فضائية، لكن بالكاد لدى بعضها برامج بحثية متعلقة بالبحار. 

تعيش دولة الرأس الأخضر، على سبيل المثال، على صيد الأسماك والسياحة المرتبطة بالمحيطات. لقد شاهدت في حزيران/ يونيو مسؤولين من هذا البلد الإفريقي الصغير يأتون إلى واشنطن للتوقيع على اتفاقية تسهّل الآن على علماء البحار من دول الأطلسي الأخرى الأكثر ثراءً مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مساعدة هذه الدولة في الأبحاث حول التهديدات الناشئة في مياهها التي تهبها الحياة. ربما لم يحظَ إعلان تحالف المحيط الأطلسي للبحوث والابتكار (AAORIA) بضجة كبيرة مثل محطة الفضاء الدولية، لكن هذا التحالف يمثل أملاً حقيقياً في أن تمد الدول الغنية يدها إلى الدول الفقيرة لمساعدتها على الحفاظ على مياهها. في الوقت نفسه، تقوم العديد من الدول من جميع أنحاء العالم حالياً بوضع اللمسات الأخيرة على معاهدة جديدة للأمم المتحدة لتوفير حماية أفضل لأعالي البحار، وإنشاء أول إطار ملزم قانونياً لوقف استغلال النظم البيئية للمحيطات والحفاظ عليها.

كما تحاول الدول الفقيرة تجربة نماذج جديدة من الدبلوماسية العلمية بطريقتها الخاصة. وسعت الدول الإفريقية -بمساعدة منظمة شارك في تأسيسها نيلسون مانديلا- من جهود الحفاظ على مساحات شاسعة من الأرض والمحيطات فيما يُدعى بـ"حدائق السلام" (peace parks). تخيل أن دولتين بينهما توتر سياسي يمكنهما القيام بحماية مورد مشترك بحجم ولاية رود آيلاند. في المناطق التي دمرها نشاط الصيد الأجنبي غير القانوني، مثل الحدود البحرية بين جنوب إفريقيا وموزمبيق، حدد هذا العمل نقاطاً مضيئة لدبلوماسية المحيطات وحماية مخزون الأسماك، مع إفساح المجال لسيناريوهات محتملة حيث لا تتوافق البلدان دائماً. حتى إن هناك حديقة سلام بحرية بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية.

اقرأ أيضاً: ما الدور الذي يؤديه الذكاء الاصطناعي في صناعة الفضاء؟

ما زال مستقبل الدبلوماسية في الفضاء غامضاً. تعد اليابان وكندا ووكالة الفضاء الأوروبية أيضاً شركاء أساسيين في محطة الفضاء الدولية، وقد زار المحطة رواد فضاء من 18 دولة. وفقاً لأسوشيتد برس، فإن وكالة ناسا تتعاون مع شركات خاصة لاستبدال محطة الفضاء الدولية بمحطات فضائية تجارية. علاوة على ذلك، يشكك البعض في أن إعلان روسيا الأخير عن مغادرة محطة الفضاء الدولية هو إعلان سياسي بحت، فعام 2024 لا يزال بعيداً وقد تقرر روسيا الاستمرار في المشاركة في عمليات محطة الفضاء الدولية في نهاية المطاف.

الاستعداد لأسوأ السيناريوهات

ولكن إذا انسحبت روسيا، فلا بأس بالتخلي عن رؤيتنا الطوباوية للدبلوماسية العلمية؛ "نحن هنا طاقم واحد". لم يعد مجدياً اعتبار مجالات التعاون العلمي، مثل الفضاء، بمنأى عن تأثيرات السياسة. على أي حال، فإن الحاجة إلى دبلوماسية الفضاء ستزداد فقط عندما تصبح الدول أكثر اعتماداً على الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، بينما ستصبح هذه الدبلوماسية هشة أكثر عندما تخرج الأمور عن السيطرة. مع اندلاع الصراعات، سنكون على الأرض مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بما يحدث في الفضاء، لذلك قد يكون من الأفضل لدبلوماسية الفضاء التعلم من الأشكال الأخرى للدبلوماسية التي بُنيت مع وضع أسوأ سيناريو في الاعتبار. 

يقول شميت إن "الدبلوماسية الاستباقية" هي إحدى المقاربات، ويضيف: «إنها إطار عمل تحاول فيه بشكل أساسي النظر إلى المستقبل والاستعداد لأسوأ سيناريو، وهذا ما فعلته دبلوماسية المناخ ودبلوماسية الأوبئة في السابق، وقد بدأت الأشكال الناشئة لدبلوماسية المحيطات في تبنيها أيضاً».   

إذا تخلينا عن مثاليتنا "التقنية" فيما يتعلق بالفضاء وتحيزنا تجاه الروايات التي بنتها القوى العظمى العالمية، فإننا بذلك ننفتح على براغماتية التعاون الحقيقي. هناك تدهور في المحيطات، ولكن هناك أيضاً مشكلات التغيّر المناخي وتدهور الصحة العالمية وحقوق الإنسان. ربما يسهم استكشاف الفضاء بحل جزءٍ من هذه المشكلات. في الواقع، لقد ساهمت الأبحاث التي أُجريت على متن محطة الفضاء الدولية في تطوير اللقاحات ومراقبة الكوارث الطبيعية وتقييم جودة المياه وتحسين جودة الهواء، على سبيل المثال لا الحصر. لكننا نحتاج إلى أطر أكثر استدامة وواقعية لمواصلة التعاون في الفضاء، كما نحتاج إلى استثمار الكثير والكثير في التعاون العلمي البراغماتي على الأرض.

اقرأ أيضاً: كيف ستؤثر الحرب الروسية الأوكرانية على صناعة الفضاء الأميركية؟

مع أو دون استمرار مشاركة روسيا، ستتوقف محطة الفضاء الدولية عن العمل في نهاية المطاف في وقت ما من عام 2031 عندما تسقط على الأرض وتتناثر بقاياها في المحيط. في ذلك الوقت، آمل ألا تكون قطعة المعدن الضخمة تلك رمزاً للدبلوماسية العلمية، بل المحيط الذي ابتلعها.

المحتوى محمي