يستذكر روجر نيكولس إرسال أول رسالة بالبريد الإلكتروني باستخدام الشبكات اللاسلكية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان جالساً في القسم الخلفي من حافلة أثناء رحلته اليومية إلى العمل. وقد حدث هذا منذ ثلاثين سنة على شبكة من الجيل الأول G1، وبسرعة بيانات أقل من السرعات الحالية بما يقارب 15,000 مرة.
أما الآن، فهو يشغل منصب مدير برنامج الجيل السادس في شركة كيسايت تكنولوجيز (Keysight Technologies)، ويشهد النمو السريع للمعيار الحالي للاتصالات الخلوية، ويدرك أن ما هو قادم أكبر بكثير. وحتى شهر يونيو/ حزيران من العام 2022، أحصت الجمعية الدولية لمزودي الخدمات الخلوية ما يقارب 500 شركة لتشغيل الهواتف المحمولة قامت بتشغيل تكنولوجيا الجيل الخامس، أو تخطط لتشغيلها، وذلك في 145 بلد، بزيادة ملحوظة عن 412 شركة في نهاية 2020. وتتوقع شركتا أومديا (Omdia) وفايف جي أميركاس (5G Americas) وجود أكثر من 1.3 مليار وصلة في شبكات الجيل الخامس على مستوى العالم.
ويقول: "لقد شهدت العقود الفاصلة تسارعاً هائلاً في استخدام وصلات البيانات اللاسلكية، ولن تساعد أنظمة الجيل الخامس فقط على تحقيق الطلب على زيادة السرعة وتقليل التأخير ورفع مستوى الوثوقية، بل ستساعد أيضاً في توفير المرونة اللازمة للاستفادة إلى أقصى حد من الموارد الأكثر تكلفة في الشبكات الحديثة: الطيف والطاقة".
شبكات الجيل الخامسة: خطوة في مراحل متعددة لتطوير الشبكات
ولكن الجيل الخامس ليس سوى المرحلة الحالية في تطور الشبكات الخلوية اللاسلكية. ويمثل النمو الكبير في توافر شبكات الجيل الخامس استمراراً في المسيرة تحو القدرات اللاسلكية المتقدمة، والتي بدأت منذ أكثر من أربعة عقود عندما قامت الشركة اليابانية (NTT) بتشغيل أول شبكة خلوية مؤتمتة. وعلى الرغم من أن الجيل الحالي من الاتصال اللاسلكي أصبح قيد الاستخدام، فإن المهندسين ومختصي التكنولوجيا يسعون إلى دفع التكنولوجيا نحو جيلها الجديد، أي شبكات الجيل السادس (6G).
اقرأ أيضاً: شبكات الجيل الخامس تحدث ثورة في التصنيع والإنتاج وتجعل المصانع أكثر ذكاءً
ومن الواضح أن تطبيقات المستقبل الابتكارية ستحتاج إلى تعزيز قدرات الترابط والاتصالات. فالواقع المعزز سيسمح للعاملين بتعزيز بيئتهم المحيطة بمعلومات مفصلة، أو التواصل مع المستهلكين عبر العالم الافتراضي. كما أن الأجهزة المتصلة بالشبكة والتي تجمع البيانات من الأجسام الفيزيائية –بدءاً من الطائرات وصولاً إلى العجلات والبنى التحتية- تعِد بتوفير درجة أعلى من الذكاء لأنظمة الإدارة. وستتمكن المركبات الآلية المتصلة بالشبكة من التواصل مع بعضها البعض، ما يحسن الكفاءة والأمان في أثناء القيادة.
يقول نيكولس: "ما زالت استخدامات الجيل السادس في حيز التكهنات"، ولكن "قائمة حالات استخدام الجيل السادس تتراوح ما بين تطويرات بسيطة لأنظمة الجيل الخامس، وأشياء أقرب إلى الخيال العلمي".
تحديات جديدة للجيل الجديد من التكنولوجيات اللاسلكية
ولكن، ولتصميم جميع عناصر الجيل السادس، من بنى تحتية وأجهزة وبرمجيات، يجب على المهندسين والباحثين حل مجموعة كبيرة من المشكلات. إن محاولة تحسين الاتصال الخلوي اللاسلكي بعشرة أضعاف يحمل تحديات كبيرة لا يمكن التعامل معها بمجرد تعزيز التكنولوجيا الموجودة حالياً. وتتضمن هذه التحديات إتقان التعامل مع فيزياء الإشارات عالية التردد، وإدارة متطلبات المساحة ضمن الأجهزة لعدة شرائح وعناصر إلكترونية لاسلكية، وتطوير البرمجيات المطلوبة لأتمتة إدارة الشبكات الموزعة والقابلة للبرمجة.
إن ظهور أنظمة الجيل السادس سيؤدي إلى إضافة نطاقات ترددية غير متجاورة ضمن خريطة الطيف الترددي التي لا ينقصها التعقيد. كما أن هذه الأنظمة ستتطلب أنظمة هوائيات فعالة أكثر تعقيداً، ودرجة أعلى من التكامل ضمن الشبكات باستخدام تكنولوجيات وصول راديوي أخرى (مثل الشبكات المحلية اللاسلكية وبلوتوث والنطاق فائق العرض والأقمار الاصطناعية)، وتكنولوجيات مشتركة للاتصالات والاستشعار. إن دمج كل ما سبق ضمن جهاز واحد، مثل هاتف ذكي، سيتطلب مجموعة ضخمة ومعقدة من التكنولوجيات الخاصة بالإرسال والاستقبال بالموجات الراديوية. كما سيتطلب مستوى عالياً وقدرات ابتكارية في الهندسة الكهربائية والحاسوبية، وقدرات عالية أيضاً في مجال الهندسة الصناعية وإدارة الطاقة.
اقرأ أيضاً: اليابان تكسر رقمها القياسي السابق في سرعة نقل بيانات تتجاوز شبكة الجيل الخامس
وتمثل مسائل قدرات الحوسبة وتخزين البيانات تحديات متصاعدة باستمرار لشبكات الاتصال الجديدة عالية السرعة والقابلة للبرمجة. وللتكيف مع عدد الأجهزة التي ستحتاج للاتصال بشبكات الجيل السادس، وهو عدد يتزايد بصورة متسارعة، ستحتاج الشرائح الحاسوبية الجديدة إلى معالجة الإشارات بسرعة أكبر، ما يتطلب المزيد من القدرات الحاسوبية مع قدرات تخزين أكثر سرعة. كما إن إدارة المستشعرات المطلوبة لبناء توائم رقمية عالية الدقة –وهي عمليات محاكاة مبنية على مجموعات من البيانات المستخلصة من العالم الحقيقي- تتطلب أيضاً قدراً إضافياً كبيراً من قدرة المعالجة وقدرات تخزين سريعة بشكل يتجاوز مواصفات الشبكات الحالية.
ويمثل تقليل التأخير الزمني (الحد الأدنى من التأخير) تحدياً مألوفاً في الشبكات الخلوية، وهو تحدٍّ سيبقى موجوداً مع ازدياد درجة سماح التطبيقات الحديثة بمعالجة البيانات بصورة تفاعلية، والبيئات الافتراضية عالية الاستجابة، والمراقبة والإدارة للأنظمة البعيدة. وستضيف تطبيقات الجيل السادس الجديدة حاجة إضافية للتوقيت فائق الدقة، أي القدرة على التنبؤ بتوقيت إرسال أو تلقي رزم البيانات بدقة عالية للغاية.
التطورات البحثية الجريئة ستدعم أنظمة الاتصال المستقبلية
إن التعامل مع هذه القيود الفيزيائية والفنية سيتطلب تحقيق قفزات ابتكارية كبيرة، ولكن الأمل ببناء التطبيقات الجديدة التي تعتمد على اتصالات الجيل السادس المتقدمة يحفز محاولات وضع حلول ابتكارية.
تمثل الحلول التكنولوجية التكيفية مجالاً بحثياً مهماً. فبدلاً من التركيز على توزيع عرض الحزمة بشكل أمثلي لجهاز واحد، على سبيل المثال، ستعتمد شبكات الجيل السادس على الأجهزة المجاورة مكانياً للمساعدة في توفير عرض الحزمة المطلوب والتقليل من التأخير الزمني. وهذه الهيكلية ثلاثية الأبعاد للإشارة تركز على جمع الإشارات اللاسلكية من عدة مصادر ومعالجتها، وذلك بناء على قربها من المستخدم النهائي.
اقرأ أيضاً: رؤية سامسونج للجيل السادس من الشبكات الخلوية
وستساعد المواد نصف الناقلة الجديدة على إدارة متطلبات المساحة ضمن الجهاز، إضافة إلى التعامل مع نطاقات ترددية أكثر عرضاً. ومن المقاربات الواعدة –وإن كانت تتطلب عملاً هندسياً معقداً- مقاربة تقوم على الجمع بين الدارات السيليكونية التقليدية مع دارات مصنوعة من أنصاف نواقل تعتمد على مواد أكثر ندرة، مثل فوسفيد الإنديوم. إضافة إلى هذا، يعمل الباحثون على دراسة أساليب لتغيير البيئة باستخدام أسطح قادرة على التعلم وقابلة للضبط (أسطح ذكية) يمكن استخدامها لتحسين انتشار الإشارة وتعديل الإشارات في الزمن الحقيقي لتحسين عرض الحزمة والتقليل من التأخير.
ويعتمد مجال بحثي آخر على دراسة استخدام الذكاء الاصطناعي لإدارة الشبكات وتحسين الاتصالات. يؤدي تنوع استخدامات الشبكات (مثل التراسل بالرسائل النصية، الألعاب، والبث الرقمي) إلى ظهور أنواع مختلفة من الطلب على الشبكات. وتتيح الحلول التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي للنظام التنبؤ بهذا الطلب بناء على الأنماط السلوكية، بدلاً من مطالبة المهندسين على الدوام بتصميم الشبكات لتحمل أعلى درجات الطلب.
ويرى نيكولس إمكانات وفوائد كبيرة للشبكات بفضل التحسينات باستخدام الذكاء الاصطناعي. ويقول: "تتسم الأنظمة الحالية بدرجة عالية من التعقيد، وتتضمن عدداً كبيراً من المعاملات المختلفة التي يمكن التحكم بها للتعامل مع التنوع في الطلب، وبالتالي فإن معظم القرارات التي تهدف إلى تحسين الشبكة محدودة بتعديلات أساسية، مثل زيادة عدد المواقع وتحديث الأجهزة الراديوية، وتحسين شبكات الربط البينية، وزيادة كفاءة المنافذ الشبكية المسؤولة عن توجيه البيانات، وخنق السرعة لدى مستخدمين محددين". ولكن من ناحية أخرى، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي للتعامل مع عمليات التحسين والأمثَلَة، كما يقول، يمثل "فرصة رائعة للانتقال نحو شبكات ذاتية التحكم وذاتية الأمثَلَة وذاتية التنظيم".
وتمثل عمليات المحاكاة الافتراضية وتكنولوجيا التوائم الرقمية أدوات واعدة، ولن تقتصر فوائدها على المساعدة في ابتكارات الجيل السادس وحسب، بل ستزيد قدراتها أيضاً ما إن يتم ترسيخ شبكات الجيل السادس. ويمكن لهذه التكنولوجيات الناشئة أن تساعد الشركات على اختبار منتجاتها وأنظمتها ضمن بيئة معزولة تحاكي ظروف العالم الحقيقي، ما يسمح لصانعي التجهيزات ومطوري التطبيقات باختبار تصاميمهم ضمن بيئات معقدة للحصول على نماذج أولية مبكرة للمنتجات في شبكات الجيل السادس.
اقرأ أيضاً: هل أنت مستعد للاتصالات من الجيل السادس 6G؟
وعلى الرغم من أن المهندسين والباحثين اقترحوا العديد من الحلول الابتكارية، فإن نيكولس يلحظ أن بناء شبكات الجيل السادس سيتطلب أيضاً إجماعاً بين مزودي التكنولوجيا ومشغليها وشركات الهواتف المحمولة. وعلى حين يتواصل إطلاق شبكات الجيل الخامس، فإن الأطراف الفاعلة في الصناعة يمكن أن تبني رؤية متسقة للتطبيقات التي سيدعمها الجيل الجديد من الشبكات، وكيفية عمل تكنولوجياتها بشكل متكامل.
ولكن، وفي خضم هذا التعاون وكل هذه التعقيدات، يمكن أن نحصل على أكثر النتائج إثارة واستدامة. ويلحظ نيكولس أن كثرة الاختصاصات الهندسية المطلوبة لبناء شبكات الجيل السادس، والتعاون الصناعي المطلوب لإطلاقها، سيؤديان إلى ظهور ابتكارات رائعة عابرة للتخصصات. ونظراً لما سينتج عن هذا من طلب على الحلول الجديدة، فإن المسار نحو الجيل السادس سيكون مفروشاً، وفق كلمات نيكولس، "بمقدار هائل من الأبحاث التكنولوجية والتطوير والابتكار في عدة مجالات، بدءاً من الإلكترونيات وأنصاف النواقل وصولاً إلى الهوائيات وأنظمة الشبكات الراديوية وانتهاء ببروتوكولات الإنترنت والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني".