في عام 2008 مرّت الولايات المتحدة الأميركية بأزمة مالية واقتصادية طاحنة نتيجة انهيار أسعار العقارات، حيث فاق العرض الطلب، ووجد أصحاب المنازل والشركات صعوبات جمّة في بيع منازلهم أو تسديد القروض، كما توقفت البنوك عن إقراض بعضها بعضاً، وقد امتدت آثار الأزمة المالية الأميركية إلى العالم بأسره، ما أدى إلى وصفه لاحقاً باسم الركود الكبير (The Great Recession)، والتي تعتبر أكبر أزمة مالية واقتصادية يمر بها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر استخدام تكنولوجيا البلوك تشين على قطاع الخدمات المالية؟
واليوم، ظهرت أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة مرة أخرى، حيث ارتفعت أسعار المساكن ووصل متوسط أسعار الفائدة إلى أعلى نقطة له منذ الركود الكبير. وفي حين أن من ضمن أسباب أزمة 2008 هو العيب في النظام المالي الذي شابه الكثير من القصور في وقتها، فإنه من غير المتوقع أن يكون الحال عليه اليوم كما في السابق، والسبب هو وجود التكنولوجيات الناشئة التي يمكنها بناء أفضل نظام لإدارة قطاع العقارات، ليس في أميركا فقط بل حتى عبر دول العالم كلها.
أخطاء يمكن تلافيها بالاعتماد على التكنولوجيات الناشئة
اتفق معظم الخبراء أن سبب الانهيار المالي في عام 2008 يعود إلى عيبين أساسيين، أولاً، بدأت المؤسسات المصرفية في استخدام شرعيتها الموثوقة كدرع أثناء اتباعها سياسات تعظيم الربح وطمس عدم الاستقرار الحقيقي في النظام المالي الأساسي. حيث أدت رغبة هذه المؤسسات في الحفاظ على حصتها في السوق، وإرضاء داعميها الماليين، واكتساب الربحية، إلى تضخيم تصنيفاتها الائتمانية بشكل مصطنع.
ثانياً، عندما بدأ القطاع المالي في الانهيار، أثبتت التكنولوجيا الأساسية المستخدمة أنها غير قادرة على معالجة هياكل التوريق (Securitization Structures)، ونتيجة لذلك، تم إخفاء المؤشرات المحتملة لصحة النظام المالي الأساسي في نظام معقد للغاية وبيروقراطي. على سبيل المثال، لن يؤدي فشل رهن عقاري واحد إلى حبس الرهن فوراً. بدلاً من ذلك، ستبقى القروض العقارية الفاشلة في طي النسيان في العقود القانونية. وفي النهاية، كان هذا يعني أن الحالة الحقيقية لحجم سوق الدين لم تترجم إلى مؤشرات حقيقية حتى حصل الانهيار الشامل للنظام المالي.
واليوم نجد أنه بينما عالجت التشريعات القانونية وإنشاء مؤسسات لحماية المستهلك بعض المخاوف، فإن النظام المالي العالمي لايزال حتى الآن غير موثوق به لحد كبير، حيث يلفت الخبراء الماليون والاقتصاديون النظر إلى ضرورة إنشاء نظام مستقل لا يتأثر بالتقلبات التي يتصف بها البشر، وفي الوقت نفسه قادر على توفير تحذير متقدم من التهديدات التي تواجه قطاع العقارات.
اقرأ أيضاً: ما التغييرات الكبرى التي ستحدثها العملات الرقمية في النظام المالي العالمي؟
تكنولوجيا البلوك تشين هي الحل
لإزالة المخاوف الموجودة في قطاع العقارات بشكل دائم، فإن تكنولوجيا سلاسل الكتل البلوك تشين يمكن أن تكون الحل الأمثل لاستقرار قطاع العقارات بشكل أفضل، إذ إن لديها أحد الابتكارات الأساسية الفريدة وهي العقود الذكية (Smart Contract). حيث سيكون نظام الرهن العقاري المبني على العقود الذكية متفوقاً في المعاملات المالية اليدوية، ما يتيح معالجة أسرع للديون، ومن ثم الكشف عن الأخطاء في أدوات الدين بسرعة أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، نظراً إلى شفافية سلاسل الكتل العامة وحرية عرضها لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت، فلن يكون من الممكن بعد الآن للمؤسسات المالية إخفاء الحقيقة وراء سمعتها، وإضافة تصنيفات عالية على سنداتها، حيث سيتمكن المستثمرون من النظر في مكوناتها الأساسية وإجراء تقييماتهم الخاصة.
اقرأ أيضاً: من الرقمية إلى الحياة الواقعية: 5 مشكلات يمكن أن تحلها تكنولوجيا البلوك تشين
ما هي فوائد استخدام البلوك تشين في قطاع العقارات؟
يشكل قطاع العقارات التجارية جزءاً كبيراً من الأصول الاقتصادية العالمية ونشاط المعاملات. حيث قُدرت قيمة سوق العقارات العالمي بنحو 3.69 تريليون دولار في عام 2021 على أساس معدل النمو السنوي المركب، بينما بلغت قيمة عائدات الشركات العقارية في جميع أنحاء العالم نحو 9.5 مليار دولار، ومع تعافي الاقتصاد العالمي بعد انحسار جائحة كوفيد-19، من المتوقع أن يصل حجم سوق العقارات بحلول عام 2030 إلى 14 مليار دولار، مدفوعاً بزيادة الإنفاق الحكومي على تطوير البنية التحتية.
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام مبشرة للغاية، فإن سوق العقارات اليوم يتكون من العديد من الشبكات المنعزلة والمستقلة عن بعضها بعضاً، مع غموض في إجراء المعاملات والتعتيم بين الأنظمة الحالية. نتيجة لذلك، فإن تكنولوجيا البلوك تشين في وضع مثالي لتقديم حلول عملية لتحقيق الفوائد في هذا القطاع، بما في ذلك:
-
إمكانية الوصول إلى البيانات لزيادة الشفافية
واحدة من أكثر الطرق فعالية التي يمكن أن تفيد فيها تكنولوجيا البلوك تشين صناعة العقارات هي إجراء عمليات التورثيق الرقمي (Digital Securitization) للممتلكات العقارية، والمعروفة أيضاً باسم الترميز (Tokenization) ، وهي عبارة عن رقمنة الأوراق المالية والأصول البديلة.
على سبيل المثال، باستخدام شبكة إيثيريوم بلوك تشين (Ethereum blockchain) يمكن برمجة الأصول رقمياً لتشمل حقوق الملكية وسجل المعاملات والقواعد لضمان أن إصدار الأصول وتوزيعها ونقلها متوافقان مع اللوائح التنظيمية. كما يقلل الترميز من التكاليف، ويزيد من سرعة إنشاء الأصول وإصدارها وتبادلها وابتكار ميزات جديدة وإدارة أرباح الأسهم وإدارة إجراءات الشركات الأخرى.
اقرأ أيضاً: ما التوجهات العالمية التي لا يمكن للبنوك تجاهلها في المال والتكنولوجيا؟
-
رقمنة القروض والرهن العقاري
لا تزال عمليات إنشاء القروض والاكتتاب حتى الآن غير مواكبة للتطور، حيث يتم استخدام الوثائق الورقية، والتي يلزم بذل جهد كبير لحمايتها من السرقة أو التعرض للتلف، بالإضافة إلى ذلك غالباً ما يتم اتخاذ قرارات التداول وخدمة الأصول بناءً على بيانات قديمة. كما توجد مشكلات التأخير في التسويات والتي تؤثر على التدفق النقدي للمستثمر.
ولكن عند استخدام تكنولوجيا البلوك تشين، يمكن تقديم نسخة من المعلومات التي تم التحقق منها، وغير القابلة للتعديل للمؤسسات المصرفية، والتي تضمن البيانات ذات الصلة، مثل حقوق الملكية، لدعم قرارات التمويل العقاري للأفراد أو المؤسسات، ما يوفر إدارة فعالة لعمليات الرهن العقاري والقروض، ويولد الثقة في الأسواق من خلال تزويد المستثمرين بإثبات شفاف على أداء الأصول.
اقرأ أيضاً: كيف تساهم تكنولوجيا البلوك تشين في حل المشكلات البيئية التي نواجهها؟
-
إدارة الممتلكات العقارية
تعاني شركات إدارة العقارات الكبيرة الحجم من الإشراف غير الفعال على محافظها الاستثمارية العالمية. ولكن تكنولوجيا البلوك تشين يمكن لها أن تسهل المشاركة الآمنة للبيانات، وتبسط عمليات تحصيل الإيجارات والمدفوعات لأصحاب العقارات، ما يزيد من الكفاءة التشغيلية ويسمح بتوفير الوقت والتكلفة، وإنتاج بيانات أكثر ثراءً لتسهيل اتخاذ القرار بشكل أفضل.
-
إدارة سجلات الأراضي والممتلكات
حتى الآن تستمر الشركات العقارية أو الأفراد في الاعتماد على الوثائق الورقية لسندات ملكية الأراضي الخاصة بها، والتي تعتبر عرضة للضياع والاحتيال وسوء الإدارة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب عمليات نقل الملكية والتصاريح عدداً كبيراً من الإجراءات القانونية الطويلة والمكلفة، والتي تؤدي أحياناً إلى التأخر أو عدم استغلال الأراضي أو العقارات بالشكل الأمثل.
ولكن عند استخدام تكنولوجيا البلوك تشين، يمكن استبدال الأعمال الورقية التقليدية بأصول رقمية حقيقية، من خلال استخدام دفتر الأستاذ الرقمي غير القابل للتغيير، والذي يعمل كمصدر آمن ومشترك لإثبات موثوقية الوثائق بين الأطراف المتعددة. على سبيل المثال، تمتلك هيئة تسجيل الأراضي السويدية منصة رقمية لتسجيل الأراضي قائمة على البلوك تشين، من أجل جعل عملية الوصول إلى سجلات ملكية العقارات أكثر شفافية، وتسهيل معاملات السوق، وزيادة ثقة المستثمرين، وفتح الوصول إلى التمويل، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.
-
المساهمة في التخطيط الحضري المستدام
في الوقت الحالي يحدث تطوير العقارات تقريباً دون أي مساهمة من أفراد المجتمع، الذين يشعرون بالحرمان من إبداء رأيهم في عمليات التخطيط التي تجرى في مجتمعاتهم، نتيجة لذلك يمكن أن تتضمن منصات التخطيط القائمة على تكنولوجيا البلوك تشين موارد تعليمية وحوافز المشاركة القائمة على الرموز وحلقة التغذية الراجعة بين أصحاب المصلحة. وهذا من شأنه أن يشجع مشاركة المجتمعات المحلية، ودمجها بشكل أفضل في عمليات تطوير العقارات لتحقيق تخطيط حضري مستدام للمجتمعات.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لعمليات التحول الرقمي أن تساعد في الانتقال إلى عالم أكثر استدامة؟
-
الشفافية في عمليات إدارة مشاريع بناء العقارات
أصبحت مشاريع بناء العقارات في الفترة الأخيرة أكثر صعوبة في إدارتها، وذلك لتداخل العديد من العناصر مثل شركات مقاولات عقود الباطن، وممارسات شراء المواد ذات الجودة الرديئة، والتي يمكن حلها باستخدام تكنولوجيا البلوك تشين، لإثبات أصالة مواد البناء من خلال ربطها برموز غير قابلة للاستبدال واستخدامها كشهادات رقمية، بالإضافة إلى تبسيط إدارة المشروع من خلال رقمنة العمليات، والتي تُمكّن مديري الإنشاءات من تتبع حالة المشروع ومشاركتها بأمان مع أصحاب المصلحة الرئيسيين، ما يسمح بإدارة المشروع بشكل أكثر كفاءة.
التحديات التي تواجه تبني تكنولوجيا البلوك تشين في قطاع العقارات
يعتبر التحول على نطاق واسع دائماً رحلة صعبة خاصة في القطاعات الراسخة والمقاومة للتغيير، مثل قطاع العقارات الذي كان وما زال يعتمد على الطرق التقليدية لتنفيذ عملياته، لذا فإن هذا يحتاج إلى إجراء بعض التحسينات الأساسية سواء في صناعة العقارات أو تكنولوجيا البلوك تشين نفسها، ويشمل ذلك:
- أولاً: يجب جعل تكنولوجيا البلوك تشين قابلة للتشغيل البيئي، حيث إن استخدام سلاسل كتل متعددة ستجعل عمليات التشغيل بطيئة ومرهقة. وتحد من نشر معلومات السوق عبر النظام بأكمله، ومن ثم سيمكن وجود سلسلة كتل قياسية وقابلة للتشغيل من الجميع من زيادة الكفاءة في التكيف مع ظروف السوق المتغيرة.
- ثانياً: ضرورة تبني البلوك تشين على نطاق أوسع ولا تقتصر فقط على العقارات وحدها، حيث إن وجود تطبيقات تتعامل مع القطاعات الفرعية التي تعمل معها عن كثب لبيع المنازل، مثل الرهن العقاري والملكية والتأمين، أمر ضروري.
- ثالثاً: يتطلب إحداث ثورة في قطاع العقارات اعتماد أكبر من قبل الهيئات التنظيمية الحكومية، بالإضافة إلى سن لوائح ملزمة من المشرعين. حيث سيسمح هذا بإجراء جميع المعاملات على شبكة البلوك تشين بطريقة آمنة وفعالة، ما يزيد من ثقة المستثمرين ويزيد تبني الشركات العقارية الأخرى لهذه التكنولوجيا، والذي من شأنه أن يدفع صناعة العقارات في جميع أنحاء العالم إلى آفاق جديدة.
- رابعاً: ضرورة ترويج تكنولوجيا البلوك تشين في قطاع العقارات على أنها وسيلة لإتاحة المعلومات الموثوقة للجميع دون تحيز، حيث يفتقر قطاع العقارات اليوم بشكل أساسي إلى البيانات الموثوقة والقيمة والمطلوبة بشدة، بالإضافة إلى القدرة على جمع البيانات. والتي يتم إخفاء الكثير منها في مستندات، مثل اتفاقيات الإيجار.
- خامساً: التأكد من أن تكنولوجيا البلوك تشين قابلة للتطوير، ولديها القدرة علىالتعامل مع حجم المعاملات الهائلة التي توجد في قطاع العقارات، بالإضافة إلى العمل على الحفاظ على خصوصية الجميع، أفراداً وشركات ومؤسسات مالية.
اقرأ أيضاً: هل تمثل فلسفة البيانات حلاً لتحديات إنجاز مشاريع البناء؟
ختاماً، بوصفها صناعة تقليدية في طبيعتها، فإن تبني التكنولوجيات الجديدة والناشئة فيها قد يواجه الكثير من العقبات، لذلك من الضروري إظهار القيمة المضافة التي يمكن تقدمها تكنولوجيا البلوك تشين، وهذا يتطلب من الشركات الجريئة والابتكارية في قطاع العقارات، التثقيف الفعال، وإبراز نتائج سريعة لإقناع المشترين بأن تكنولوجيا البلوك تشين هي طريقة مناسبة لشراء منزل أو الحصول على قرض أو الاستثمار في عقار، حينها ستكون جميع الشركات الأخرى مجبرة على تبني التكنولوجيا.