في الوقت الذي تعمل فيه التكنولوجيات الرقمية الحديثة على تحويل الصناعات والاقتصادات والمجتمعات بشكل عام إلى الأفضل، أصبح مفهوم التنمية المستدامة أكثر أهمية وجزءاً لا يتجزأ من عمليات التحول الرقمي التي تعمل عليها العديد من الحكومات والشركات، حيث يمكن أن تساعد التكنولوجيات الناشئة في سد الفجوة بين عمليات التحول الرقمي ومعضلاتها ومعالجة تحديات أهداف التنمية المستدامة.
العلاقة بين التحول الرقمي والتنمية المستدامة
على الرغم من أن التحول الرقمي يُستخدم في المقام الأول في سياق الأعمال التجارية، فإنه يؤثر أيضاً على قطاعات أخرى مثل المنظمات الحكومية والجهات المعنية بمعالجة التحديات الاجتماعية التي تعمل على الاستفادة من التكنولوجيات الناشئة الحالية. حيث من المتوقع أن يعالج التحول الرقمي باستخدام التكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليلات البيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، وتكنولوجيا البلوك تشين، القضايا البيئية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة بحلول عام 2030.
ومع ذلك، فإن هناك عدداً من التحديات التي يتعين التصدي لها إذا أُريد تحقيق الإمكانات الكاملة للتحول الرقمي، حيث يتعلق بعضها بالتأثير البيئي للتكنولوجيا الرقمية نفسها. على سبيل المثال تتزايد النفايات الإلكترونية، ما يؤدي إلى فقدان القيمة المحتملة من إعادة استخدام الأجهزة أو إعادة تدويرها، وتزايد جبال مكبات النفايات الإلكترونية باستمرار، وزيادة كميات المواد الكيميائية السامة التي يتم إطلاقها في البيئة.
اقرأ أيضاً: هل يحتاج العالم بعد كوفيد-19 إلى الرقمنة أم التحول الرقمي؟
على سبيل المثال، وفقاً لتقرير النفايات الإلكترونية العالمي لعام 2020 التابع للأمم المتحدة، تم إنتاج نحو 53.6 مليون طن متري من النفايات الإلكترونية في جميع أنحاء العالم في عام 2019، بزيادة 21% في خمس سنوات فقط، ويتوقع التقرير أيضاً أن النفايات الإلكترونية العالمية ستصل إلى 74 مليون طن بحلول عام 2030، وهو ما يقرب من ضعف حجم النفايات الإلكترونية في 16 عاماً فقط.
وبحسب التقرير، فإن قارة آسيا وحدها أنتجت أكبر حجم من النفايات الإلكترونية في عام 2019 بنحو 24.9 مليون طن، تليها قارتا أميركا الشمالية والجنوبية بنحو 13.1 مليون طن، ثم أوروبا بنحو 12 مليون طن، والقارة الإفريقية بنحو 2.9 مليون طن، وأخيراً قارة أسترالية بنحو 0.7 مليون طن، وهذا يجعل النفايات الإلكترونية أسرع تدفق للنفايات المنزلية نمواً في العالم.
كما تساهم مراكز البيانات أيضاً بشكل كبير في الانبعاثات الكربونية نظراً إلى استهلاكها العالي للطاقة وأنظمة التبريد غير الفعالة في كثير من الأحيان. حيث تستهلك مراكز البيانات حالياً نحو 1.5 إلى 2% من إنتاج الكهرباء العالمية، وهو معدل ينمو بمعدل 12% سنوياً. حيث وصل استهلاك مراكز البيانات إلى 140 مليار كيلوواط في الساعة في عام 2020 وحده، مع إنتاج انبعاثات كربونية وصل إلى 150 مليون طن متري.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد الشركات في تحقيق متطلبات الاستدامة البيئية؟
دور التحول الرقمي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة
مع أن بعض أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 تعتبر أكثر توجهاً رقمياً من غيرها. لكن هذا لا يعني أن التحول الرقمي ليس له دور يؤديه في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتبقية. حيث يجب على التكنولوجيات الرقمية مثل الهواتف الذكية والإنترنت والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات والحوسبة السحابية أن تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، من خلال تقديم حلول عالمية وإقليمية ومحلية في مجالات مثل الخدمات المصرفية الإلكترونية والأموال الإلكترونية، التي من شأنها أن تزيد من الوصول إلى الخدمات المالية لا سيما في المناطق الريفية، بينما يمكن للذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي تحسين كفاءة الطاقة وتقليل تكاليف الكهرباء.
ومن ثم، يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة، بما في ذلك في المجال الرقمي، على أفضل وجه؛ إذا عمل الفاعلون معاً وساهموا بخبراتهم ومواردهم في إنشاء مبادرات لتحقيقها، مثل مبادرة تو جوود تو جو (Too Good to Go) في أوروبا التي تعمل على مكافحة هدر الطعام، من خلال توزيع الطعام الزائد على المحتاجين على المستوى المحلي، ومن ثم تساهم في تحقيق ثاني أهداف التنمية المستدامة وهو صفر جوع (Zero Hunger)، كما تعمل مبادرات أخرى مثل إي-رزيكي (e-Rezeki) التي أطلقتها مؤسسة الاقتصاد الرقمي الماليزي لتحقيقأول أهداف التنمية المستدامة وهو القضاء على الفقر (No Poverty) من خلال مساعدة الأفراد على اكتساب المهارات الرقمية والعثور على عمل عبر الإنترنت.
اقرأ أيضاً: مستقبل العمل عن بعد: من خيار ضرورة إلى خيار مستدام
كيف يمكن جعل عمليات التحول الرقمي أكثر استدامة؟
يمكن أن تساعد الكفاءات المكتسبة من خلال الأتمتة الرقمية والوصول الموسع المتاح من خلال الخدمات الرقمية الشركات على تحقيق أهداف الاستدامة بشكل أسرع. ومع ذلك، فإن الطريقة التي يتم بها إنشاء هذه الحلول الرقمية لا تقل أهمية، لضمان عدم طرح مشكلات جديدة. وفيما يلي ركائز أساسية للتحول الرقمي المستدام من شأنها أن تساعد الشركات والحكومات على البقاء على المسار الصحيح مع أهدافها البيئية والاجتماعية وتحقيق تأثير فعّال وطويل الأجل:
-
أولاً: تضمين مبادئ الاقتصاد الدائري
إن إنشاء المنتجات المستدامة هو عملية تصميم وجلب المنتجات إلى التسويق بطريقة تنظر في الآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية لتلك المنتجات طوال دورة حياتها بأكملها، حيث إن تصميم المنتجات المستدامة أكثر من مجرد عمليات تدوير، فهو يشمل أيضاً تقليل الآثار السلبية لهذه المنتجات على البيئة، مثل انبعاثات غازات الدفيئة واستخدام المياه، حيث يمكن تصنيع المنتجات من مواد معاد تدويرها، أو استخدام الموارد المتجددة، أو أن تكون قابلة للتحلل.
لذا من المهم للشركات تطبيق جميع مبادئ مفهوم الاقتصاد الدائري عند التفكير في جميع جوانب المنتج ومحاولة جعله أكثر استدامة، بما في ذلك الطريقة التي تم فيها تصميم المنتج وتصنيعه إلى الطريقة التي يتم فيها استخدامه وإعادة استخدامه حتى نهاية دورة حياته.
اقرأ أيضاً:
-
ثانياً: الالتزام بالشفافية عبر عمليات الإنتاج
يمكن استخدام التكنولوجيا الرقمية لفهم عمليات سلاسل التوريد بشكل أفضل، ومن ثم تقليل التأثير البيئي التي تُنشئها، وذلك من خلال قياس حركة الموردين المحتملين لتحديد مجالات التحسين، حيث يمكن للشركات أن تستهدف المجالات التي سيكون لها تأثير أكبر. على سبيل المثال تعمل شركة نايكي (Nike) للمعدات الرياضية على صنع أحذية رياضية وملابس سباحة مصنوعة من البلاستيك المعاد تدويره، بالإضافة إلى استخدام مصادر الطاقة المتجددة فقط لتقليل انبعاثات الكربون وإنشاء منتجات طويلة الأمد لها تأثير ضئيل على البيئة.
اقرأ أيضاً: هل تساعدنا البلوك تشين في إصلاح سلاسل التوريد العالمية التي أفسدها الوباء؟
-
ثالثاً: ضرورة الامتثال للمبادرات
يعتبر الامتثال للمبادرات أمراً ضرورياً من أجل تحول رقمي أكثر استدامة. على سبيل المثال، أصدرت المفوضية الأوروبية قواعد سلوك لمراكز البيانات، وهي مبادرة تطوعية تضم أكثر من 184 مشاركاً، بما فيها شركات التكنولوجيا الكبرى مثل آي بي أم وإتش بي وفودافون، والمنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة، حيث تحدد مدونة قواعد السلوك أفضل الممارسات وإطار عمل لتصميم مراكز البيانات وتشغيلها وصيانتها وتقاعدها.
يعد تقديم الأعضاء المنضوين تحت المبادرة لبيانات عداد الطاقة والبيانات الأخرى على أساس سنوي ضرورياً لضمان الامتثال وتمكين المفوضية الأوروبية من تقييم التقدم المستمر، ووضع المعايير، وتطوير إرشادات أفضل الممارسات. وفي حين حققت عدد من الشركات تقدماً كبيراً في السنوات الأخيرة، فإنه لا تزال هناك فرصة كبرى لصناعة التكنولوجيا لتحسين معايير الامتثال.
-
رابعاً: الاستفادة من ثورة البيانات
يمكن أن تساعد البيانات النوعية والكمية في رصد التقدم، وتسجيل مقدار ما تم إنجازه والكم الذي لا يزال يتعين القيام به، حيث تمثل مصدراً مهماً لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة مثل: تحسين الإنتاج الزراعي (الهدف رقم 2: القضاء على الجوع)، إدارة حركة المرور (الهدف رقم 3: الصحة الجيدة والرفاهية)، ورقمنة الطاقة المتجددة (الهدف رقم 7: طاقة نظيفة بأسعار معقولة).
ختاماً، على الرغم من أن وباء كوفيد-19 كان سبباً رئيسياً في تسريع الشركات والمؤسسات والحكومات لاستراتيجيات التحول الرقمي الخاصة بها، فإن هذا يتطلب منها التأكد من أن التدابير التي تهدف إلى دعم التحول الرقمي تجري بطريقة مستدامة، من خلال تجنب التفكير على المدى القصير، والتركيز بدلاً من ذلك على مبادرات تنظيمية أكثر استدامة وتخطيطها وتنفيذها بمنظور شامل يساعدها على إكمال الانتقال بنجاح إلى اقتصاد أخضر ورقمي بالكامل.