ثمة سؤال قديم يطرحه العلماء: ما هي الأفكار التي نعرفها بالفطرة منذ الولادة وما الذي نتعلمه بالتجربة والخبرة على مدار العمر؟ على الرغم من أن إجابة هذا السؤال كانت تهم في الغالب المتخصصين في علم النفس، فإن تجربة جديدة أجراها باحثون بشركة ديب مايند المملوكة لجوجل، تشير إلى أن هذه الإجابة قد تحدد الدور الذي يمكن أن تلعبه البيانات الإدراكية في إكساب الأنظمة الاصطناعية المعرفة. كما تبين كيف يمكن للدراسات التي تُجرى على الأطفال أن تساهم في بناء أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على محاكاة العقل البشري.
فجوة «الفيزياء البديهية» بين البشر والآلات
في دراسة نُشرت الأسبوع الماضي في دورية نيتشر هيومن بيهيفير (Nature Human Behaviour)، يوضح عالم الحاسوب لويس بيلوتو، ومعاونوه من جامعة برينستون، أن الفيزياء البديهية أو الفيزياء الحدسية (Intuitive Physics) تمكننا من فهم القوانين التي تحكم العالم المادي، كما تشكل جانباً أساسياً من جوانب "الفطرة السليمة" التي يتمتع بها الأطفال حتى خلال شهورهم الأولى في الحياة.
على سبيل المثال، سرعان ما يستوعب الأطفال الصغار مفاهيم مثل ديمومة الكائن (Object Permanence) والذي يعني أن الكائنات تظل موجودة حتى لو لم نتمكن من إدراك هذا الوجود (سواء من خلال رؤيتها أو سماعها أو شمها أو لمسها). يدرك الأطفال مثلاً أنه إذا توارت كرة خلف لوح خشبي فإنها لا ينبغي أن تختفي ثم تظهر في مكان آخر. يعرفون أنها موجودة حتى لو لم يتمكنوا من رؤيتها. لكن هذه القواعد الفيزيائية الأساسية، على بساطتها، ليست أموراً بديهية بالنسبة للذكاء الاصطناعي الذي يعاني لفهم ما نعتبره نحن من المسلمات.
تعالج الدراسة الجديدة هذه الفجوة بين البشر والآلات من خلال الاعتماد على علم النفس التنموي (Developmental Psychology)، وهو مجال يدرس كيفية تغير تفكير وشعور وسلوك الإنسان طوال مراحل حياته مع التركيز بشكل أساسي على تطور الأطفال الرضع.
اقرأ أيضاً: أبل تواجه مخاوف بشأن الخصوصية في التكنولوجيا التي ابتكرتها لمكافحة استغلال الأطفال
نموذج ذكاء اصطناعي يحاكي تفكير الأطفال
يختبر علماء النفس التنموي كيف يفهم الأطفال حركة الأشياء من خلال تتبع نظراتهم. على سبيل المثال، عند عرض مقطع فيديو لكرة تختفي فجأة، يعرب الأطفال عن دهشتهم بطريقة يحددها الباحثون عن طريق قياس المدة التي يستمر فيها الأطفال في التحديق باتجاه معين.
حاول الباحثون في هذه الدراسة تطوير اختبار مماثل للذكاء الاصطناعي. لذلك، قام الفريق بتدريب شبكة عصبونية باستخدام مقاطع فيديو تعرض رسوماً متحركة لأشياء بسيطة مثل المكعبات والكرات. تم تصميم النموذج، المُسمى بلاتو (PLATO)، ليفكر بشكل يشبه طريقة تفكير طفل بشري عن طريق تدريبه على هذه المقاطع المصممة لتمثيل المعرفة الأساسية التي يمتلكها الأطفال في الأشهر القليلة الأولى من حياتهم حول الخواص الفيزيائية للأجسام، مثل مواقعها وسرعاتها.
وتمثيل المعرفة (Knowledge Representation) هو حقل من حقول الذكاء الاصطناعي يُعنى بتمثيل معلومات العالم الحقيقي بشكل يُمكّن الحاسوب من فهمها واستخدامها لحل المشكلات المعقدة وأداء المهام المختلفة؛ مثل التواصل مع البشر باستخدام اللغات الطبيعية. كما يمنح الآلات القدرة على التعلّم من المعلومات والتجارب والخبرات المتاحة.
لاحظ أن اسم (PLATO) هو اسم الفيلسوف اليوناني أفلاطون باللغة الإنجليزية، ووضعه في هذا السياق هو إشارة واضحة إلى أسطورة الكهف الشهيرة التي وضعها أفلاطون في الفصل السابع من كتابه "الجمهورية"، والتي تدور حول كيفية فهم البشر لعالمهم المادي. لكن كلمة (PLATO) في الدراسة هي اختصار لجملة "تعلم الفيزياء من خلال الترميز التلقائي وتعقب الكائنات" (Physics Learning through Auto-encoding and Tracking Objects).
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي متعدد المهارات: نحو تحسين المحاكاة الحسية لسلوك البشر
بلاتو يعرب عن دهشته
هناك 3 مفاهيم أساسية نفهمها جميعاً منذ الصغر: "الديمومة" والذي يعني أن الأشياء لا تختفي فجأة، و"الصلابة" والذي يعني أن الأجسام الصلبة لا يمكن أن تمر من خلال بعضها بعضاً، و"الاستمرارية" بمعنى أن الأشياء تتحرك بوتيرة متسقة عبر المكان والزمان. في عمر 3 أشهر تقريباً، يكون الأطفال قادرين على إظهار اندهاشهم عندما ينتهك جسم ما إحدى هذه الركائز الثلاث، وتُعرف هذه القدرة باسم نموذج مخالفة التوقعات (VoE).
غطت مجموعة البيانات التي أنشأها الباحثون هذه المفاهيم الثلاثة، بالإضافة إلى مفهومين إضافيين: "عدم القابلية للتغيير" أي أن خواص الجسم، مثل الشكل، لا تتغير، و"الجمود الاتجاهي"، والذي يشير إلى أن الأشياء تتحرك بطريقة تتفق مع مبادئ القصور الذاتي.
تم وضع هذه المفاهيم في مقاطع فيديو لكرات تسقط على الأرض وترتد، وتختفي خلف أجسام أخرى ثم تعود إلى الظهور، وهكذا. بعد تدريب النموذج على مقاطع الفيديو هذه، كانت الخطوة التالية هي اختباره.
عندما عُرض على الذكاء الاصطناعي مقاطع فيديو لسيناريوهات "مستحيلة" تتحدى قوانين الفيزياء التي تعلمها، أعرب عن دهشته (أو ما يعادلها بالذكاء الاصطناعي): كان ذكياً بما يكفي لإدراك أن شيئاً غريباً قد حدث خالف قوانين الفيزياء. كذلك، تمكن بلاتو من استخدام الفيزياء البديهية واكتشاف انتهاك القوانين حتى عند مشاهدة مجموعة بيانات فيديو منفصلة تضم أشياءً لم يسبق له رؤيتها من قبل، حيث يتنبأ بدقة بالحدث المحتمل التالي الذي سيحدث بعد أن يفهم أمراً بديهياً دون أن يحتاج لإعادة التدريب.
اقرأ أيضاً: لن تكون بمفردك في ألعاب الفيديو الافتراضية بعد اليوم
تفوق على النماذج العادية
يعتبر الفريق أن الاكتشاف المثير الذي توصلوا إليه هو أن نظام التعلم العميق الذي يحتوي على "توقعات مبدئية" مدمجة حول كيفية تصرف الأشياء وتفاعلها مع بعضها، يتفوق في الأداء على نظام يبدأ بسجل فارغ ويحاول التعلم من التجربة فقط.
لمقارنة النهجين، أعطاهما الباحثون مقاطع فيديو لمكعبات تنزلق إلى أسفل منحدر، وكرات ترتد عن حائط. وقد وجد بيلوتو وزملاؤه أن نموذج التعلم العميق الذي بدأ بسجل فارغ قام بعمل جيد، لكن النموذج المستوحى من إدراك الرضع كان أفضل بكثير. يمكن للنموذج الأخير أن يتنبأ بشكل أكثر دقة بكيفية تحرك الجسم، وكان أكثر نجاحاً في تطبيق توقعاته على الرسوم المتحركة الجديدة. كما أنه تعلم من مجموعة أصغر من الأمثلة (ما يعادل 28 ساعة من مقاطع الفيديو).
اقرأ أيضاً: طفرة الألعاب الصوتية تمنح الأطفال استراحة من التحديق المستمر في الشاشة
تكمن أهمية هذا التطور، كما يشير بيلوتو، في أننا "إذا أردنا نشر أنظمة آمنة ومفيدة في العالم الحقيقي، فسنحتاج أن تشاطرنا هذه النماذج إحساسنا البديهي بالفيزياء". بالإضافة إلى ذلك يأمل الباحث أن يستخدم علماء الإدراك هذا التطور في نهاية المطاف لإجراء نمذجة جادة لسلوك الأطفال الرضع.