ما هي أسباب الانهيار غير المسبوق في أسعار العملات الرقمية المستقرة؟

12 دقيقة
كابوس جديد للمستثمرين: انهيار غير مسبوق في أسعار العملات المستقرة
حقوق الصورة: shutterstock.com/lluiscarot

من المعروف أن سوق العملات الرقمية المشفرة ليس مستقراً؛ حيث كثيراً ما تنخفض الأسعار ثم ترتفع بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار. على سبيل المثال وصلت العملات الرقمية المشفرة الأشهر البيتكوين والإيثر إلى أدنى مستوياتهما منذ عام 2020، بينما كان أداء العملات الأخرى الأقل شهرة مثل الدوج كوين وكاردانو أسوأ بكثير.

في حين أن التقلب في السعر يعتبر أمراً سيئاً لمعظم مستثمري العملات المشفرة، فإن الأمر غير المسبوق هو الانهيار الكبير الذي حصل لسوق "العملات المستقرة" التي خسرت نحو 45 مليار دولار من قيمتها السوقية في غضون أسبوع. ما أدى إلى حدوث موجات صدمة في جميع أسواق العملات الرقمية المشفرة.

ما هي العملات الرقمية المستقرة؟

"العملات الرقمية المستقرة" (Stablecoin) في جوهرها هي عملات رقمية مرتبطة بأصل احتياطي حقيقي، وهي بمثابة نسخة رمزية من العملات الورقية أو الأصول الأخرى ذات القيمة الثابتة، مثل الدولار أو اليورو أو الذهب أو النفط أو العقارات، حيث أن الدعم بأصول أخرى يجعل قيمة العملات الرقمية المستقرة أقل عرضة للتغيرات في الأسعار، ومن هنا جاء اسمها.

وفقاً لمجلس شبكة البلوك تشين، ويتألف من مجموعة موثوقة من الخبراء يعملون على تطوير تكنولوجيا البلوك تشين، بلغت القيمة السوقية لأكبر ثلاث عملات رقمية مستقرة  78.6 مليار دولار، بينما بلغ إجمالي القيمة السوقية لجميع العملات الرقمية المستقرة والتي تصل إلى نحو 200 عملة نحو 130 مليار دولار. ويستخدم المستثمرون العملات الرقمية المستقرة لحماية أموالهم من تقلبات الأسعار المفاجئة المرتبطة بالعملات المشفرة الأخرى.

تستخدم منصات "التمويل اللامركزية" (Decentralized finance) –اختصاراً DeFi-  العملات المستقرة لإقراض العملات المشفرة لعملائها. والسبب في استخدامها للعملات المستقرة هو أنه من غير المرجح أن تتغير قيمة العملات الرقمية المشفرة المدعومة بالضمانات أو العملات بشكل كبير بين الوقت الذي تتم فيه الموافقة على طلب العميل للحصول على قرض وهبوط سعر العملة المشفرة في محفظته الرقمية المشفرة.

اقرأ أيضاً: هل يمكن تأسيس عملات رقمية خاصة بشعبٍ ما؟

على سبيل المثال، إذا كان سعر عملة "تيثر" (Tether) التي تعد أشهر عملة رقمية مستقرة هو 2000 دولاراً، يمكن للمستثمر استبدال عملة تيثر واحدة مقابل 2000 دولاراً أميركيّاً. وإذا انخفض غداً بنسبة 50% فستظل هذه العملات تساوي 2000 دولاراً أميركياً ويمكن تداولها مقابل اثنتين من عملات التيثر.

في هذا الصدد يذكر "سايروس يونيسي" (Cyrus Younessi) الرئيس السابق لإدارة المخاطر في شركة "ماكير داو" (MakerDAO)،  التي تطور عملة "داي" (DAI) المستقرة: "العملة الرقمية المستقرة هي جزء لا يتجزأ من شبكات التمويل اللامركزية، حيث أن العملات الرقمية الأخرى مثل البيتكوين والإيثر لديها جانب سلبي رئيسي وهو تقلب أسعارها، لذا إذا كان بإمكان المستثمرين سحب أصول العملات الرقمية المستقرة وتحويلها إلى منتجات فهي صفقة رابحة وضخمة للغاية".

انهيار غير مسبوق للعملات الرقمية المستقرة

من بين جميع العملات الرقمية المستقرة الموجودة الآن، حل الانهيار غير المسبوق بعملتي "يو إس تي" (UST) و"لونا" (Luna)، وكلاهما جزء من شبكة "تيرا بلوك تشين" (Terra Blockchain)، مفاجئاً وصادماً للمستثمرين، حيث انهارت عملة "يو إس تي" (UST) الرقمية المستقرة -التي صُممت للاحتفاظ بقيمة دولار واحد في جميع الأوقات- إلى سعر غير مسبوق لتصل إلى 13 سنتاً فقط حتى وقت كتابة هذه السطور.

بينما كان الانهيار الأكبر لعملة "لونا" (Luna)، المصنفة ضمن أفضل 10 عملات رقمية مستقرة قيمة، صادماً بعد انخفاض سعرها من 116 دولاراً في شهر أبريل الماضي لتصل إلى أقل من سنت واحد فقط في الوقت الحالي،  في واحدة من أكثر حوادث انخفاض العملات الرقمية المشفرة التى تم تسجيلها حتى الآن.

وعلى الرغم من أن العملات الرقمية المشفرة تواجه باستمرار حالات الصعود والهبوط في أسعارها، ولكن لم يحدث أبداً انهيار سعر بحجم الذي حصل لعملة "لونا" التي تجاوزت قيمتها السوقية 40 مليار دولار في الشهر الماضي فقط.

وبحسب "مايك بوروس" (Mike Boroughs) المؤسس المشارك لشركة استثمارات العملات المشفرة "فورتيس ديجيتال" (Fortis Digital): "هذا أمر تاريخي بالنسبة لأسواق العملات الرقمية المشفرة، وتعتبر لحظة حاسمة لصناعة العملات الرقمية المشفرة نظراً لحجمها وتأثيرها من حيث عدد الأشخاص الذين فقدوا قيمة كبيرة من عملاتهم الرقمية المشفرة".

كيف حصل الانهيار الكبير؟

لفهم كيفية حصول الانخفاض غير المسبوق لسعر عملة UST و Luna عليك معرفة أن شبكة "تيرا" (Terra) عبارة عن شبكة بلوك تشين مثل شبكة (إيثيريوم)، وفي حين أن شبكة "إيثيريوم بلوك تشين" تنتج عملات مشفرة تُسمى "إيثر" وهي ثاني أكبر العملات المشفرة شهرةً وتداولاً بعد البيتكوين، فإن شبكة "تيرا بلوك تشين" (Terra Blockchain) تنتج بشكل أصلي عملة "لونا" (Luna) الرقمية المستقرة والتي وصل سعر تداولها قبل الانهيار إلى 85 دولاراً، والعملات الرقمية المشفرة المستقرة الأخرى المرتبطة بها، مثل عملة "يو إس تي" (UST) تُسمى أيضاً "تيرا يو إس دي" (TerraUSD) والتي اكتسبت سمعة كبيرة منذ إطلاقها في 2020 باعتبارها العملة المستقرة الأكثر قابلية للتطوير.

وعلى عكس العملات الرقمية المستقرة الأخرى مثل "يو إس دي كوين" (USD Coin) أو "تيثر" (Tether)، فإن عملة "تيرا يو إس دي" (TerraUSD) عملة مستقرة حسابية تعتمد على الهندسة المالية بدلاً من الأصول الثابتة، للحفاظ على ارتباطها بالدولار، وهذا يعني أنها غير مدعومة بأي أصول حقيقية، حيث يعتمد نجاحها على ثقة المستثمرين في أن عملة "لونا" (Luna) التي تدعمها لن تنخفض قيمتها.

وهذا يعني أنه من أجل صك عملة TerraUSD واحدة يجب حرق -أي استبدال- ما قيمته 1 دولار أميركي من أصل احتياطي عملة Luna المدعومة، والمقصود من هذا البروتوكول الانكماشي ضمان نمو عملة "لونا" (Luna) على المدى الطويل. فمع زيادة المستثمرين الذين يشترون عملة TerraUSD، سيتم حرق المزيد من عملة "لونا" (Luna) ما يجعل مخزون عملة "لونا" (Luna) المتبقي أكثر قيمة.

و لإغراء المستثمرين بحرق أكبر كمية من عملات Luna من أجل إنشاء عملة TerraUSD، قدم منشؤها نسبة فائدة تصل إلى 19.5% من خلال برنامج إقراض يُسمى "أنكر" (Anchor)، وهذا يعني بدلاً من الاحتفاظ بالمدخرات في البنك بسعر فائدة 0.06% فإن الفكرة هي استخدام هذه الأموال لشراء عملة TerraUSD المستقرة حيث يمكن للمستثمر كسب ما يقرب من 20% من الفوائد.

اقرأ أيضاً: خطوة بخطوة: دليلك الشامل إلى إنشاء محفظتك الرقمية الأولى

وقد أدى هذا إلى زيادة الطلب على عملة TerraUSD حيث سارع العديد من مستثمري العملات الرقمية لشرائها وإيداعها في منصة "بلوك شين تيرا" لجني أرباح ثابتة، حيث يمكن دائماً استبدال عملة TerraUSD بمبلغ 1 دولار من عملة Luna المستقرة المدعومة من البنك.  فإذا انخفض سعر TerraUSD إلى مبلغ 99 سنتاً يمكن للمتداولين الربح عن طريق شراء كمية ضخمة من عملات TerraUSD واستبدالها بعملة Luna، وبالتالي يربح المتداول 1 سنتاً لكل عملة. وهذا يعني أن المستثمرين الذين يشترون عملة TerraUSD يرفعون السعر، بينما يؤدي حرقها أثناء تبادلها مع عملة Luna إلى تقليص العرض.

ولكن في ذلك الوقت، أظهرت لوحة معلومات برنامج الإقراض أن هناك المزيد من العرض يقابله تراجع في الطلب. هنا بدأ مؤسس منصة "بلوك تشين تيرا" في إيداع الأموال في احتياطي المنصة لضمان مطابقة نسبة العرض والطلب. وفي الأساس كان المؤسس يشتري المزيد من عملة بيتكوين المشفرة بمبلغ وصل الى نحو 2.3 مليار، بحيث يتم إرسال أسعار الفائدة إلى المستثمرين.

والهدف هو إذا انخفض سعر عملة TerraUSD إلى أقل من دولار واحد، فسيتم بيع احتياطيات عملة البيتكوين وشراء عملات TerraUSD مع العائدات. وإذا تجاوزت عملة TerraUSD حاجز 1 دولار فسيقوم منشئو المنصة ببيع عملة TerraUSD حتى تعود إلى دولار واحد، مع استخدام الربح لشراء المزيد من عملة البيتكوين لتعبئة الاحتياطيات.

ومع ذلك لم يتغير معدل المقترضين، ومن ثم عندما انكسرت نسبة العرض والطلب، انتشرت شائعة مفادها أن المستثمرين يمكنهم خفض سعر الفائدة كل شهر، ما أدى في النهاية إلى سحب المستثمرين عملات TerraUSD الخاصة بهم من برنامج الإقراض، وبدؤوا في تبادل عملة TerraUSD مقابل عملات Luna.

اقرأ أيضاً: من الرقمية إلى الحياة الواقعية: 5 مشكلات يمكن أن تحلها تكنولوجيا البلوك تشين

خلال هذا الوقت، كان لدى منصة "سيلسيوس" (Celsius) التي تقدم مكافآت مقابل إيداع العملات المشفرة في منصتها، إلى جانب خدمات أخرى مثل القروض والمدفوعات، ما لا يقل عن نصف مليار دولار من الأموال المجمدة في برنامج الإقراض "أنكر" (Anchor)، قامت بسحبها كلها خلال 24 ساعة فقط قبل حدوث الانهيار بفترة قصيرة.

ومع تزايد عدد المستثمرين الذين بدؤوا في التخلص من عملة TerraUSD، ارتفع المعروض من عملة Luna وأدى هذا إلى انخفاض سعرها بشكل حاد، وفي النهاية توقفت آلية التوازن وتحطمت أسعار كل العملات الرقمية المستقرة في منصة "تيرا بلوك تشين".

حيث انخفض سعر عملة TerraUSD إلى أقل من دولار واحد (0.225 سنتاً) بنسبة انخفاض يصل إلى 80%، كما انخفضت قيمتها السوقية من 18 مليار دولار في أوائل شهر مايو الحالي إلى 2 مليار دولار في الوقت الحالي، بينما انخفض سعر عملة Luna إلى نحو 4 دولارات مسجلاً انخفاضاً بنسبة 90٪ تقريباً،  بعد أن وصل سعر تداولها في شهر أبريل الماضي إلى 120 دولار.

ووفقاً لشركة تحليلات العملات الرقمية "بلوك تشين إليبتيك" (Blockchain Elliptic)  فقد أوقع الانخفاض الحاد والسريع لعملتي TerraUSD و Luna خسائر فادحة للمستثمرين الذين خسروا نحو 42 مليار دولار. كما أثر انهيار هاتين العملتين أيضاً على سعر جميع العملات الرقمية المشفرة الأخرى تقريباً، حيث فقدت عملة البيتكوين –أكبر عملة رقمية مشفرة قيمة- نحو ربع قيمتها في الفترة ما بين 9 و 12 من شهر مايو الحالي.

اقرأ أيضاً: متى سيتم تعدين كل عملات البيتكوين؟ وماذا سيحصل للعملة حينئذ؟

هل ما حصل نتيجة لهجوم سيبراني؟

تكهن الكثير من المتابعين بأن هذا الانهيار الكبير وغير المسبوق في عملات رقمية مشفرة يفترض فيها أن تكون مستقرة هو نتيجة هجوم سيبراني منسق مسبقاً، حيث ذكر بعض أصحاب نظريات المؤامرة بأن المهاجمين أرادو كسر سعر عملة TerraUSD للاستفادة من بيع عملة البيتكوين على المكشوف، أي المراهنة على انخفاض سعرها. فإذا كان المهاجمون المحتملون قد قاموا بإنفاق 2 مليار دولار في وقت واحد لشراء عملة TerraUSD لخفض سعرها، هذا يعني أن فريق تطوير عملة TerraUSD سيضطر إلى بيع أجزاء من احتياطي البيتكوين الخاص به لإعادة تثبيت العملة المستقرة. وبمجرد أن يرى المستثمرون أن عملة TerraUSD فقدت ربطها مع العملة المستقرة المدعومة Luna، سوف يندفعون بعد ذلك إلى فك الارتباط وبيع عملات TerraUSD الخاصة بهم، الأمر الذي يتطلب بيع المزيد من احتياطيات البيتكوين، ما يزيد من ضغط البيع.

وعلى الرغم مما سبق ذكره، فإن هذا التفسير لا يزال مجرد تكهنات وتحليلات غير مدعومة بدليل حتى الآن، إلا أن الرئيس السابق لإدارة المخاطر في شركة "ماكير داو"  (MakerDAO) يؤكد قائلاً: "إن المسؤولية تقع على مطوري العملات الرقمية المشفرة لإنشاء أنظمة أكثر أماناً، حيث أن وظيفة المطورين هي بناء أنظمة تمويل لا مركزية مقاومة للاستغلال، وما حصل يعتبر حرفياً نموذج التهديد الأصلي الذي يبنيه أي مطور في مجال العملات الرقمية المشفرة".

بينما يقول المؤسس المشارك لشركة استثمارات العملات المشفرة "فورتيس ديجيتال" (Fortis Digital): "إذا تعرضت عملات TerraUSD المشفرة للهجوم، فهذا يعني أنه يمكن عمل سيناريوهات مماثلة ضد العملات الرقمية المشفرة الأخرى، والسؤال الذي يدور الآن هو: هل انتشر ما حدث لعملة TerraUSD إلى عملات مستقرة أخرى؟".

ويضيف قائلاً: "إذا عثر كِبار المهاجمين السيبرانيين على ثغرة أو أسلوب لشن هجوم على عملة TerraUSD، فهذا من شأنه أن يبعث على القلق من أنهم قد يتمكنوا من إعادة استغلال هذه الثغرة  لشن هجمات أخرى ضد صناعة العملات المشفرة بسهولة".

اقرأ أيضاً: عملية اختراق بقيمة 620 مليون دولار: يوم عادي في أوساط العملات المشفرة

ما تداعيات هذا الانهيار على صناعة العملات الرقمية المشفرة؟

بحسب العديد من المتابعين فإن هذا الانهيار غير المسبوق لأسعار العملات الرقمية المشفرة المستقرة، أفرز ثلاث نتائج مهمة من الصعب تجاهلها، وهي:

  • أولاً: خطورة الاستثمار في العملات الرقمية المشفرة

انهيار أسعار عملتي TerraUSD و Luna يقدم لمحة بسيطة عن مدى خطورة الاستثمار في مجال العملات الرقمية، حيث أدى هذا الانهيار إلى تراجع سوق العملات المشفرة بالكامل، مع ورود تقارير أن سوق العملات المشفرة قد خسر أكثر من 15 مليار دولار من خلال انهيار أسعار هاتين العملتين فقط.

وبناء عليه، وردت العديد من التقارير القصصية عن أن العديد ممن كانت مدخراتهم مرتبطة بعملة TerraUSD مروا بمشكلات نفسية شديدة، والأكثر إثارة للقلق هو إبداء الكثير منهم ميول لإيذاء النفس أو حتى الانتحار في مرحلة ما، حيث أمضى العديد من الضحايا في المتوسط خمس سنوات في بناء المدخرات التي فقدوها، حيث قال اثنان من الضحايا  إنهم فقدوا ما قيمته 20 عاماً من المدخرات بسبب انهيار سعر العملتين.

وعلى الرغم من أن هذه التقارير غير مؤكدة حتى الآن، إلا أنه من المؤكد أن هناك الكثير من المستثمرين فقدوا الكثير من مدخراتهم بين عشية وضحاها في هذا الانهيار، وقد شكلوا بالفعل مجتمعاً عبر الإنترنت يُسمى "ضحايا عملة تيرا-لونا" (Terra-Luna)" بهدف تقديم دعوى قضائية جماعية ضد المؤسسين المشاركين لمنصة "تيرا بلوك تشين"، خاصة أنه لم يتم احتواء الضرر الذي لحق بالنظام البيئي للمنصة حتى الآن.

  • ثانياً: مدى موثوقية وأمان العملات الرقمية المستقرة

أثار الانهيار المفاجئ لسعر عملتي TerraUSD و Luna تساؤلات حقيقية ومخيفة حول مدى أمان العملات المشفرة المستقرة الأخرى، حيث وضح أن استقرار هذه العملات الرقمية موضع شك إلى حد ما، على سبيل المثال، اتهم المدعي العام في نيويورك العام الماضي 2021 مطوري عملة "تيثر" (Tether) المستقرة، ثالث أكبر عملة مشفرة بقيمة سوقية تصل إلى 83 مليار دولار، بالكذب بشأن مقدار احتياطاتها بالدولار. حيث جاء في الدعوى القضائية أن مطوري العملة يحتفظون بأقل من 4% من الاحتياطيات النقدية. كما قال المدعون إن بيانات الحسابات العامة للشركة كانت غامضة، وإنها لم تخضع لأي تدقيق احترافي، على الرغم من وعدها بتحقيق الشفافية للمستهلكين.

وسابقاً في فبراير من العام نفسه، فرض المدعي العام في نيويورك غرامة قدرها 18.5 مليون دولار على مطوري عملة "تيثر"، بعد أن كشفت التحقيقات أن مزاعمها باحتفاظها باحتياطيات كافية من الدولار لدعم عملتها المشفرة المستقرة –اختصاراً USDT- في أسواق التداول كانت خاطئة وغير صحيحة.

وعلى الرغم من أن مطوري عملة "تيثر" قد ردوا على مثل هذه الدعاوي سواء بدفع الغرامة أو تقارير أداء أو ببيانات صحفية تهاجم فيها الأطراف التي رفعت الدعوى ضدهم، إلا أن حجم التساؤلات والتشكيك الذي ظهر الآن في قطاع العملات المشفرة المستقرة بعد الانهيار قد يؤثر كثيراً على مصداقيتها مستقبلاً، وقد لا يجعلها بالضرورة استثماراً جيداً أو مضموناً، خاصة وأن الهدف منها هو الحفاظ على مدخرات مستثمريها حيث تتمثل نقطة بيعها في استقرارها المفترض بسبب ارتباطها بعملة أو سلعة أخرى. ولكن انهيار أسعارها غير المسبوق قد يجعل من الصعب على الكثير من المستثمرين الاستثمار فيها مستقبلاً.

اقرأ أيضاً: ما هي سلاسل الكتل «البلوك تشين»؟ وكيف تعمل هذه التكنولوجيا؟

  • ثالثاً: هل حان وقت تدخل الجهات الحكومية لتنظيم عمل العملات الرقمية المستقرة؟

وهي من أبرز النقاط التي جذبت الكثير من الانتباه، وربما الأهم حتى الآن، حيث أن انهيار أسعار عملتي UST و TerraUSD العنيف والسريع جذب انتباه السياسيين والمنظمين الأقوياء. على سبيل المثال ذكرت وزيرة الخزانة الأميركية "جانيت يلين" (Janet Yellen) في جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأميركي: "إن فك ارتباط عملة TerraUSD يوضح ببساطة أن العملات الرقمية المستقرة منتج سريع النمو وهناك مخاطر متزايدة على الاستقرار المالي. ونحن بحاجة إلى إطار عمل فدرالي متسق لتنظيم عملها مثل البنوك، حيث إن القوانين الحالية لا توفر معايير شاملة للأصول الجديدة". بينما قالت عضوة لجنة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية "هيستر بيرس" (Hester Pierce): "أن القواعد الأكثر صرامة حول العملات الرقمية المستقرة قد تقترب، وربما سيكون هناك مكان قد نشهد فيه بعض الحركة التنظيمية المتعلقة بالعملات الرقمية المستقرة".

وأضافت في حديثها عبر الإنترنت في منتدى المؤسسات المالية والنقدية الرسمي (OMFIF): "من الواضح أن هذا موضوع حظي بالكثير من الاهتمام هذا الأسبوع، وأن هيئة الأوراق المالية والبورصات لديها فرصة لاستخدام العملات المستقرة في المستقبل والمنصات التكنولوجية حيث يتم تداولها، ولكن تحت سلطة وقواعد الهيئة، وهناك خيارات محتملة مختلفة للتعامل مع العملات المستقرة، سواء عبر الهيئة نفسها أو البنوك".

كما أعرب رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية "غاري جينسلر" (Gary Gensler) الذي يعتبر من المؤيدين لتنظيم ورقابة عمل صناعة العملات الرقمية المشفرة، ويصف هذه الصناعة بعبارة "الغرب المتوحش"، عن مخاوفه بعد انهيار هاتين العملتين المستقرتين. حيث ذكر في تصريح للصحفيين: "أخشى أنه في صناعة العملات الرقمية المشفرة سيكون هناك الكثير من الأذى، وهذا من شأنه أن يقوض بعض الثقة في الأسواق بشكل كبير، وإن الوكالة يجب أن تعالج مخاطر العملات المستقرة لأن العملات الرقمية المشفرة المرتبطة بالأصول تثير مخاوف تتعلق بالاستقرار المالي والسياسة النقدية". وأضاف قائلاً: "إن التقلبات في أسواق العملات المشفرة في الأسابيع الأخيرة تسلط الضوء على المخاطر التي يتعرض لها الاستثمار العام، وهناك قضايا تتعلق باستخدامها المحتمل في أنشطة غير مشروعة، وهذا يتطلب زيادة ميزانية لجنة الأوراق المالية والبورصات لمراقبة صناعة العملات المشفرة".

اقرأ أيضاً: هل ينجح مليارديرات العملات المشفرة في بناء مدنهم الخاصة؟

كيف تعامل العالم مع هذا الانهيار في أسعار العملات الرقمية المشفرة؟

عن تأثير هذا الانهيار على المستوى الدولي، يقول خبير التشفير "سام رينولدز" : "إن دولة سنغافورة التي سُجلت فيها مؤسستا "تيرا فورم لاب" (Terraform Labs) و"لونا فاوندايشن جارد" (Luna Foundation Guard)  اللتان تدعمان عملتي TerraUSD و Luna قد تبدأ في تشديد  القواعد المحيطة بشركات العملات المشفرة المسجلة لديها، لفصل الاختصاص القضائي المرتبط مع ممارسة الأعمال التجارية في الخارج بشكل أساسي".

وفي هذا الصدد يقول خبير العملات المشفرة السنغافوري " آندي ليان" ومؤلف كتاب "ثورة البلوك تشين 2030" (Blockchain Revolution 2030): "من منظور سنغافوري، إذا كنت مستثمراً بالتجزئة وتشعر أنك وقعت ضحية للاحتيال وخسرت مبلغاً معيناً من الدولارات على الورق على الرغم من أنك احتفظت باستثمارك ولم تبع، فهذه دعوى قضائية محتملة يمكن للسنغافوريين أن يلاحقوا المتسببين بها أو يمكن للحكومة أن تلاحقهم نيابة عنك". وأضاف قائلاً: "أعتقد أن الحكومة السنغافورية ستتخذ بالتأكيد بعض الإجراءات بعد هذا الانهيار، ونظراً إلى أن هذا حدث عالميّ، فقد تكون هناك مصلحة مشتركة للولايات المتحدة وسنغافورة للعمل معاً في هذه القضية".

كما أطلقت السلطات الكورية الجنوبية التي يحمل جنسيتها مؤسس العملة تحقيقاً طارئاً في القضية بعد أن قدم المستثمرون في سنغافورة تقارير للشرطة، وذكرت أيضاً دائرة الرقابة المالية في كوريا الجنوبية (FSS) أن هناك حاجة إلى زيادة التعاون مع السلطات الأجنبية لتنظيم سوق العملات المشفرة بعد انهيار عملتي TerraUSD و Luna.

اقرأ أيضاً: هل يمكن استعادة عملات البيتكوين بعد موت صاحبها؟ كيف يمكن ذلك؟

ما هي الخطة التي اقترحها المطورون لتعويض المستثمرين؟

بعد أن تساءل البعض، بما في ذلك الرئيس التنفيذي لبورصة العملات الرقمية المشفرة "بينانس" (Binance)،  عن كيفية استخدام احتياطيات البيتكوين الخاصة بالمشروع لتعويض المستثمرين، ذكر مطورو العملة في بيان عبر تويتر أن احتياطيات البيتكوين انخفضت من 80,000 "نحو 2.2 مليار دولار" إلى 313 فقط "نحو 9.2 مليون دولار". 80،000 (نحو 2.2 مليار دولار) إلى 313 فقط (9.2 مليون دولار).

ووفقاً لمطوري العملة سيتم استخدام الاحتياطيات المتبقية لتعويض مستثمري عملة TerraUSD الباقين والبداية ستكون بأصحاب الاستثمارات الصغيرة، في غضون ذلك صرح المطور والرئيس التنفيذي للمشروع "دو كوون" (Do Kwon) أن لديه خطة مثيرة لإحياء عملة Luna من جديد. حيث اقترح خطة لتفرع شبكة "تيرا بلوك تشين" الرئيسية، على غرار ما فعله مطورو عملة شبكة "إيثيريوم بلوك تشين" في عام 2016 بعد سرقة أكثر من 3.6 مليون عملة "إيثر"، والتي بلغت قيمتها في ذلك الحين 50 مليون دولار.

وفي جوهره هذا يعني إنشاء شبكة بلوك تشين جديدة على غرار النموذج السابق، مع بعض التغييرات الرئيسية. سيتم إنشاء الشبكة الجديدة جنباً إلى جنب مع مليار من عملة Luna والتي سيتم توزيعها بين مستثمري العملتين الحاليين، بالإضافة إلى تمويل تطوير تطبيقات الشبكة الجديدة، وإزالة عملة TerraCED من النظام البيئي للمشروع.

المحتوى محمي