يقوم الاقتصاد الدائري على فكرة بسيطة. فإذا كان الاقتصاد الحالي عبارة عن عملية إنتاج ضخمة تؤدي إلى عملية "إطراح" ضخمة، فإن الاقتصاد البديل سيؤدي إلى تخفيف كمية المواد التي سنحتاج إلى استخلاصها من الكوكب، وتأخير الوصول إلى مرحلة إعادة التدوير قدر الإمكان. ويمكن أن يؤدي هذا الاقتصاد البديل الذي يقوم على حسن إدارة الموارد إلى إعادة النظر في كميات الإنتاج، ويؤدي إلى إعادة تأطير الاستهلاك ضمن حدود اقتصاد عالمي مستدام وقائم على إعادة التوليد. وبهذا فنحن نسعى إلى إطالة زمن دوران المواد والمنتجات الحالية ضمن الاقتصاد لأطول فترة ممكنة. ومؤخراً، ظهرت موجة من رواد الأعمال والمستثمرين ممن قرروا مواجهة تحدي تسريع وتيرة الانتقال إلى الاقتصاد الدائري. ولكن، وعلى الرغم من وجود تحولات جارية هادئة في أنواع المواد، فإن التركيز الأساسي يتمحور حول نوع جديد من المنصات الدائرية.
اقرأ أيضاً: الابتكار التكنولوجي وأهميته في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية
تجارب شركات مختلفة
وقد قامت شركة "غروفر" (Grover) مؤخراً بجمع 330 مليون دولار لتغيير كيفية تأجير التكنولوجيات والإلكترونيات الاستهلاكية، وتوسيع نموذج تسجيل الاشتراك. كما أصبحت "باكماركت" (Backmarket) الشركة الناشئة الأعلى قيمة في فرنسا، وهي تكرس عملها لتغيير وجهة نظر المستهلكين في شراء الإلكترونيات الاستهلاكية. أما "ريفيربد" (Refurbed) فقد برزت كمنافس لباكماركت بمستوى أقل، ولكنها تواصل العمل على تحقيق نفس الهدف.
وتركز "غرين سيركل" (Green Circle) على تحسين التواصل والتعامل بين المستهلكين لتحسين تدوير المنتجات بين المستهلكين، والحصول على قاعدة أساسية أكبر من "المنتجين-المستهلكين" في الاقتصاد الدائري. وتسعى "أوليو" (Olio) إلى دفع التجمعات السكانية إلى انتهاج أسلوبي الإعطاء والإعارة، وذلك لبناء تنظيم لامركزي لجمع وتوزيع الأشياء التي يمكن أن تؤول بدلاً من ذلك إلى مخلفات، بدءاً من البقالة والطعام وصولاً إلى الملابس. وتركز كل شركة على الاستراتيجية الأساسية التي كانت صناعة المنتجات والتكنولوجيات الاستهلاكية تحاول ترسيخها على مدى العقود الماضية، والتي تقول بأن الجديد هو الأفضل. إن النقلة الثنائية في الإنفاق الاختياري من قبل المستهلكين والحاجة إلى إيجاد التوافق بين عمليات الشراء والاستدامة تحاول إيقاف هذا التوجه. وقد أدركت الشركات الكبرى في مجال التكنولوجيا الاستهلاكية هذا الأمر، حيث استثمرت كل من "آبل" (Apple) و"جوجل" (Google) في الاستراتيجيات الدائرية على مدى عدة سنوات لاسترجاع المواد الأساسية من منتجاتها القديمة. ولكن من المهم أن نفهم أن تأثير المنصات الدائرية، والذي يتجاوز بدرجة كبيرة زعزعة هذا التوجه الاستهلاكي الكبير، أمر جيد.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للحكومات أن تحرك الاقتصاد الدائري لتحسين مستقبل العمل؟
أما الجانب الآخر الذي يركز عليه المستهلكون من حيث الأثر البيئي للمنتجات هو التعليب. وتقوم مبادرة "لوب" (Loop) من شركة "تيراسايكل" (Terracycle) على تجديد نموذج بائع الحليب وتوسيعه، والذي يقوم على جلب عدة منتجات إلى باب المنزل وجمع الأوعية الفارغة، وما زالت تحظى باهتمام عالمي. وعلى الرغم من أنها ليست منصة كذلك بالمعنى الحرفي، فهي عمل استثماري جديد يركز على توزيع وتنظيف الأوعية المتينة، ويسعى إلى دفع المستهلكين إلى إدراك أهمية الأوعية المتينة، وأيضاً، كيفية القيام بهذا الأمر بتكلفة أقل وعلى المستوى المحلي. ويعكس موقع غرين سيركل كمنصة المشكلات الاستهلاكية الناجمة عن محاولة إعادة المنتجات الموجودة إلى الاستخدام، وتفادي التعليب المستخدم لمرة واحدة في هذه العملية.
المنصات تعكس الرؤية للانتقال نحو الاقتصاد الدائري
وتوجد عبر هذه المنصات رؤية لانتقال الاقتصاد الدائري بسرعة إلى الفضاء الرقمي. حيث يستطيع المستهلكون فهم التكنولوجيا الاستهلاكية الخاصة بهم وقرارات شراء المنتجات الاستهلاكية على ضوء الأثر البيئي الذي يرغبون بتفاديه. وقد أصبحت نماذج الأعمال المبنية على المنصات في وضع ملائم يمكّنها من تسريع الاقتصاد الدائري، ما يسمح بوجود ترابط بين شتى أطراف السوق وإنشاء الحلقات الأساسية التي تسمح للمنتجات بالبقاء قيد الاستخدام في الاقتصاد. وتكمن أهمية المنصات للاقتصاد الدائري في كسر العلاقات الكامنة المعزولة بين المنتجات القائمة والمستهلكين، ما يخفف من الاحتكاكات ويحسن الثقة ويؤسس لمساحات جديدة في الأسواق. ولكن القدرة على الربط بين أطراف متعددة من السوق وإدارتها تبين شيئاً مهماً حول الوضع الحالي لكيفية تعامل المستهلكين والشركات مع المنتجات.
اقرأ أيضاً: انخفاض الانبعاثات هذا العام قد لا يتجاوز 4% رغم توقف عجلة الاقتصاد العالمي
وعلى الرغم من وجود الأفكار والاهتمام، إلا أن المعرفة الدقيقة بأساليب التوزيع غير موجودة. ولكن الأهم من ذلك، يتم تعزيز الأنظمة البيئية المحلية المحدودة لجميع الجهات الفاعلة التي تؤدي أدواراً ضئيلة. حتى أن الجولات العديدة التي أطلقها الاتحاد الأوروبي مؤخراً لتمويل الانتقال الدائري بدأت تسمح للمنصات بتعزيز موضعها كنموذج أساسي في هيكلة النظام البيئي الأوروبي للجهات الفاعلة الدائرية. وتمثل المبادرات مثل "ديجيبليس" (DigiPLACE) و"بايوويز" (BIOWAYS) ومنصة الجهات المساهمة في الاقتصاد الدائري إثباتاً على هذا الأمر.
وعلى حين كشفت غروفر وباكماركت التغيرات في الشراء والتوزيع، توسعت لوب عبر السلسلة بأكملها. ولكن غروفر تبدو أقرب إلى نموذج دائري عَرَضي، ما يبين الحاجة إلى إعادة تأطير "النهج الدائري" كدفعة نحو الاستدامة بدلاً من اعتبارها نموذجاً اقتصادياً بحد ذاته. وتكشفت صعوبات حلقات تيراسايكل عن نقص في الجهات الوسيطة وأنظمة تفتقر إلى النضج، وهي تكشف على وجه الخصوص عن الافتقار إلى بنى تحتية كافية مخصصة للجمع والتنظيف. وبصورة مماثلة، سيكون أثر وتوسع باكماركت وغروفر محدوداً بطبيعة تطور كل من عمليات الجمع والتوزيع الذي تشهده منتجات الاقتصاد الدائري. ومن المحتمل أن المنصات الرقمية للقطاع الخاص تقوم بتمهيد الطريق، ولكننها تبين أيضاً الحاجة إلى أنظمة بيئية أكثر رسوخاً واستقراراً بشكل يناسب الأطراف القائمة على العمل والمشرفة على عمليات الصيانة، لا التي تقوم بالابتكار.
اقرأ أيضاً: ما تداعيات منع المتاجرة بالرموز غير القابلة للاستبدال على مستخدمي المنصات الصينية؟
الاقتصاد الدائري يتطلب وجود اقتصاد رقمي
وتعتبر عمليات التجديد والإصلاح ميزات أساسية لأي اقتصاد، وكانت موجودة قبل ثورة الإنتاج بكميات كبيرة بفترة طويلة، وستبقى موجودة بعدها لفترة طويلة أيضاً. ونظراً لأن الجيل الانتقالي يحتل موقعاً مركزياً في صياغة كيفية توزيع التكنولوجيا والمنتجات الاستهلاكية في الاقتصاد، يمكن إعادة توجيه الاهتمام الوطني نحو تنظيم المعلومات لتمكين التدفق الدائري للمواد بصورة أفضل. إن واقعية الانتقالات الدائرية أصبحت أكثر بساطة، وبصورة متزايدة. فلن يكون هناك اقتصاد دائري من دون اقتصاد رقمي فعال وراسخ وخاضع لإدارة محكمة.
وقد أصبحت منصات الاقتصاد الدائري الوطنية في طور الصعود وفي مركز النقاشات في جميع أنحاء العالم. ويمكن لتعزيز الطابع الوطني والمركزي للمعلومات حول ممارسات الاستهلاك الدائرية وتدفقات المواد أن يساعد على تنظيم هذه الأنظمة البيئية ذات المستويات الأدنى بصورة أفضل، وزيادة الثقة في توفر القدرة على جمع الأطراف الفاعلة بصورة أكثر فعالية واستقراراً، مثل المختصين بالتصميم الدائري والإصلاح الدائري والصيانة الدائرية. ومع اقتراب هذا النظام البيئي من مرحلة النضج، نتوقع ظهور توجهات مماثلة نحو حركات أخرى تتعلق بالمنصات الرقمية. ويمكن للجمع بين الخدمات والمنتجات الدائرية أن يؤدي إلى زيادة الضغط نحو تحقيق معايير موحدة.
اقرأ أيضاً: ما هي العوامل التي يمكن أن تساهم في صعود السياحة الدائرية؟
يبين نجاح المنصات الدائرية الحدود الحالية للنضوج الشامل للاقتصاد الدائري، ويبين في الوقت نفسه الطريق الذي يجب أن نتبعه لتسريع الانتقال بدرجة كبيرة للغاية. ويجب على المستثمرين ورواد الأعمال الانتباه إلى هذه المسألة، لأن الاقتصاد الدائري ضروري لتحقيق الناتج الصفري في الانبعاثات، والعمل بتوصيات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. ستتولى المنصات قيادة الجيل الأول من التغير الدائري لعدة أسباب، أهمها زيادة إمكانية إنشاء حلقة (لتبادل المعلومات) من مستوى أعلى بين الأسواق الحالية لتحسين تدوير المواد. ولكن مستقبل هذه المسألة لا يعتمد على المنصات نفسها بقدر ما يعتمد على كيفية اتخاذ صناع السياسات والمستهلكين القرارات بشأن نوعية الملكية والاستئجار والممارسات الاجتماعية المفضلة في الاقتصاد الدائري. والآن، حانت الفرصة للأطراف المختلفة لصياغة وتشكيل نوع شمولي وتمكيني من الأسواق الدائرية، طالما أننا نضغط على المبتكرين والممولين لتدعيم هذا النوع من الابتكار.