رؤية جديدة للذكاء الاصطناعي في خدمة الناس

7 دقائق
رؤية جديدة للذكاء الاصطناعي في خدمة الناس
في بلدة ريفية نائية في نيوزيلندا، يتحدى اثنان من السكان الأصليين الشكل السائد للذكاء الاصطناعي، وماهية الجهات التي يجب أن يخدمها.

هذه القصة هي الجزء الرابع والنهائي من سلسلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو حول الاستعمار بالذكاء الاصطناعي، وهي الفكرة التي تقول إن الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى ظهور نظام عالمي استعماري جديد. وهي مدعومة من قبل برنامج إم آي تي نايت للزمالة في الصحافة العلمية ومركز بوليتسر.

في غرفة خلفية من مبنى قديم رمادي اللون في أقصى شمال نيوزيلندا، يعمل أحد أكثر الحواسيب المخصصة للذكاء الاصطناعي تطوراً على المساعدة على إعادة توجيه مستقبل هذه التكنولوجيا.

وقد قامت محطة الراديو اللاربحية "تي هيكو ميديا" (Te Hiku Media) الموجهة لسكان الماوري الأصليين في نيوزيلندا، والتي يديرها الشريكان بيتر لوكاس جونز وكيوني ماهيلونا، بشراء الآلة بحسم 50% لتدريب خوارزمياتها الخاصة لمعالجة اللغة الطبيعية. وأصبحت الآن جزءاً مركزياً في حلم الزوج لإعادة إحياء لغة الماوري مع الحفاظ على السيطرة على بيانات مجتمعهما.

اقرأ أيضاً: كيف تعمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على تحسين السفر وخدمات الضيافة؟

الذكاء الاصطناعي في المجتمعات الصغيرة

ينحدر ماهيلونا من أصول محلية في هاواي، وقد استقر في نيوزيلندا بعد أن أحب هذه البلاد، وقد تحدث عن سخرية الأقدار بضحكة هادئة قائلاً: "من بين جميع الأماكن في العالم، يقبع هذا الحاسوب على خزانة في كايتايا، وهي بلدة ريفية نائية بمعدل فقر مرتفع ونسبة كبيرة من السكان الأصليين. أعتقد أننا لسنا على درجة كبيرة من الشهرة".

الذكاء الاصطناعي في المجتمعات الصغيرة
بيتر لوكاس جونز (يساراً) وكيوني ماهيلونا (يميناً) يحضران ورشة عمل للذكاء الاصطناعي للسكان الأصليين في 2019. مصدر الصورة: تقدمة

يعتبر هذا المشروع انحرافاً جذرياً عن الطريقة المعتادة لعمل صناعة الذكاء الاصطناعي. فعلى مدى العقد المنصرم، كان باحثو الذكاء الاصطناعي يدفعون هذا الحقل نحو حدود جديدة وفق عقلية "الأكثر هو الأفضل". ويعني هذا تجميع المزيد من البيانات لإنتاج نماذج أضخم (خوارزميات تم تدريبها على هذه البيانات) للحصول على نتائج أفضل.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يساعد على تغيير قواعد التفتيش الأمني في المطارات

وقد أدت هذه المقاربة إلى إنجازات كبيرة، ولكن بتكلفة عالية أيضاً. فقد قامت الشركات، ودون هوادة، بتنقيب الناس للحصول على وجوههم وأصواتهم وسلوكياتهم لزيادة عائداتها. كما أن النماذج التي تم بناؤها باستخدام بيانات مأخوذة من كتل سكانية كاملة أدت إلى تحييد الأقليات والشرائح المهمشة، والتي تتعرض بشكل خاص إلى آثار هذه التكنولوجيا.

تكرار الأنماط الاستعمارية.. بالذكاء الاصطناعي

وعلى مدى عدة سنوات، قال عدد متزايد من الخبراء إن هذه الآثار تكرر أنماط التاريخ الاستعماري. ويقولون إن التطوير العالمي للذكاء الاصطناعي يؤدي إلى إفقار الشرائح والدول التي ليس لها دور في عملية التطوير، وهي نفس الشرائح والدول التي تسببت الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة بإفقارها.

وقد كان هذا ظاهراً على وجه الخصوص بالنسبة للذكاء الاصطناعي واللغات. فقد أدت عقلية "الأكثر هو الأفضل" إلى إنتاج نماذج لغوية ضخمة تتميز بقدرات كبيرة في مجال الاستكمال التلقائي وتحليل النصوص، وهي مُستخدمة حالياً في الخدمات اليومية مثل البحث والبريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي. ولكن هذه النماذج، والمبنية على أساس كتل هائلة من البيانات المأخوذة من الإنترنت، أدت أيضاً إلى تسريع فقدان اللغة، كما حدث سابقاً بسبب سياسات الاستعمار والاستيعاب.

فالشركات لا تدعم سوى اللغات الأكثر شيوعاً فقط، لأن هذه اللغات هي التي يتحدث بها عدد كافٍ من الأشخاص لجمع البيانات المطلوبة لدعمها، وجني ما يكفي من الأرباح. وبالتالي، فإن الاعتماد على هذه الخدمات يومياً في العمل والحياة يدفع ببعض المجتمعات إلى التحدث باللغات السائدة بدلاً من لغاتها الخاصة.

يقول ماهيلونا: "البيانات هي الجبهة الاستعمارية الأخيرة".

ولهذا، قرر ماهيلونا وجونز، والذي ينتمي إلى الماوري، العمل بشكل مختلف، واللجوء إلى الذكاء الاصطناعي لإحياء "تي ريو"، وهي لغة الماوري. وتمكنا من التغلب على محدودية الموارد لتطوير أدواتهما الخاصة بالذكاء الاصطناعي اللغوي، وقاما بابتكار آليات مختلفة لجمع بيانات الماوري وإدارتها وحماية تدفقها، بحيث لا يتم استخدامها دون موافقة المجتمع، أو بشكل أسوأ، بصورة تؤذي هذا المجتمع.

اقرأ أيضاً: كيف تعمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على تحسين السفر وخدمات الضيافة؟

مقاربة جديدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي لتنمية ثقافات المجتمعات الصغيرة 

والآن، ومع اضطرار الكثير من شركات وادي السيليكون إلى التعامل مع عواقب تطوير الذكاء الاصطناعي، يمكن لمقاربة جونز وماهيلونا أن تكون دليلاً نحو جيل جديد من الذكاء الاصطناعي، وهو جيل لا يتعامل مع أفراد الشرائح المهمشة على أنهم كتل بيانات وحسب، بل يعيد لهم مكانتهم كمساهمين في بناء مستقبل مشترك.

ويمثل تحدث الأبوين أو الأجداد بلغة الماوري تي ريو أساساً جزئياً يعتمد عليه الكثيرون ممن تحدثت معهم من الماوري لتصنيف أنفسهم. ويعتبر النمو في بيئة تنتقل فيها اللغة عبر الأجيال امتيازاً رفيع المستوى.

وهو المعيار الذهبي للحفاظ على اللغة، أي التعلم عبر التعرض اليومي إلى اللغة أثناء الطفولة. أما التعلم في مرحلة المراهقة أو البلوغ في بيئة أكاديمية فليس صعباً وحسب. فالكتاب المدرسي في أغلب الأحيان يعلم نسخة واحدة أو "قياسية" من تي ريو، على حين تتميز كل "إيوي"، أو كل قبيلة، بخصوصيتها من حيث اللهجات والتعابير والتاريخ الخاص بالمنطقة.

وبالتالي، فإن اللغة أكثر من مجرد أداة للتواصل. فهي تحمل الثقافة في طياتها مع انتقالها من الوالدين إلى الأبناء، ومن الأبناء إلى الأحفاد، وتتطور عبر من يتكلمونها ويسكنون معانيها. وهي تؤثر أيضاً بقدر ما تتأثر، وتحدد شكل العلاقات والنظرة إلى العالم والهوية. يقول مايكل رانينغ وولف، وهو تكنولوجي آخر من السكان الأصليين، ويستخدم الذكاء الاصطناعي لإحياء لغة توشك على الاندثار: "إنها تمثل طريقة تفكيرنا وتعبيرنا عن أنفسنا لبعضنا بعضاً.

"البيانات هي الجبهة الاستعمارية الأخيرة".

كيوني ماهيلونا

وبالتالي، فإن الحفاظ على اللغة هو الحفاظ على التاريخ الثقافي. ولكن، وفي العصر الرقمي على وجه الخصوص، هناك حاجة إلى الحرص الدائم عند محاولة انتشال لغة أقليات من مسارها المنحدر نحو الاندثار. فكل مساحة تواصل جديدة لا تدعم هذه اللغات ترغم المتكلمين بها على الاختيار بين استخدام لغة سائدة أو التخلي عن الفرص في المساحة الثقافية الأكبر.

اقرأ أيضاً: نظام ذكاء اصطناعي متعدد اللغات من فيسبوك يستطيع الترجمة ما بين 100 لغة

يقول رانينغ وولف: "إذا كانت هذه التكنولوجيات الجديدة تعتمد فقط على اللغات الغربية، فنحن الآن مُستَبعدون من الاقتصاد الرقمي. وإذا كنت لا تستطيع حتى استخدام الاقتصاد الرقمي، فسوف تواجه لغتك صعوبة بالغة في البقاء والازدهار".

ومع ظهور الذكاء الاصطناعي، أصبحت إعادة إحياء اللغات على مفترق طرق، حيث يمكن للتكنولوجيا أن تعزز من هيمنة اللغات السائدة بدرجة أكبر، أو يمكن أن تساعد لغات الأقليات على اتخاذ مكانها في الفضاءات الرقمية. وهذه هي الفرصة التي استغلها جونز وماهيلونا.

فقبل أن يبدآ بهذه الرحلة بفترة طويلة، تعارفا عند موقد الشواء في لقاء لأفراد نادي السباحة الذي ينتميان إليه في ويلينغتون. ووجدا الانسجام على الفور. واصطحب ماهيلونا جونز في رحلة طويلة بالدراجة. وكما يقول ماهيلونا: "أما ما تبقى من القصة فهو معروف".

وفي 2012، عاد الاثنان إلى بلدة جونز الأصلية في كايتايا، حيث أصبح جونز الرئيس التنفيذي لتي هيكو ميديا. 

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تُظهر مُبالغات في تقييم أثر خوارزميات الذكاء الاصطناعي الجديدة

وعلى مدى ما يقارب 20 سنة من تاريخ البث، تمكنت تي هيكو من مراكمة أرشيف غني من المواد الصوتية بلغة تي ريو. وتتضمن هذه المجموعة بعض المواد المهمة والثمينة، مثل تسجيل بصوت جدة جونز، رايها مويروا، والتي ولدت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي ما زالت لغتها تي ريو خالية إلى حد كبير من التأثير الاستعماري.

رقمنة التراث المحلي للمحافظة عليه

وقد رأى جونز فرصة لرقمنة الأرشيف وبناء مقابل عصري لانتقال اللغة بين الأجيال. فمعظم الماوري لا يعيشون مع قبائلهم حالياً، ولا يستطيعون الاعتماد على أقارب يعيشون في مكان مجاور للتعرض اليومي للغة تي ريو. ولكن، وبوجود مكتبة رقمية، سيتمكنون من الاستماع إلى تي ريو من الكبار الذين رحلوا عن هذا العالم، وفي أي وقت يشاؤون.

منحت قبائل الماوري المحلية جونز إذنها للمباشرة بالمشروع، ولكنه بحاجة إلى مكان لاستضافة المواد على الإنترنت. ولم يحبذ جونز أو ماهيلونا فكرة تحميل هذه المواد على فيسبوك أو يوتيوب. فسوف يعني هذا منح الإذن لشركات التكنولوجيا العملاقة بفعل ما تريد بالبيانات الثمينة.

وهكذا، لم يعد أمام تي هيكو أي خيار سوى بناء منصة الاستضافة الرقمية الخاصة بها. وبفضل مهاراته الهندسية، وافق ماهيلونا على قيادة المشروع والانضمام إليه بصفة المسؤول التكنولوجي الأساسي.

وأصبحت هذه المنصة الرقمية أول خطوة كبيرة لتي هيكو نحو تأسيس سيادة البيانات، وهي الاستراتيجية التي تعتمد عليها المجتمعات للسيطرة على بياناتها الخاصة في محاولة لضمان سيطرتها على مستقبلها. وبالنسبة للماوري، فإن الرغبة بهذا الشكل من الاستقلال متجذرة في التاريخ، كما تقول تاهو كوكوتاي، وهي من مؤسسي شبكة سيادة بيانات الماوري. فخلال أولى عمليات الإحصاء السكاني الاستعمارية، وبعد سلسلة من الحروب المدمرة التي قُتل فيها آلاف الماوري، وصودرت فيها أراضيهم، قام البريطانيون بجمع بيانات حول التعداد السكاني للقبائل لمتابعة نجاح سياسات الاستيعاب الحكومية.

ولهذا، فإن سيادة البيانات هي أحدث مثال عن مقاومة السكان الأصليين، والتي بدأت ضد الاستعمار والدول، والآن، ضد الشركات التكنولوجية الكبيرة أيضاً. تقول كوكوتاي: "قد تكون المصطلحات جديدة، وقد يكون السياق جديداً، ولكن كل هذا يعتمد على تاريخ قديم للغاية".

اقرأ أيضاً: باحثون يستخدمون التعلّم الآلي لترجمة اللغات المندثرة منذ زمن طویل

خلال العمل، أسست تي هيكو بروتوكولات جديدة لبروتوكولات سيادة البيانات. فما زال علماء البيانات من الماوري، مثل موزس، قليلين للغاية ومتفرقين، ولكن هؤلاء الذين انضموا من خارج المجتمع لا يستطيعون ببساطة استخدام البيانات كيفما يريدون. ويقول جونز: "إذا رغبوا بتجربة شيء ما، يجب أن يطلبوا هذا منا، ونحن نتبع هيكلية واضحة لاتخاذ القرار بناء على قيمنا ومبادئنا".

رقمنة التراث المحلي للمحافظة عليه
تي هيكو تتلقى جائزة نيوزيلندا للابتكار لعملها على إعادة إحياء اللغة. مصدر الصورة: تقدمة

ولكن هذا العمل ليس سهلاً. فثقافة علوم البيانات مفتوحة المصدر والمتاحة للجميع تكون في أغلب الأحيان غير أخلاقية بالنسبة لسيادة البيانات، شأنها شأن ثقافة الذكاء الاصطناعي. وقد سرحت تي هيكو عدة علماء بيانات من قبل لأنهم "يريدون فقط الوصول إلى بياناتنا"، كما يقول جونز. وتسعى الآن إلى زيادة عدد علماء البيانات من الماوري عبر برامج تدريبية ومناصب أولية.

وقد بدأت تي هيكو العمل مع مجموعات أصغر من السكان الأصليين أيضاً. ففي منطقة المحيط الهادي، يتشارك الكثيرون الأجداد البولينيزيين كالماوري، ويوجد للغاتهم جذور مشتركة. وباستخدام بيانات تي ريو كأساس، تمكن باحث من جزر كوك من تدريب نموذج لغوي أولي لجزر كوك للوصول إلى دقة بنسبة 70% تقريباً باستخدام عشر ساعات من البيانات وحسب.

يقول ماهيلونا: "لم تعد المسألة تقتصر على تعليم الحواسيب كيفية التحدث بلغة تي ريو للماوري، بل توسعت نحو بناء أساس لغوي للغات المحيط الهادي. فنحن جميعاً نواجه الأمرين في الحفاظ على لغاتنا حية".

وقد لاقت تي هيكو حظاً سعيداً في بعض النواحي. حيث تستطيع تي ريو الاستفادة من التكنولوجيات التي تتمحور حول الإنجليزية لأنها تتسم بدرجة كافية من التشابه مع الإنجليزية في بعض الصفات الأساسية، مثل الأبجدية والأصوات وتركيب الكلمات. كما أن الماوري مجموعة سكانية كبيرة نسبياً، ما سمح بتجميع كمية كافية من البيانات اللغوية والعثور على علماء بيانات مثل موزس لمساعدتهم على تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة.

اقرأ أيضاً: برمجان العربية: تحدٍ تقني عالمي لخدمة العربية وتعزيز مكانتها بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي

يقول جيسون إدوارد لويس، وهو مختص بالتكنولوجيا الرقمية وفنان شارك في تنظيم شبكة الذكاء الاصطناعي للسكان الأصليين: "لا تتمتع معظم المجتمعات الأخرى بأعداد كافية لوقوع هذه الصدف الحسنة".

ويقول في نفس الوقت إن تي هيكو كانت إثباتاً دامغاً على إمكانية بناء الذكاء الاصطناعي خارج نطاق مراكز الأرباح الطائلة مثل وادي السيليكون، من قبل الناس الذين يُفترض بأن يخدمهم ولأجلهم.

المحتوى محمي