هل ينجح مليارديرات العملات المشفرة في بناء مدنهم الخاصة؟

12 دقيقة
مليارديرات العملات المشفرة يضخون الأموال في أميركا الوسطى لبناء مدنهم الخاصة بهم
حقوق الصورة: مايكل بايرز

في كل يوم، تقوم شاحنة قمامة معدلة بنقل الزوار إلى منتجع للسياحة البيئية في بركان كونشتاغوا في السلفادور. وتندفع المركبة بسرعة على الطريق المليء بالحفر، وهي تقذف الركاب بداخلها من جهة إلى أخرى. وعلى القمة، يخرج الركاب إلى غابة مرقطة بأشعة الشمس، ويحصلون على مكافأة رائعة بعد هذه الرحلة المضنية برؤية مشهد خلاب على مد البصر لخليج فونسيكا بلونه الأزرق الداكن.

يحمل المنتجع اسم "إل سبيريتو دي لا مونتانا" (روح الجبل) ليعكس معتقدات السكان الأصليين لشعب اللينكا بوجود كيان مقدس ضمن البركان الخامد، وهو كيان يتجسد أحياناً بشكل فراشة أو نسر. بدأ المالك لويس دياز بتطوير المكان منذ سبع سنوات. ولكن السكينة التي وجدها هناك قد لا تدوم طويلاً.

اقرأ أيضاً: ما هي أهم الدروس المستفادة عالمياً من بركان تونغا لتحسين البنية التحتية للإنترنت؟

فقد أعلن رئيس السلفادور ناييب بوكيلي في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2021 أن البركان سيصبح موطن مدينة بيتكوين جديدة ومتألقة. وقريباً، سينطلق مشروع بناء ضخم لإعادة تشكيل منطقة الغابة العذراء وتحويلها إلى مدينة كبيرة وتضج بالحيوية.

وتبين رسومات تصميمية شاركتها الحكومة وجود تجمع سكاني دائري ينبثق من ساحة مركزية بشكل الحرف "B"، مع مخطط شوارع متعدد الألوان بشكل يشبه انعكاسات الكاليدوسكوب (المِشكال) المتداخلة. وتتلخص الفكرة بأن الاقتصاد المحلي سيعتمد على البيتكوين، أما المدينة فسوف تستمد طاقتها من الطاقة الحرارية الأرضية من البركان. وستقتصر ضرائب السكان على السلع والخدمات التي سيحصلون عليها.

ولتمويل المدينة، قررت السلفادور بيع مليار دولار من الديون بالدولارات الأميركية على شكل "سندات بركانية". وستُستَخدم نصف الأموال المستثمرة في السندات لتمويل بناء مدينة بيتكوين وعمليات تعدين بيتكوين، وسيخصص النصف الآخر لشراء البيتكوين، والتي يمكن أن تُستَخدم يوماً ما لدفع قيمة السندات إذا ارتفعت أسعارها. 

قال وزير المالية السلفادوري أليخاندرو زيلايا في أوائل أبريل/ نيسان إن السندات اجتذبت طلبات بقيمة 1.5 مليار دولار وسيتم إصدارها قريباً بعد عدة تأجيلات. ومن المتوقع أن يتم شراء معظم السندات من قبل مستثمري العملات المشفرة، والذين قد يحصل بعضهم على الجنسية السلفادورية إذا دفعوا مبلغ 100,000 دولار. 

وإذا تم بناء هذه المدينة فعلاً، فستكون تجسيداً متألقاً لأحلام أوساط العملات المشفرة ببناء العالم. ولكن الحلم لن يتوقف هناك. حيث يعمل عدد متزايد من مستثمري العملات المشفرة على إقناع حكومات أخرى بإنشاء مناطق شبه حرة يمكن استخدامها أيضاً كمختبرات للتجارب الاقتصادية، ويزعمون أنها ستحفز النمو وتثري المناطق المجاورة. 

ولكن، وفي أميركا الوسطى، سبق وأن ظهر مستثمرون أجانب مع وعود بالرخاء والازدهار، ولكنهم استولوا على الأراضي واستخرجوا الموارد القيمة لأنفسهم فقط. وتحمل المنطقة تاريخاً طويلاً من الاستغلال الاقتصادي، ومن أسوأ الأمثلة على هذا الاستغلال "جمهوريات الموز" في النصف الأول من القرن العشرين، عندما كانت شركة الفاكهة المتحدة تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي وتتحكم بالسلطة السياسية في الهندوراس وغواتيمالا وكوستاريكا. ومؤخراً، أصبحت "مناطق معالجة التصدير" المخصصة لشركات صنع الملابس العالمية موطناً لمصانع أشبه بورشات للعمل الشاق حيث يتم استغلال العمال وحرمانهم من حقوقهم.

مليارديرات العملات المشفرة يضخون الأموال في أميركا الوسطى لبناء مدنهم الخاصة بهم
حقوق الصورة: مايكل بايرز.

وعلى حين يؤمن بعض السياسيين والسكان بقدرة العملات المشفرة على إطلاق الحركة الاقتصادية، فإن البعض الآخر يعتقدون أن التاريخ يكرر نفسه. ومع تبلور تجربة السلفادور على شكل مدينة بيتكوين، فإن تطورا مماثلاً بدأ بالتبلور في الهندوراس، ولكن ردة الفعل السلبية من السكان المحليين وضعت مستقبل هذا المشروع في نطاق الخطر. ويأمل المناصرون بأن تظهر مئة مدينة بيتكوين أخرى، ولكن آخرين يشككون بالهدف الحقيقي لهذه المشاريع، وما إذا كانت البلدان التي تمثل حقل تجارب لها ستستفيد منها فعلاً.

اقرأ أيضاً: هل ينجح التمويل الجماهيري للأوكرانيين بجمع ما يكفي من العملات المشفرة لأغراض حربية؟

العرض

لطالما كانت "قلاع البيتكوين" مركز تطلعات وآمال أوائل مستثمري البيتكوين ورواد أعمالها. ويعتقد البعض أن الصعود السريع والفجائي لقيمة البيتكوين وتهاوي نظام العملات الرسمية أمر حتمي، ما سيرغم المستثمرين الأثرياء على عزل أنفسهم في مجمعات محصنة لحماية أنفسهم من البرابرة. ويأمل آخرون بفرصة لفك الارتباط عن مفهوم الدول والأمم، وينظرون إلى العملات المشفرة كوسيلة للخروج من نظام مالي تقليدي مرتبط بأفكار متقادمة، مثل الضرائب والإنفاق العام. 

تعود محاولات دعاة الحرية لبناء حضارات مستقلة وصغيرة إلى الستينيات على الأقل، ولكن العملات المشفرة أدت إلى إحياء هذا الحلم القديم بدفعة جديدة من الأموال والضجيج الإعلامي.

حاول مناصرو العملات المشفرة بناء مدنهم الفاضلة الخاصة بهم من قبل، ولكن النتائج كانت مخيبة للآمال. وتتضمن الأمثلة سفينة "إم إس ساتوشي" (MS Satoshi) (التي سُميت هكذا تيمناً بالاسم المزيف لمبتكر البيتكوين ساتوشي ناكاموتو) التي واجهت مصيراً مؤسفاً، وهي سفينة سياحية اشترتها مجموعة من الليبراليين لاستخدامها كمجمع عائم للأعمال قبل أن يضطروا لبيعها بعد أقل من ستة أشهر، ومشروع "كريبتولاند" (Cryptoland) الذي نال نصيباً كبيراً من السخرية، وهو عبارة عن عرض فاشل بقيمة 12 مليون دولار لشراء جزيرة في فيجي وتحويلها إلى فردوس لمناصري العملات المشفرة، ومدينة "إيكون" (Akon)، وهي تجمع يعتمد على العملات المشفرة، وخطط مغني الريذم أند بلوز (آر أند بي) إيكون لإنشائه في السنغال بقيمة 6 مليار دولار، ولكن عمليات البناء لم تبدأ بعد

ولكن هذه الإخفاقات لم تردع مجموعات المستثمرين عن وضع خطط جريئة لبناء تجمعات تتقبل العملات المشفرة في عدة بلدان حول العالم. وتتضمن هذه الخطط في أغلب الأحيان تأسيس مناطق تُعرف باسم المناطق الاقتصادية الخاصة. وتقوم هذه المشاريع على فكرة أساسية بسيطة، وتتلخص بالحصول على منطقة صلاحيات مستقلة بقوانين متراخية، وإشراف حكومي ضئيل، وضرائب قليلة، وترك السوق الحرة تأخذ مجراها. ويشير مناصرو العملات المشفرة إلى سنغافورة ودبي وشينجين كأمثلة ناجحة على هذا (بغض النظر عن مشكلات استغلال حقوق العمال وعدم المساواة).

اقرأ أيضاً: ما مصير العملات المشفرة والرموز غير القابلة للاستبدال في حال وفاة صاحبها؟

ولكن الواقع ليس بهذه البساطة. ونظراً لوجود الكثير من المناطق الاقتصادية الخاصة حول العالم (ويبلغ عددها 5,000 عبر 70 دولة) والكثير من العوامل التي تتعلق بالسياقات المختلفة، فليس من السهل أن نحسب تأثيرها على اقتصاد بلد ما، كما يقول تيبولت سيرليت، وهو مدير الأبحاث في شركة "أدريانوبلي" (Adrianople) الاستشارية التي تركز على هذه المناطق. وقد لحظ مقال نُشر في "إيكونوميست" (Economist) عام 2015 أن بضع مناطق اقتصادية خاصة حققت نجاحاً كبيراً من بين جميع المناطق الاقتصادية في العالم في ذلك الوقت، كما أن الكثير منها لم يقدم أي فائدة على نطاق اقتصادي أوسع، ووصل البعض منها إلى مرحلة الإخفاق الكامل. تعد خطط السلفادور الطموحة بالاعتماد على معادلة قدمت في أحسن الأحوال نتائج متفاوتة.

وقد قدم بوكيلي البيتكوين في البداية كوسيلة تسمح للسلفادوريين المقيمين في الخارج بإرسال الحوالات المالية إلى أفراد العائلة المقيمين داخل الوطن، وقال إنها ستوفر على المواطنين 400 مليون دولار أميركي من الرسوم كل سنة، وتؤمن وسيلة لاستخدام النظام المالي للأشخاص الذين لا يستطيعون الحصول على الخدمات البنكية. وفي السنة الماضية، أعلنت هذه الدولة، والتي يبلغ تعدادها السكاني نحو 6.8 مليون نسمة، أن البيتكوين ستكون مقبولة من الآن فصاعداً كعملة قانونية.

كان انتشار البيتكوين بين المواطنين العاديين بطيئاً، ولكن تقديم بوكيلي أثبت نجاحاً كاستراتيجية تسويق لاجتذاب نخبة العملات المشفرة في العالم. وتعتبر مدينة بيتكوين جزءاً أساسياً من هذا العرض. وعلى إثر إعلانات بويكيلي الجريئة، بدأت مجموعة كاملة من مخططي مدن العملات المشفرة الطموحين بالتقرب من الحكومة السلفادورية.

ووفقاً لصحيفة الأخبار السلفادورية "إل فارو" (El Faro)، فإن بروك بيرس كان أحد أهم المتقدمين. وبوصفه رئيس مجلس إدارة "بيتكوين فاونديشن" (Bitcoin Foundation)، وهي منظمة لاربحية تم تأسيسها في 2012 للترويج للعملات المشفرة، فقد ترأس بيرس محاولة تحويل بورتو ريكو إلى فردوس للعملات المشفرة، وملاذ ضريبي لمليونيرات العملات المشفرة، بحيث يؤدي هذا، وبطريقة ما، إلى حل المشكلات الاقتصادية الناجمة عن أزمة الديون في البلاد، والدمار الذي تسبب به الإعصار ماريا. 

اقرأ أيضاً: قواعد جديدة قد تُنهي حقبة الانفلات القانوني بشأن استغلال العملات المشفرة في غسيل الأموال

وتشير أحدث التقارير الإخبارية إلى أن الارتفاع الهائل في أسعار العقارات يُعزى إلى التأثير الكبير للعملات المشفرة على بورتو ريكو حتى تاريخه. أما الوعود الكبيرة بإعادة بناء اقتصاد الجزيرة على أنظمة البلوك تشين فقد تهاوت جميعاً. واليوم، تنتشر صور وجوه مستثمري العملات المشفرة، بمن فيهم بيرس، في جميع أنحاء عاصمة بورتو ريكو، حاملة التعليق التالي: "هذا هو شكل الذين استعمرونا". 

ولكن بيرس لم يرتدع، فهو متشوق لتكرار تجربة بورتو ريكو في مكان آخر. وقد التقى ممثلون عن بيتكوين فاونديشن مع ممثلين من السلفادور والهندوراس وباناما والإكوادور وغواتيمالا في السنة الماضية. (لم تستجب المؤسسة أو بيرس لطلبات المقابلة التي أرسلناها).

يقول بيتر يونغ، المدير الإداري لمؤسسة "فري برايفت سيتيز فاونديشن" (Free Private Cities Foundation)، والذي يصف نفسه بأنه "متطرف التحيز للبيتكوين": "أشعر بتفاؤل كبير إزاء ما يحدث في أميركا اللاتينية، فهناك الكثير من الدول والأمم التي تبحث عن حلول، والمستعدة لتجربة أشياء جديدة".

تدعم منظمة يونغ تطوير ما يسمى بالمدن الخاصة حول العالم. وقد شجعت منظمته الحكومة السلفادورية على إدارة مدينة بيتكوين وفق نموذج حوكمة خاص، أي بوضعها تحت سيطرة الشركات بدلاً من سيطرة الجهات العامة. ووفقاً ليونغ، فقد كان التجاوب الحكومي جيداً حتى الآن. وتقول التقارير إن المنظمة قدمت نفس الفكرة إلى الحكومة البرازيلية.

وفي هذه الأثناء، تحولت مجموعة من مناصري البيتكوين إلى مستشارين مقربين من بوكيلي. وتتضمن هذه المجموعة مهندس عملية السندات البركانية سامسون ماو، والذي ترك دوره كمسؤول أساسي عن الأمن في شركة تكنولوجيا البلوك تشين "بلوك ستريم" (Blockstream) مؤخراً لترويج استخدام البيتكوين لدى الدول المختلفة. كما يبدو أن الصحافيين ومستثمري العملات المشفرة ماكس كيسر وستيسي هيربيرت أصبحا جزءاً من دائرة بوكيلي الداخلية من المستشارين الموثوقين. 

وعلى حين تشير استطلاعات الرأي إلى أن بوكيلي يتمتع بدعم هائل في البلاد، فإن بعض السلفادوريين يشعرون بالقلق من التأثير الذي يبدو أن مستثمري العملات المشفرة الأجانب يطبقونه على الرئيس. وعبروا عن الامتعاض لرؤية كيسر وهيربيرت وماو يحلقون فوق موقع مدينة بيتكوين في حوامة عسكرية، وعندما غرد ماو عن وجود خطط لوضع مسودات قوانين جديدة للسندات البركانية قبل أن يقوم أي شخص من الحكومة السلفادورية بهذا الأمر. ومنذ ذلك الحين، غرد ماو عن دعم بوكيلي له في سعيه لاستلام منصب عمدة مدينة بيتكوين.

اقرأ أيضاً: قد يبدأ الملايين باستخدام العملات المشفرة دون علمهم

حرية للجميع

حتى نحصل على تصور تقريبي حول شكل مدينة بيتكوين التي تديرها الشركات، يكفي أن ننظر إلى مشروع ناشئ يحمل اسم "بروسبيرا" (Prospera)، والذي تدعمه منظمة فري برايفت سيتيز في الهندوراس. وعلى الرغم من أنه لا يوصف صراحة بأنه مجتمع قائم على العملات المشفرة، فإن التركيز الكبير على صناعة العملات المشفرة، والدعم الكبير من قبل مستثمري بيتكوين، يجعل بروسبيرا في نفس النطاق، والذي يتمثل بالاندماج بين مناصرة العملات المشفرة والأفكار الليبرالية.

يشغل بروسبيرا (وهي كلمة إسبانية تعني "المزدهر") مساحة صغيرة معزولة على جزيرة رواتان التابعة للهندوراس. وقد أُتيحت للمطورين فرصة بناء هذا المجتمع من نقطة الصفر، بما في ذلك الأنظمة الصحية والتعليمية وأنظمة الشرطة والرعاية الاجتماعية.

وقامت الهندوراس بتعديل دستورها في 2013 للسماح بإقامة مناطق اقتصادية خاصة تديرها الشركات، وتعمل إلى حد كبير خارج نطاق الإشراف القانوني والتنظيمي للدولة. وتُعرف هذه المناطق باسم مناطق التطوير الاقتصادي والتوظيف (تُلفظ اختصاراً "زيديز" (ZEDEs)).

وقد بُني هذا القرار على عرض الاقتصادي الأميركي بول رومر بإقامة المدن المستأجرة، وهي شكل من أشكال المناطق الاقتصادية الخاصة ضمن دولة ما ولكنها تُدار من قبل حكومة دولة أخرى. وتُعتبر هذه الفكرة من أفكاره الأكثر غرابة، وتعكس نظرياته حول كيفية الترويج للاستثمارات الأجنبية والتخفيف من عدم المساواة. وتعتبر زيديز ضمن الهندوراس من أولى الاختبارات لهذه الفكرة، على الرغم من أن رومر عقد بعض المفاوضات مع حكومات أخرى.

وفي الواقع، فقد تعاون رومر مع حكومة الهندوراس في البداية، ولكن هذا التعاون انتهى بعد خلافات حول كيفية تطبيق فكرته. (لم يستجب رومر لطلبنا بالتعليق)

أما بروسبيرا، والذي انطلق العمل به في 2020، فسوف يفرض ضرائب منخفضة للغاية، وسيعتمد على خدمات قائمة على التعهيد الخارجي للقطاع العام في أغلب الأحيان، كما سيتضمن "مركز تحكيم" بدلاً من المحكمة، وسيفرض رسماً سنوياً على الجنسية (إما بشكل مادي أو إلكتروني) وفق نظام يتضمن توقيع "عقد اجتماعي" تأمل الشركة بأنه سيشجع على الابتعاد عن السلوك المسيء.

وعندما زرت المكان في فبراير/ شباط، كان المكتب المركزي أحد الأبنية القليلة المكتملة. لم يكن هناك قوات شرطة خاصة في بروسبيرا، ولكن كان هناك رقم شركة "بولدوغ سيكيوريتي إنترناشيونال" (Bulldog Security International) على المكتب الأمامي، وهي شركة أمنية خاصة تعتمد عليها الفنادق الموجودة على الجزيرة للقيام بعمل قوة الشرطة المحلية التي تعتبرها الفنادق غير كافية. وكان هناك مبنيان بطابقين لموظفي المكاتب. أما ما تبقى من المساحة فكانت تشغلها أعمال البناء بنسبة كبيرة، على الرغم من أن كتلة البرج السكني أصبحت قيد الإنجاز.

اقرأ أيضاً: هل يهجر الناس النقود إلى العملات المشفرة؟ اليابان تقترب من معرفة الإجابة

ويبين شكل حاسوبي لبروسبيرا المستقبلي شققاً سكنية بتصميم يبدو أنه مستوحى من أشكال الصدف المحلي في الجزيرة بمنحنيات انسيابية وباللون المرجاني اللؤلؤي والكريم والزجاج. كما يفصل شريط من الرمل الأبيض بين الكتلة السكنية والمياه اللطيفة للبحر الكاريبي.

ومن المرجح أن الشركات التي ستنجذب إلى هذا المكان هي الشركات التي تحاول التملص من القوانين في بلدانها، ويركز تري غوف، رئيس طاقم بروسبيرا، على الابتكار الطبي والسياحة الصحية وجميع مناحي صناعة العملات المشفرة. 

ويقول: "هناك درجة تلقائية من التراكب مع صناعة العملات المشفرة وما نقوم به هنا، ونحن نرغب بتمكين وتسهيل عمل الشركات، لأنها تنظر إلى نفسها على أنها تمثل أحدث درجات الابتكار في المجال المالي".

وقد بدأ بعض الأشخاص الذين يعملون في مجال التكنولوجيا والعملات المشفرة بالاستقرار في هذه المنطقة عن بعد عبر برنامج الجنسية الإلكترونية. وتستطيع الشركات أن تتعامل بأي عملة مشفرة تختارها، كما تمت الموافقة على خمس منها للاستخدام على المستوى الحكومي. 

ويتضمن مستشارو بروسبيرا أوليفر بورتر، وهو مؤسس "ساندي سبرينغز" (Sandy Springs) في جورجيا، والتي كانت حتى فترة قريبة مدينة أميركية مخصخصة بالكامل، وسيعتمد بروسبيرا على نموذجها في التعهيد الخارجي. وحتى الآن، ووفقاً لبروسبيرا، فإن شركات رأس المال الاستثماري والمستثمرين الخاصين في وادي السيليكون وضعوا 50 مليون دولار في المشروع، مع إطلاق جولة تمويل أخرى بقيمة 100 مليون دولار. 

اقرأ أيضاً: تغريدات متتابعة على تويتر تفضح أسرار وادي السيليكون

ويتضمن المقدار الذي تم جمعه حتى الآن أموالاً من الملياردير بيتر ثيل، ومستثمر رأس المال مارك أندريسين، والمستثمرين روجر فير وبالاجي سرينيفاسان عبر شركة "برونوموس كابيتال" (Pronomos Capital). وقد قالت برونوموس كابيتال لموقع "بلومبيرغ" (Bloomberg) في 2018 إنها خاضت مفاوضات لتأسيس مدن شبه مستقلة في عدة بلدان مثل غانا والهندوراس وجزر المارشال ونيجيريا وبنما.

علاقات محطمة

إذا واصلت السير على الطريق الذي يؤدي إلى بروسبيرا، فسوف تصادف قريباً قرية تتضمن نحو 100 شخص باسم كروفيش روك. تقع هذه القرية على منطقة غابات متفرقة على الساحل، وهي مجموعة من المنازل الخشبية مطلية بألوان باهتة وقائمة على أعمدة خشبية. وحيث ينتشر الدجاج وهو يعبث ضمن مجموعات كبيرة من الأعشاب الضارة تحت أشجار النخيل. وتبعد هذه القرية مسافة طويلة عن غرف النوم البيضاء المتألقة والمكيفة في بروسبيرا.

رحبت بي لويزا كونور في كروفيش روك، وهي مديرة الباتروناتو في القرية، أي مجلس القرية. وتنتمي كونور إلى شريحة الغاريفونا، والمؤلفة من أحفاد العبيد الذين جلبهم المستعمرون البريطانيون إلى الجزيرة في أواخر القرن الثامن عشر. جلسنا على كراسٍ بلاستيكية في فناء منزلها حيث كانت ابنتها الصغيرة تلعب في مكان قريب، وناقشنا ردة الفعل السلبية إزاء بروسبيرا، والتي تحولت من مجرد جهد تقوده مجتمعات محلية إلى رفض وطني للزيديز. تحدثت كونور عن الخداع الذي بُني عليه مشروع بروسبيرا، والذي قدم نفسه كمشروع تطوير سياحي عادي عندما طلب من السكان المحليين توقيع وثيقة موافقة، واعداً القرويين بالحصول على أولى الوظائف في موقع العمل.

ولكن القرويين اكتشفوا بعد فترة قصيرة أن المشروع عبارة عن شيء مختلف تماماً، وتحطمت العلاقات بسرعة. تقول كونور إن الرئيس التنفيذي لبروسبيرا إريك برايمن عرض شراء كروفيش روك بالكامل، ولكنها رفضت العرض بالنيابة عن القرية. ولكن السكان شعروا بالقلق من احتمال قيام بروسبيرا بالاستيلاء على أراضيهم لإفساح المجال أمام هذه المدينة–الدولة المتوسعة. 

ويوجد في الهندوراس تاريخ طويل من العنف في الاستيلاء على الأراضي، فقد مكنت الحكومات المتعاقبة الشركات من الاستيلاء على الأراضي من الفلاحين، ما أدى إلى نزاعات نتج عنها في منطقة واحدة فقط أكثر من 150 جريمة قتل وحادثة اختفاء منذ 2008.

ويقول دانييل فريزي، أحد التنفيذيين في بروسبيرا، إن عقد الشركة يمنعها من مصادرة الأراضي، وإنها تخطط للتوسع في الاتجاهات الخالية من التجمعات السكانية. ولكن كونور تقول إن برايمن أخبرها، بعد رفض عرضه، إن حكومة الهندوراس قد تصادر الأراضي. وعندما سُئلت بروسبيرا عن تعليقات كونور، أنكرت الشركة محاولة شراء كروفيش روك وقالت إن عقد الإيجار وأنظمتها الداخلية يمنعانها من تلقي أراضٍ مصادرة من حكومة الهندوراس.

اقرأ أيضاً: كيف حولت الشركات التكنولوجية الكبرى قوانين الخصوصية إلى تمثيليات فارغة؟

وقد عبر العديد ممن تحدثت معهم من سكان الجزيرة عن رفضهم القاطع للتنازل عن مساحات من أراضي الهندوراس لوضعها تحت سيطرة الشركات. فهذه الشركات "لا تحترم الحكومة ولا تحترم القواعد ولا تحترم القانون، ولا تكترث سوى بأحلامها"، كما قالت لي روزا دانييلا، وهي ناشطة مجتمعية مشاركة في الحملة ضد بروسبيرا. وتضيف: "لا تعتقد هذه الشركات أنها تعيش في بلادك، لأنها تريد تأسيس بلد جديد".

في نهاية المطاف، قامت كونور بحظر رقم برايمن الهاتفي. وتقول إنه لم يعد هناك أي حوار بين بروسبيرا والقرية. ولكن غوف يقول شيئاً آخر: "لقد ركزنا بدرجة كبيرة للغاية، ومنذ البداية، على بناء علاقات مجتمعية قوية مع ذلك المجتمع".

منذ إطلاق بروسبيرا، تغير المناخ السياسي. وفي خضم تزايد ردود الفعل السلبية على زيديز بناء على مخاوف تشابه مخاوف كروفيش روك، أطلق رئيس الهندوراس الجديد زيومارا كاسترو وعداً بإغلاق هذه المشاريع، ما يضع استمرارية بروسبيرا موضع الشك.

"نحن مجرد تجربة"

لم تبدأ عمليات البناء في مدينة بيتكوين، ولكن بركان كونشتاغوا أصبح مسبقاً موطناً لعدة تجمعات سكانية، ما يزيد من نطاق التهجير المتوقع، كما يقول الاقتصادي السلفادوري خوسيه لويس ماغانا، خصوصاً أن نحو خُمس مزارعي المنطقة فقط يمتلكون الأراضي التي يعملون بها.

وتقول الحكومة إن المشروع يهدف إلى توفير الوظائف لبلدة "لا يونيون" الفقيرة المجاورة، ولكن ماغانا يقول إن التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بين البلدة ومدن السلفادور الأكبر ترجح أن تكون نتيجة المشروع تحسين المنطقة نفسها.

وعلى عكس بروسبيرا، تتمتع مدينة بيتكوين بدعم الحكومة الحالية. ولكن سيل المستثمرين الأجانب، وتهجير السكان المحليين، يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى إطلاق ردة فعل سلبية مماثلة. فبعد ثلاثة أيام من الإعلان عن بيتكوين، أقرت السلفادور قانوناً جديداً يسمح للحكومة بمصادرة الأراضي للأغراض العامة. 

ولمنع المضاربين من زيادة أسعار الأراضي، ما زال الموقع المحدد لإقامة مدينة بيتكوين غامضاً. ولكن شركات العقارات الأوروبية ورجال الأعمال السلفادوريين وشركات العملات المشفرة، عرضوا شراء الأرض التي يقع عليها منتجع روح الجبل من دياز لقاء سعر يبلغ ثلاثة إلى خمسة أضعاف السعر الذي دفعه.

ولكن دياز مصمم على عدم البيع: "هذا مشروع حياتي". وهو يدعم بوكيلي، ويعتقد أن مدينة بيتكوين ستحفز النمو الاقتصادي في المنطقة، على الرغم من أنه يلحظ أن الناس الذين يعرفهم في "لا يونيون" يشعرون بالخوف من أن يتم إجبارهم على الرحيل. 

اقرأ أيضاً: ما هي أشهر طرق الاحتيال المرتبطة بعملة البيتكوين المشفرة؟ وكيف تتجنبها؟

وفي الهندوراس، ينظر الباحث خوسيه لويز بالما هيريرا إلى زيديز والمشاريع المشابهة لها على أنها نسخة حديثة من التاريخ المؤلم لاستعمار الشركات في المنطقة. ويقول: "لقد استُخدمت وعود القضاء على الفقر وتحسين مستوى المعيشة من قبل لدفع المواطنين إلى تقبل وجود هذه الجيوب من الفساد والاستغلال. ولكن معظم الأرباح التي تحققها هذه الجيوب تذهب إلى خارج البلاد، دون تنمية حقيقية للمناطق التي تقع فيها".

توجد هناك زيديز أخرى في الهندوراس، إضافة إلى بروسبيرا. كما يتم العمل حالياً على مشاريع مدن خاصة بطابع أقل ثورية في ملاوي والولايات المتحدة. وقد شارك مؤسس إيثيريوم فيتاليك بوتيرين في مفاوضات مع حكومة زامبيا لتأسيس منطقة اقتصادية خاصة تعتمد على العملات المشفرة

يقول غوف: "نحن نحاول تقديم المساعدة لتأسيس نوع جديد تماماً من الصناعة، وهي صناعة بناء المدن". ويقول إنه يرغب أن يرى نحو مئتي مشروع قيد التطوير حول العالم يوماً ما، ويصفها بأنها "بقع ازدهار ساطعة تعمل معاً على بناء مستقبل أكثر إشراقاً للبشرية جمعاء".

ولكن هذا الحلم لم يقنع الجميع. ففي جزيرة رواتان، تشعر روزا دانييلا بالقلق من تأثير هذه المشاريع على مجتمعها والمجتمعات المماثلة له. وتقول: "يأتي إلينا هؤلاء المغامرون باسم الحرية.  ويرغبون في البدء بالعمل معنا، وبالنسبة لهم، نحن مجرد تجربة.  وإذا حققوا النجاح هنا، سينتقلون إلى بلدك وبلدان أخرى في مختلف أنحاء العالم".

المحتوى محمي