خلال العام 2021 بلغت القيمة الإجمالية لسوق الفن الرقمي الناشئ حديثاً أو ما يُعرف "الرموز غير القابلة للاستبدال" (Non-Fungible Token) (اختصاراً NFT) أكثر من 17 مليار دولار وهو ما يمثل زيادة تصل إلى 200% مقارنة بالعام الذي سبقه.
وقد صعد سوق الرموز غير القابلة للاستبدال خلال العام الماضي بسرعة مدفوعاً بالدعاية وقصص ثراء الفنانين والمبدعين والمستثمرين الذين دخلوا لهذا السوق مبكراً، ولكن ما لفت الانتباه أكثر لهذه الصناعة الناشئة هو شراء أول تغريدة في موقع تويتر بمبلغ يصل إلى 2.9 مليون دولار.
يطلق الخبير الاقتصادي "نيكولاس طالب" مؤلف كتاب "البجعة السوداء" (The Black Swan) أحد أكثر الكتب تأثيراً منذ الحرب العالمية الثانية وفقاً لمجلة "التايمز" (The Times) البريطانية، على ذلك اسم "فقاعة الرموز غير القابلة للاستبدال"، ويصفها بأنها في طريقها للانفجار منطلقاً من واقع إنفاق البعض مبالغ طائلة على منتجات غير منطقية متوقعين تحقيق الربح منها مستقبلاً، بدون التحقق من مدى ثبات هذا السوق واستقراره ولو على المدى القريب.
كما أفرز هذا الأمر الكثير من الأسئلة أهمها: ما الذي يحدد سعر "الرموز غير القابلة للاستبدال"؟ وما هي المعايير التي يمكن أن يصل العنصر بموجبها ليتم بيعه بملايين الدولارات في حين أنه متوفر مجاناً للجميع؟
ما هي الرموز غير القابلة للاستبدال وكيف يتم إنشاؤها؟
الرموز غير القابلة للاستبدال هي أصول رقمية تمثل أشياء ذات قيمة مثل الأعمال الفنية والمقتنيات وعناصر الألعاب ومقاطع الفيديو، يتم تخزينها وتداولها عبر الإنترنت باستخدام العملات المشفرة ويتم ترميزها بشكل عام ضمن عقود ذكية على شبكة البلوك تشين.
تعد الرموز غير القابلة للاستبدال بشكل عام واحدة من نوعها ولها رموز تعريف فريدة، ويمكن لأي شخص مشاهدتها عبر الإنترنت مجاناً وحتى الاحتفاظ بنسخة منها، ومع ذلك يرغب معظم الأشخاص في إنفاق الملايين على شرائها، حيث يتمكن المشتري من امتلاك العنصر الأصلي، ومثلها مثل أي سلعة تُنفق مبالغ كبيرة على شرائها، فقد يرغب المشترى في بيعها لاحقاً بأضعاف ثمنها الحالي.
وليس ذلك فحسب فعناصر الرموز غير القابلة للاستخدام تحتوي على مصادقة رقمية مضمنة والتي تعد بمثابة دليل على الملكية، ويتم الاحتفاظ بهذه الرموز وتداولها عادةً على شبكة "إيثيريوم بلوك تشين" Ethereum blockchain على الرغم من أن معظم شبكات البلوك تشين الأخرى تدعمها أيضاً.
وهي تختلف عن العملات الرقمية المشفرة مثل البيتكوين، حيث تعتبر النقود المادية والعملات المشفرة "قابلة للاستبدال" ما يعني أنه يمكن تداولها أو تبادلها مع بعضها بعضاً، كما أنها متساوية في القيمة الدولار يساوي دائماً دولاراً آخر، وعملة البيتكوين الواحدة تساوي دائماً بيتكويناً آخر.
ولكن الرموز غير القابلة للاستبدال لكل منها توقيع رقمي يجعل استبدالها أو تساويها مع بعضها بعضاً مستحيلاً، ومن ثم فهي غير قابلة للاستبدال. وبشكل أساسي الرموز غير القابلة للاستبدال هي عناصر تُجمع ولكن رقمياً فقط، لذلك بدلاً من الحصول على لوحة زيتية فعلية لتُعلق على الحائط يحصل المشتري على ملف رقمي.
يتضمن هذا الملف الرقمي العديد من البيانات التي تثبت حق الملكية الحصرية للرمز، ويمكن أن يكون للرمز مالك واحد فقط، كما أن استخدامها لتقنية البلوك تشين يجعل من السهل التحقق من الملكية ونقلها بين المالكين. ويمكن للمنشئ أيضاً تخزين معلومات محددة في بيانات وصفية، على سبيل المثال يمكن للفنانين تضمين توقيعهم في الملف.
تعرف على: أبرز الطرق المستخدمة في سرقة الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT).
لأن ليس كل ما يلمع في العالم الرقمي ذهباً
أولاً لوضع بعض النقاط فوق الحروف يجب علينا أن نتذكر أننا الآن في عالم رقمي يتطور باستمرار ويمكن أن نرى فيه تكنولوجيات ناشئة تصعد بسرعة الصاروخ نتيجة للدعاية أو اندفاع الجميع نحوها بدون تفكير، وهذا ما شاهدناه في الكثير منالتكنولوجيات الناشئة التي لم يتم التحقق منها ومعرفة مدى نجاح تطبيقها حتى الآن ولكنها مع ذلك لاقت إقبالاً جنونيّاً وغير منطقي.
وسوق الرموز غير القابلة للاستبدال هو أبرز دليل على ذلك، فحين اشترى الرئيس التنفيذي لشركة "بريدج أوراكل" (Bridge Oracle) "سينا إستافي" (Sina Estavi) الشهادة الرقمية لأول تغريدة في منصة تويتر في شهر مارس من عام 2021 بمبلغ 2.9 مليون دولار غرد قائلاً: "هذه ليست مجرد تغريدة أعتقد أنه بعد سنوات سيدرك الناس القيمة الحقيقية لهذه التغريدة، مثل لوحة الموناليزا".
والآن بعد عام واحد قام المالك الجديد للتغريدة "سينا ستافي" بعرضها في المزاد العلني متوقعاً أن يصل سعرها إلى 50 مليون دولار، ولكن المفاجأة وبعد ستة أيام من عرضها في المزاد العلني، جلبت التغريدة سبعة عروض وصل أعلاها إلى 14 ألف دولار، فقط وهو ما يمثل 0.2% من سعر الشراء الأصلي.
اقرأ أيضاً: هل ستنجح عملة ميتا المشفرة التي تحمل اسم مارك زوكربيرج أم سيكون مصيرها كسابقاتها؟
ما هي العوامل التي تحدد أسعار الرموز غير القابلة للاستبدال؟
يقول "جوناثان فيكتور" (Jonathan Victor) مدير قسم الألعاب والرموز غير القابلة للاستبدال في شركة "بروتوكول لابس" (Protocol Labs):"لا أعتقد أنه من المفاجئ أننا نشهد هبوطاً خفيفاً في أسعار الرموز غير القابلة للاستبدال، حيث أن عام 2021 كان عام الطفرة الكبرى لهذه الصناعة ما أدى إلى تقييمات عالية، سمحت للفنانين والمبدعين في الحصول على التقدير المادي نتيجة إبداعاتهم".
وبحسب العديد من الخبراء فإن بيع الرموز غير القابلة للاستبدال وشراءها قد وصل إلى مرحلة النضج، وهذا ما يفسر انخفاض مبيعاتها خلال شهر مارس من العام الحالي إلى 2.4 مليار دولار بعد أن وصلت إلى أكثر من 5 مليارات دولار في شهر أغسطس من العام 2021.
ولكن مع ذلك فإن هذا يثير سؤالاً مهماً: مع وجود العديد من الرموز غير القابلة للاستبدال في السوق الآن، كيف يمكن للمشتري تقييم سعر أي رمز من الرموز غير القابل للاستبدال؟ وما هي طرق تقييم الرموز غير القابلة للاستبدال والتي من المرجح أن تزيد قيمتها مستقبلاً؟
-
ندرة الرمز غير القابل للاستبدال
يعتبر عامل الندرة أو مدى صعوبة الحصول على رمز معين غير قابل للاستبدال هو ما يحدد ندرته، على سبيل المثال في مجال الفن الرقمي فإن الندرة هي أن يكون العمل الفني فريداً من نوعه وتم إنشاؤه بواسطة شخص أو شركة مشهورة.
حيث نجد أن بعض المنصات تدعم فقط الأعمال الفنية الرقمية الفريدة ذات الإصدار الواحد، ومن ثم فإن عامل الندرة يمنح الشخص المالك لرمز غير قابل للاستبدال فريداً من نوعه إحساساً بالتميز والتفاخر، وهو ما يمكن أن يساعد في تحديد قيمة العنصر.
-
الجدوى من ملكية رمز غير قابل للاستبدال
تأتي فائدة الرموز غير القابلة للاستبدال من استخدامها في تطبيق واقعي سواء في العالم المادي أو الرقمي، حيث نجد بعضها يأتي في شكل مقتنيات يمكن استخدامها في الألعاب وعوالم الميتافيرس كأراضٍ افتراضية أو صور رمزية.
ومن ثم مثل هذه الخصائص هي ما يمنح الرموز غير القابلة للاستبدال قيمة فورية تنضج بمرور الوقت اعتماداً على شعبية المشروع الأساسي، مثل قطع الأراضي النادرة في عالم الميتافيرس، حيث سيكون هناك الكثير من الأشخاص على استعداد لدفع مبالغ كبيرة من المال مقابل الحصول على هذا العنصر الفريد.
-
قيمة مادية ملموسة
ترتبط بعض الرموز غير القابلة للاستبدال بأشياء من العالم الحقيقي والتي توفر قيمة يمكن استخدامها من أجل شيء واقعي مثل الصوت حيث يمكن لمكون صوتي إضافة قيمة للرمز غير القابل للاستبدال، وأبرز دليل على ذلك قيام فريق "غولدن ستيت ووريورز" (Golden State Warriors) الأميركي لكرة السلة ببيع رموز غير قابلة للاستبدال تضمنت فائدة ملموسة للمشتري، والتي جاءت في شكل تذكارات موقعة من النجوم وتذاكر مباريات فاصلة.
بالإضافة إلى العناصر ذات القيمة الملموسة الأكثر ملاءمة للتداول قصير الأجل في السوق، والتي لها تاريخ انتهاء صلاحية بمرور الوقت مثل تذكرة حضور حدث نادر أو حفلة موسيقية لفنان مشهور، أو المقتنيات الأخرى مثل قطعة معينة من الملابس ذات الإصدار المحدود والتي يمكن أن تتراكم قيمتها بمرور الوقت لأن عدد العناصر المتداولة يتناقص باستمرار.
اقرأ أيضا: كيف تصنع صور NFT وتحقق الربح من إنشاء الرموز غير القابلة للاستبدال؟
دراسة معهد آلان تورينج لعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي
قام فريق من العلماء بتمويل من "معهد آلان تورينج" (Alan Turing Institute) لعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي بإجراء دراسة شاملة حول العوامل المحددة من خلال رسم خريطة شاملة لتطور سوق الرموز غير القابلة للاستبدال.
حيث قام الفريق بدراسة بيانات أكثر من 4.7 مليون رمز غير قابل للاستبدال تم تبادلها من قبل أكثر من 500 ألف مشترٍ وبائع في الفترة ما بين 23 يونيو 2017 و27 أبريل 2021.
وتضمنت العناصر التي تمت دراسة بياناتها عناصر الفن الرقمي بالإضافة إلى المقتنيات الأخرى مثل البطاقات الرقمية والعناصر التي تستخدم في ألعاب الفيديو مثل الأسلحة والملابس، وقد وجد الفريق تبايناً كبيراً في أسعار الرموز غير القابلة للاستبدال التي تم تحليلها.
حيث وُجد أن هناك 1% فقط من العناصر قد بيعت بأكثر من 1500 دولاراً، بينما بيعت أكثر من 75% من العناصر الأخرى بأسعار وصلت إلى أقل من 15 دولاراً . ومن أجل معرفة ما الذي يحدد سعر بيع الرموز غير القابلة للاستبدال، قام الفريق بتطوير برنامج حاسوبي يعتمد على التعلم الآلي والذي يأخذ في الاعتبار ثلاثة عوامل هي:
1- الخصائص المرئية للرمز القابل للاستبدال
حيث تم تقييم السمات المرئية للأصول الرقمية باستخدام تقنيات رؤية حاسوبية متطورة تستخرج الخصائص المرئية للعناصر، مثل ألوانها وأشكالها والبحث عن أوجه التشابه فيما بينها.
2- المبيعات السابقة للرموز غير القابلة للاستبدال ذات الصلة
حيث تم تقييم المبيعات السابقة لهذه الرموز من خلال النظر في تاريخ السوق للعناصر من نفس المجموعة.
3- شعبية المشترين والبائعين
حيث تم تقييم شعبية المتداولين في شبكات الرموز غير القابلة للاستبدال، من خلال النظر في إجمالي عدد عمليات الشراء والمبيعات التي قام بها كل متداول.
وقد وجد الفريق أن العوامل الثلاثة تلعب دوراً كبيراً في تحديد أسعار الرموز غير القابلة للاستبدال، حيث تعد المبيعات السابقة ذات الصلة أهم ميزة باستمرار، وهو ما يفسر ما يصل إلى 50٪ من التباين في أسعار الرموز غير القابلة للاستبدال.
بالإضافة إلى ذلك تعد الميزات المرئية أيضاً من المحددات المهمة للسعر، وهو ما رفع من مستوى أداء نموذج التعلم الآلي بنسبة 10-20٪. بينما تؤدي إضافة بيانات حول شعبية المتداولين إلى زيادة في مستوى أداء النموذج بنسبة 10٪. وقد خلص الفريق إلى أنه يمكن لهذه العوامل الثلاثة معاً أن تفسر ما يصل إلى 70٪ من التباين في أسعار الرموز غير القابلة للاستبدال.
اقرأ أيضا: كيف يمكنك تخزين الرموز غير القابلة للاستبدال؟
سوق ناشئ بقوة ولكن يعتمد على المشتري وليس البائع
ما زال سوق الرموز غير القابلة للاستبدال بصفته سوقاً ناشئاً محفوفاً بالمخاطر، وغالباً ما يكون الاستثمار فيه هو قرار شخصي إلى حد كبير، ومن ثم إذا كان لديك أموال إضافية فقد يستحق الأمر بعض المخاطرة خاصة إذا وجدت عنصراً فنياً أو مقتنيات تعنى لك شيئاً.
ومع ذلك ضع في اعتبارك أن سعر الرمز غير القابل للاستبدال يعتمد بالكامل على ما يرغب شخص آخر في دفع ثمنه، أو بمعنى يعتمد على تقييم المشترى للرمز، لذلك هو من سيقود الطلب بدلاً من المؤشرات الأساسية أو التقنية أو الاقتصادية، والتي تؤثر عادة على أسعار الأسهم أو على الأقل تشكيل أساس الطلب للمستثمرين.
اقرأ أيضاً: الرموز غير القابلة للاستبدال: مصدر لكسب الأموال أم فخ منصوب؟
وكل هذا يعني أنه قد يتم إعادة بيع الرمز غير القابل للاستبدال بأقل مما دفعته، أو قد لا تكون قادراً على إعادة بيعه على الإطلاق إذا لم يكن أحد يريده، وهذا يعود غالباً إلى أن السوق حتى الآن يعتبر ناشئاً وهشّاً للغاية، بالإضافة إلى عدم وجود الكثير من الأسس التي يمكن الاستناد إليها في تسعير عناصرها ما يمكن اعتباره ربما فقاعة كبرى في طريقها للزوال.