لم يتوقف الطب عن التطور منذ اختراع سماعة الطبيب قديماً، غير أن العقود الأخيرة شهدت طفرات في الاستفادة من التكنولوجيا بالطب، بدءاً من تقديم الرعاية الشخصية، وطرق التشخيص، وتطور الأدوية، وأجهزة العلاج، وحتى البحوث الطبية وطرق جمع البيانات. فقد غيّرت التكنولوجيا مفاهيم الرعاية الصحية ذاتها، وهو ما يمكنك الشعور به كفرد، ومن أهم هذه التغييرات:
تطبيقات الهاتف المحمول: طبيبك في جيبك
تضم الصفحة الرئيسية لهواتفنا عشرات التطبيقات مثل التطبيقات الخاصة بالتراسل الفوري، والتواصل الاجتماعي، وإجراءات البنوك، والتنقل الخاص، وتطبيقات الصحة العامة التي تمكنك من مراقبة صحتك دون الإسراع إلى الطبيب عند كل عارض بسيط. حيث يمكنك التحقق من معدل ضربات القلب، وقياس الضغط، ومستوى الأكسجين في الدم، ويمكنك حتى التحقق من الأعراض الخاصة بك للتعرف على مرضك.
وقد أطلقت مؤخراً كلية العلوم مع كلية الطب بجامعة شولالونجكورن تطبيق "رعاية الرئة" (Lung Care)، لاختبار أداء الرئة. من خلال النفخ عبر ميكروفون الهاتف الذكي، يمكنك الحصول على تقييم أولي لعمل الرئتين أو تتبع أحد الأمراض التي تصيب الرئة.
في 2021، وصل عدد تطبيقات الرعاية الصحية إلى أكثر من 350,000 تطبيقاً عبر متاجر التطبيقات الكبرى، 90 ألفاً منها أطلق العام الماضي فقط، بمعدل 250 تطبيقاً يومياً، فتضاعف عدد التطبيقات المتعلقة بالرعاية الصحية، سواء التطبيقات الطبية أو التغذية واللياقة البدنية، منذ عام 2015 بسبب زيادة الاعتماد على الهواتف الذكية والاستثمار الكبير المستمر في سوق الصحة الرقمية.
الأمر ليس مرتبطاً فقط بالتطبيقات الطبية، وإنما بات لدينا مراقبين عبر هواتفنا الذكية لتتبع العادات الصحية التي نتبعها وتذكيرنا بها، مثل عدد الخطوات التي نسيرها، ومواعيد النوم، والوجبات التي نتناولها، وتناول المياه، وما إلى ذلك.
وفقاً لأحد التقارير، زادت تنزيلات التطبيقات الطبية بنسبة 50%، خاصة تطبيقات تتبع فيروس كورونا وتطبيقات الصحة عن بُعد، وتجاوزت 3.2 مليار تنزيل. ولا تساعد تطبيقات الأجهزة المحمولة المرضى فحسب، بل تُستخدم لجمع المعلومات القيمة للباحثين الطبيين والأطباء على حدٍ سواء.
تتعدى هذه التطبيقات الهواتف الذكية لتصل إلى الأجهزة القابلة للارتداء والتي أحدثت ثورة في الرعاية الصحية، إذ تقيس مستوى ضغط الدم، وتراقب معدل ضربات القلب، وهناك أجهزة تتبع مستوى الجلوكوز لمرضى السكري "CGMs" والتي تتيح للمستخدمين مراقبة التأثيرات المباشرة للطعام والتمارين الرياضية، وتشكيل أنماط حياتهم وفقاً لذلك.
اقرأ أيضاً: كيف تحقق توازناً صحياً بين شخصيتك والتكنولوجيا؟
التطبيب عن بعد: هل ستُلغى عيادات الطبيب؟
اختصرت الثورة التكنولوجية آلاف الزيارات التي كان يتعين على الفرد القيام بها، وزيارة الطبيب في بعض الحالات من ضمنها إذ استبدلت تطبيقات الرعاية الصحية هذه الزيارات بزيارات رقمية، يمكن للمرضى عبرها العثور على أطباء بسهولة ليكونوا في متناول أيديهم وحجز موعد في الحال. هناك أيضاً تطبيقات محمولة تفاعلية تسمح للمرضى بطرح أسئلة صحية عامة على الأطباء المتواجدين على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع دون الحاجة إلى حجز مواعيد. وبدأت بعض شركات الرعاية الصحية بعرض القدوم إلى منزل المريض أو مكتبه لإجراء أي اختبار يحتاج إلى إكمال، ما يوفر وقت المريض والجهد. لذا، لا عجب أن يعتقد 93٪ من الأطباء المشاركين في استطلاع رأي أجرته "GreatCall"، وهي شركة متخصصة في الصحة الرقمية، أن تطبيقات الرعاية الصحية قادرة على إحداث تغيير في صحة المريض.
كما ظهرت ممارسات مراقبة المريض عن بعد (RPM)، والتي لا توفر الوقت فقط، وإنما أيضاً تسهل الوصول إلى البيانات الصحية للمريض، فيمكن للأطباء الاطلاع سريعاً على بطاقات التأمين الخاصة بالمرضى، أو السجلات الصحية الخاصة بهم، أو التوثيق السريري، أو مراقبة العلاج، وضمان نقاط الاتصال المباشر مع المرضى على أساس منتظم، ما يساهم في توفير الوقت وتقليل الأخطاء. تساهم رقمنة الرعاية الصحية أيضاً في إنقاذ حيوات المرضى خاصة في لحظات الطوارئ، فعند وجود إحدى الحالات الطارئة، سيتم إرسال جميع البيانات المهمة إلى جهاز الطبيب، ما يوفر الكثير من الوقت ويمكن للطبيب الاستعداد لمثل هذا الموقف مقدماً بشكل أسرع.
تشيع هذه الممارسة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تشير دراسة أجرتها "Insider Intelligence"، وهي شركة متخصصة في أبحاث السوق، إلى أنه في عام 2020، استخدم ما يقدر بنحو 23.4 مليون مريض شكلاً من أشكال مراقبة المريض عن بُعد، وسيرتفع العدد إلى 70.6 مليون مريض بحلول عام 2025.
اقرأ أيضاً: هل سيكون هناك مساواة في مجال الصحة العالمية مع دواء ثمنه ملايين الدولارات؟
الذكاء الاصطناعي: تخفيف أعباء الأطباء
يتخذ الذكاء الاصطناعي (AI) العديد من الأشكال المختلفة في مجال الرعاية الصحية، ويقوم بدور مهم في التشخيص، وجمع البيانات، واتخاذ بعض القرارات والإجراءات الروتينية بدلاً من البشر.
فيما يتعلق بالتشخيص، على سبيل المثال، ابتكرت شركة "ديب مايند" ((DeepMind المملوكة لشركة "جوجل"، نظام ذكاء اصطناعي يمكنه تحديد 50 نوعاً مختلفاً من أمراض العين بدقة مثل الطبيب، إذ يحلل بشكل ثلاثي الأبعاد شبكية العين بحثاً عن العلامات المبكرة لحالات مثل الجلوكوما ومرض العين السكري والضمور البقعي. ويقول مصطفى سليمان، المؤسس المشارك في "ديب مايند" إن نظام الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في إنقاذ بصر الناس، إذ يمكنه تفسير فحوصات العين بشكل أسرع من الممارسة السريرية الروتينية بدقة غير مسبوقة، ويقدم توصياته لإحالة المرضى للعلاج لأكثر من 50 من أمراض العيون التي تهدد البصر بدقة مثل الأطباء الخبراء العالميين".
كما أطلقت شركة "IBM Watson" برنامجها المخصص لأطباء الأورام، والذي يوفر للأطباء خيارات العلاج القائمة على الأدلة. يتمتع البرنامج بقدرة متقدمة على تحليل البيانات المهيكلة وغير المهيكلة في الملاحظات والتقارير السريرية التي قد تكون حاسمة في اختيار مسار العلاج. كما يحدد، من خلال الجمع بين السمات من ملف المريض والخبرة السريرية والبحوث الخارجية والبيانات، خطط العلاج المحتملة للمريض.
وفي تجربة أخرى لاختبار قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على تشخيص الأمراض، اكتشف باحثون في جامعة "تولين" أن الذكاء الاصطناعي يمكنه اكتشاف وتشخيص سرطان القولون والمستقيم بدقة عن طريق تحليل فحوصات الأنسجة أيضاً. هدفت الدراسة لتحديد قدرة الذكاء الاصطناعي ليكون أداة لمساعدة علماء الأمراض في مواكبة الطلب المتزايد على الخدمات.
ويظل التطبيق الأكثر وضوحاً للذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية هو إدارة البيانات، إذ يعد جمع البيانات وتخزينها وتطبيعها وتتبعها الخطوة الأولى في إحداث ثورة في أنظمة الرعاية الصحية الحالية، لاسيما وأن هذه المهام البيروقراطية من بين الأسباب المبلغ عنها لإرهاق الأطباء. لذا، يمكن للخوارزميات أتمتة مثل هذه المهام الإدارية لتوفير وقت ثمين لأخصائيي الرعاية الصحية لتكريسه لمرضاهم وتوضيح الحالات الطبية.
سيدخل الذكاء الاصطناعي في علاج الصحة النفسية أيضاً، فعلى سبيل المثال، نقل فريق من الباحثين من جامعة هارفارد وجامعة فيرمونت تكنولوجيا التعرف على الوجه إلى مستوى آخر، وهي تشخيص الاكتئاب عبر ملامح الوجه، عبر إنشاء برنامج تعلم آلي قادر على تشخيص الاكتئاب في صور السيلفي، وكشفت النتائج أن دقة البرنامج تبلغ 70%.
يمكن أن يساعد المساعد الافتراضي على إحداث نقلة من نوع خاص في مجال الطب، ويتربع تقديم الرعاية الصحية بأسرع وقت واجهة هذه النقلة، فقد أظهرت دراسة أن 89٪ من الأشخاص يبحثون على "جوجل" قبل زيارة الطبيب. غير أن المعلومات المستندة إلى الإنترنت غير كاملة وغير موثوقة فيما يتعلق بعلاج المرض. وهنا يأتي دور محادثات الطبيب الافتراضي الذي سيشخص أعراض المرض، ويصف للمريض الأدوية المناسبة في الوقت الفعلي.
اقرأ أيضاً: 5 استخدامات هامة للذكاء الاصطناعي في قطاع الصحة
إجراءات استباقية: لا داعي لانتظار المرض ثم التحرك الطبي
كانت أنظمة الرعاية الصحية التقليدية في مرمى الانتقادات بسبب نهجها الرجعي تجاه الطب، حيث تتعامل مع المشكلات الصحية فقط بمجرد أن تتطور بما يكفي لتصبح مشكلة. لكن تطوير التكنولوجيا الطبية وزيادة إمكانية الوصول إليها يمنح المرضى فرصة لعلاج الأمراض في بدايتها، ما يمنحهم فرصة أكبر للشفاء بنجاح، مثل تقديم فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي لكامل الجسم كجزء من اختبارات الصحة والتي يمكنها اكتشاف العديد من الاضطرابات قبل ظهور الأعراض، بما في ذلك أورام الدماغ وتدهور العمود الفقري والآفات الرئوية وأمراض القلب وغيرها.
وبالمثل، يمكن لاختبارات الدم السرطانية الجديدة اختبار عينة دم المريض لأكثر من خمسين نوعاً مختلفاً من السرطان في الجسم في وقت واحد. باستخدام هذه التكنولوجيات، يمكن للمرضى أن يكونوا أكثر ثقة بأن الأمراض لا تنمو في أجسامهم دون أن يتم اكتشافها.
رعاية رقمية متخصصة: العلاج ليس واحداً للجميع
نظرًا لأن التطورات في التكنولوجيا الطبية تسمح بمزيد من فرص الاختبار، يمكن لشركات الرعاية الصحية حاليّاً التقاط مليارات من نقاط البيانات لمريض فردي واستخدامها لتقديم رعاية أكثر تخصيصاً. فعلى سبيل المثال، يمكن تجميع البيانات الكمية من العلامات الحيوية والاختبار الجينومي وتحليلها للكشف عن فهم شامل وكامل لصحة المريض. ومن خلال النظر إلى الحالة الصحية الكاملة للمريض وتاريخه الصحي، يصبح مقدمو الخدمة قادرين على تقديم رعاية أكثر تخصيصاً، فيسمح الابتكار في التكنولوجيا للأطباء ليس فقط بفهم مرضاهم بشكل أكثر شمولية من أي وقت مضى، ولكن أيضاً بتزويدهم برعاية شخصية لم يسبق لها مثيل.
غالباً ما يحتاج المرضى المصابون بأمراض مزمنة إلى رعاية مستمرة من أطبائهم، بداية من تثقيف المريض ومراقبة الأعراض وتعديل الأدوية والتغيرات السلوكية. غير أن هذه الرعاية مكلفة جداً، كما تستغرق وقتاً طويلاً للطبيب والمريض، وهنا يأتي دور العلاجات الرقمية الجديدة التي يمكنها أن تلعب هذا الدور، فيصف الطبيب العلاجات الرقمية للمريض وفقاً لحالته الطبية الخاصة، عن طريق وصف تطبيقات عبر الهاتف الذكي للمريض، وإخضاعهم لاختبارات صارمة بما في ذلك التجارب السريرية العشوائية.
اقرأ أيضاً: العامل الذكي: تكنولوجيا الصحة والسلامة في قطاع النفط والغاز
البحوث الطبية: نقلة زمنية تختصر سنوات
ساعدت التكنولوجيا العلماء في فحص الأمراض على المستوى الخلوي وإنتاج أجسام مضادة ضدها، وسرّعت من وقت الأبحاث التي كانت تستغرق سنوات، لتنتهي في شهور وحتى أسابيع. وقد ظهر ذلك جلياً في احتواء أزمة إيبولا في أقصر وقت ممكن من خلال التكنولوجيا.
كما ساهمت التكنولوجيا في تسهيل تحليل العينات في المختبرات، إذ يستغرق أخذ العينات إلى المختبر وقتاً طويلاً، فلماذا لا يُؤخذ المختبر إلى العينات؟ طور باحثون في جامعة ستانفورد هذه الفكرة بابتكار ما يسمى بـ "مختبر على شريحة" والتي يبلغ حجمها نصف حجم بطاقة الائتمان، وتحتوي على شبكة معقدة من القنوات أصغر من عرض شعرة الإنسان، وقدمت نتائج اختبار فيروس كورونا في أقل من 30 دقيقة.
اقرأ أيضاً: تكنولوجيا الوباء تتجاهل خبراء الصحة العامة ويجب أن يتغير هذا الوضع فوراً
تكنولوجيات حديثة غيّرت شكل الطب
- الطباعة ثلاثية الأبعاد: أحدثت الطباعة ثلاثية الأبعاد ثورة في السنوات الأخيرة امتدت لمجال الطب، وخاصة في الأطراف الصناعية؛ لقد جعلت هذه التكنولوجيا أجزاء الجسم واقعية للغاية ورخيصة جداً. هذه الطابعات ليست مخصصة فقط لطباعة أجزاء الجسم ولكنها مفيدة أيضاً للأطباء الذين يرغبون في الحصول على فهم أفضل لجسم الإنسان. الجراحون والأطباء قادرون على إجراء العمليات الجراحية على أجسام مطبوعة بشكل مصطنع قبل إجراء العمليات على بشر حقيقيين.
- تكنولوجيا النانو: دخلت تكنولوجيا النانو في عالم الطب لتحدث ثورة حقيقية به، سواء في المختبرات، أو التشخيص أو العلاج. فقد طور باحثون رقائق مرتبطة بأنابيب الكربون النانوية للكشف عن الخلايا السرطانية في مجرى الدم. إضافة إلى اكتشاف طريقة سريعة للكشف عن الإصابة بفيروس كورونا المستجد في عشر دقائق، بالاعتماد على تكنولوجيا النانو دون تجهيزات مخبرية متقدمة أو حتى طاقم طبي مختص، إذ تُستخدم جسيمات الذهب النانوية، وفي حال وجود الفيروس، يتغير لون السائل الموجود من البنفسجيّ إلى الأزرق.
- تقنية الهولوجرام: استطاع الباحثون الاستفادة من تقنية الهولوجرام، وهي عبارة عن أسلوب تصويري يظهر جسم معين بطريقة ثلاثية الأبعاد، في الطب، ولا سيما في علم التشريح. فقد استعان عدد من كليات الطب بتقنية الهولوجرام لتشريح أعضاء الجسم البشري، حيث يسمح للأساتذة والطلاب برؤية جسم الإنسان ثلاثي الأبعاد بالكامل أمامهم، وتحريكه وإزالة الأجزاء واستبدالها، إذ يمكنهم جعل الجسم شفافاً من النظر إلى الداخل وفهم تشريح القلب.
مع استمرار التقدم في التكنولوجيا مثل تقنيات الجيل الخامس، وإنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، ستتطور كذلك الطرق التي نهتم بها بأجسادنا. سيستمر المرضى في اللجوء إلى الشركات التي يسمح دمجها للابتكار التكنولوجي في الطب للمرضى بضمان محافظتهم على صحتهم. وسيظل المستثمرون يضعون أموالهم في الصحة الرقمية.