تدريب الذكاء الاصطناعي في السيارات ذاتية القيادة باستخدام محاكاة افتراضية واقعية

6 دقائق
تدريب الذكاء الاصطناعي في السيارات ذاتية القيادة باستخدام محاكاة افتراضية واقعية
حقوق الصورة: وابي.

إن بناء السيارات ذاتية القيادة عملية بطيئة ومكلفة. وبعد سنوات من الجهود ومليارات الدولارات من الاستثمارات، ما زالت هذه التكنولوجيا عالقة في المرحلة التجريبية. ولكن راكيل أورتاسون تعتقد أنها قادرة على تحقيق نتائج أفضل. 

ففي السنة الماضية، وبعد شعورها بالإحباط من وتيرة سير هذه الصناعة، تركت أورتاسون أوبر، حيث كانت تقود أبحاث السيارات ذاتية القيادة في شركة الطلب الإلكتروني للسيارات منذ أربع سنوات، وذلك لإطلاق شركتها الخاصة "وابي" (Waabi). تقول أورتاسون، والتي توزع وقتها ما بين صناعة السيارات ذاتية القيادة وجامعة تورونتو: "حالياً، تتسم معظم مقاربات القيادة الذاتية ببطء شديد يمنعها من إحراز أي تقدم ملموس، ونحن في حاجة إلى أسلوب مختلف بشكل جذري".

والآن، كشفت وابي عن طريق مختصر مثير للجدل لتطوير السيارات ذاتية التحكم، وهو طريق تراهن عليه أورتاسون بكل ما لديها. ولكن، ما فحوى هذه الفكرة الكبيرة؟ ببساطة، التخلي عن السيارات.

بيئة افتراضية فائقة الواقعية

فعلى مدى الأشهر الستة الماضية، كانت وابي تعمل على بناء بيئة افتراضية فائقة الواقعية، تحمل اسم وابي وورلد. وبدلاً من تدريب نظام الذكاء الاصطناعي على القيادة في سيارات حقيقية، تخطط وابي للقيام بكامل العملية تقريباً داخل بيئة محاكاة. وتقوم الخطة على عدم إجراء الاختبارات على الذكاء الاصطناعي في سيارات حقيقية على طرقات حقيقة إلا بعد جولة نهائية من المعايرة الدقيقة. 

وتكمن المشكلة في أن تعلم التعامل مع عشوائية الطرقات الحقيقية يتطلب تعريض الذكاء الاصطناعي إلى كامل مجموعة الأحداث التي يمكن أن يواجهها على الطريق. ولهذا، فقد أمضت شركات السيارات ذاتية القيادة العقد الماضي في جولات على طرقات طولها ملايين الكيلومترات حول العالم. وقد بدأت بضع شركات منها، مثل "كروز" (Cruise) و"وايمو" (Waymo)، باختبار السيارات دون سائقين بشر في بعض البيئات المدنية الهادئة في الولايات المتحدة. ولكن التقدم ما زال بطيئاً. "لماذا لم نشهد أي توسع في هذه البرامج التجريبية الصغيرة؟ ولماذا لا نرى هذه السيارات في كل مكان؟" كما تسأل أورتاسون.

تطلق أورتاسون ادعاءات جريئة بالنسبة لمديرة شركة لم تختبر أياً من تكنولوجياتها على الطرقات حتى الآن، بل إنها لا تمتلك حتى أي سيارات. ولكن، وبتفادي تكاليف اختبار البرمجيات على الطرقات الحقيقية، تأمل ببناء نظام القيادة بالذكاء الاصطناعي بشكل أسرع وأقل تكلفة من منافسيها، ما يعطي الصناعة بأكملها دفعة تحتاجها بشدة. 

اقرأ أيضاً:كيف يمكن للسيارات ذاتية القيادة أن تصنع الفارقَ في حياة ذوي الاحتياجات الخاصة؟

سائقون افتراضيون

ليست وابي الشركة الأولى التي تطور عوالم افتراضية واقعية لاختبار برامج القيادة الخاصة بها. ففي السنوات القليلة الأخيرة، أصبحت عمليات المحاكاة واسعة الانتشار بين شركات السيارات ذاتية القيادة. ولكن السؤال الحقيقي هو ما إذا كانت عمليات المحاكاة لوحدها كافية لمساعدة الصناعة على التغلب على آخر العوائق التقنية التي تمنعها من التحول إلى خيار حقيقي وواقعي. يقول جيسي ليفينسون، أحد مؤسسي شركة "زوكس" (Zoox) الناشئة –وهي شركة سيارات ذاتية التحكم اشترتها أمازون في 2020- ومسؤولها التكنولوجي: "لم يقم أحد حتى الآن ببناء ما يشبه عالم فيلم Matrix للسيارات ذاتية القيادة".

ولكن، وفي الواقع، فإن جميع شركات السيارات ذاتية التحكم تقريباً تستخدم المحاكاة بشكل آو بآخر. فهي تسرع عملية الاختبار، وتعرض الذكاء الاصطناعي إلى نطاق أكبر من السيناريوهات بشكل يتجاوز ما قد يراه في العالم الحقيقي، كما تقلل من التكاليف. ولكن معظم الشركات تجمع ما بين المحاكاة والاختبار الحقيقي، وغالباً ما تدخل في حلقة مفرغة جيئة وذهاباً بين الطرقات الحقيقية والافتراضية. 

ولكن وابي وورلد نقل عملية المحاكاة إلى مستوى مختلف تماماً، فالعالم نفسه يتم توليده والتحكم به من قبل الذكاء الاصطناعي، والذي يلعب دور مدرب القيادة ومدير المسرح في نفس الوقت، حيث يقوم بتحديد نقاط ضعف نظام القيادة بالذكاء الاصطناعي، ومن ثم يعيد ترتيب البيئة الافتراضية لاختباره ثانية. يقوم وابي وورلد بتعليم عدة أنظمة قيادة بالذكاء الاصطناعي قدرات مختلفة في نفس الوقت، قبل أن يجمعها معاً في مجموعة مهارات واحدة. ويحدث كل هذا بصورة متواصلة ودون تدخل البشر، كما تقول أورتاسون. 

اقرأ أيضاً: أبل تخطط لاقتحام سوق السيارات ذاتية القيادة بحلول عام 2024

أحداث نادرة

تستخدم شركات السيارات ذاتية القيادة عمليات المحاكاة لمساعدتها في اختبار قدرة الشبكات العصبونية على التحكم بالسيارة في الأحداث النادرة، مثل مراسل يركب دراجة ويعبر بسرعة من أمام السيارة، أو شاحنة بلون السماء تسد الطريق، أو دجاجة تعبر الطريق، ومن ثم تعديل الشبكة وفق النتائج.

يقول سيد غاندي، والذي يعمل في قسم المحاكاة في كروز، الشركة التي بدأت باختبار سيارات ذاتية التحكم بالكامل على عدد محدود من الطرقات في سان فرانسيسكو: "عندما يكون لديك حدث نادر الوقوع، فإن اختباره بالشكل المناسب يتطلب آلاف الكيلومترات من الطرقات". ويعود هذا إلى أن الأحداث النادرة –أو البعيدة إحصائياً عن الأحداث الأكثر وقوعاً- قد تقع مرة واحدة فقط كل ألف كيلومتر. ويقول: "ومع عملنا على علاج هذه المشكلة، سنصبح أقل اعتماداً على الاختبار في العالم الحقيقي".

في كل مرة تقوم كروز فيها بتحديث برنامجها، تجري مئات الآلاف من عمليات المحاكاة لاختباره. ووفقاً لغاندي، فإن الشركة ستولد آلاف السيناريوهات بناء على أوضاع حقيقية محددة تعاني سياراتها صعوبة في التعامل معها، وتعدل التفاصيل لتغطية نطاق كبير من السيناريوهات المحتملة. كما تستطيع استخدام بيانات الكاميرات من سياراتها في العالم الحقيقي لجعل عمليات المحاكاة أكثر واقعية.

ويستطيع المهندسون عندئذ تغيير شكل الطرقات، وتغيير نوع السيارات، أو تغيير عدد المشاة. وأخيراً، ستستخدم الشركة خوارزمياتها الخاصة للقيادة الذاتية للتحكم بمركبات أخرى ضمن عملية المحاكاة لتدرس تفاعلها مع بعضها بعضاً بواقعية. إن اختبار هذا النوع من البيانات المصطنعة أكثر سرعة بمئة وثمانين مرة وأقل تكلفة بملايين الدولارات من استخدام البيانات الحقيقية، كما يقول غاندي.

أيضاً، تقوم كروز بتجربة عمليات محاكاة مع نسخ افتراضية من مدن أميركية غير سان فرانسيسكو، كما يقول غاندي، وذلك لاختبار برمجياتها للقيادة الذاتية في شوارع افتراضية قبل وصول سياراتها إلى الطرقات الحقيقية في تلك الأماكن بفترة طويلة.

اقرأ أيضاً: تجربة أسترالية لتحسين قطاع النقل باستخدام الذكاء الاصطناعي

المحاكاة أكثر فائدة من القيادة الحقيقية

تجمع الشركات الأخرى على أن المحاكاة جزء هام من عملية التدريب والاختبار للذكاء الاصطناعي المخصص للسيارات ذاتية التحكم. يقول ليفينسون: "في الواقع، إن المحاكاة أكثر فائدة من القيادة الحقيقية لأكثر من سبب".

تقوم شركة "ويف" (Wayve)، وهي شركة سيارات ذاتية التحكم وتعمل في المملكة المتحدة، أيضاً باستخدام الاختبار في المحاكاة والاختبار على الطرقات بالتناوب. وقد كانت تختبر سياراتها على الطرقات المزدحمة في لندن، ولكن بوجود بشري ضمن السيارة في جميع الأوقات. لا تسرع المحاكاة من تطوير السيارات ذاتية القيادة بتخفيف تكاليف الاختبار وحسب، بل يمكن أن يجعل الاختبار أكثر موثوقية، وذلك وفقاً لجيمي شوتون، العالم الأساسي في ويف. ويعود هذا إلى أن المحاكاة تسهل من تكرار الاختبار مرات عديدة. ويقول: "إن مفتاح المحاكاة الناجحة هو السعي باستمرار نحو زيادة الواقعية والتنوع فيها في نفس الوقت".

ومع ذلك، فإن وابي تتفوق على الآخرين في الشوط الذي قطعته باستخدام المحاكاة وحدها، كما تزعم. وعلى غرار كروز، فإن وابي بنت عالمها الافتراضي على بيانات مأخوذة من حساسات حقيقية، بما فيها حساسات ليدار وكاميرات، والتي تستخدمها لبناء نسخ رقمية من تشكيلات العالم الحقيقي. تقوم وابي بعد ذلك بمحاكاة بيانات الحساسات التي يراها سائق الذكاء الاصطناعي –بما في ذلك الانعكاسات على السطوح اللامعة، والتي يمكن أن تربك الكاميرات، وأدخنة العوادم أو الضباب، والتي تستطيع أن تعيق عمل الليدار- لجعل العوالم الافتراضية واقعية قدر الإمكان.

ولكن اللاعب الأساسي في عالم وابي هو مدرب القيادة الذي يشرف على جميع تفاصيل البيئة المحيطة، فمع تعلم سائق الذكاء الاصطناعي المناورة ضمن نطاق واسع من البيئات، يقوم ذكاء اصطناعي آخر بتعلم كيفية التقاط نقاط ضعفه وتوليد سيناريوهات محددة لاختبارها.

وبالتالي، فإن وابي وورلد يمثل مواجهة بين نظامي ذكاء اصطناعي، حيث يحاول المدرب إفشال السائق باختباره بتحديات مصممة خصيصاً لذلك، ويحاول السائق تعلم كيفية تجاوزها. ومع تحسن السائق، يصبح من الصعب إيجاد حالات يفشل فيها، كما تقول أورتاسون. "يجب أن تعرضه إلى ملايين السيناريوهات، وربما المليارات، حتى يكتشف أخطاءك".

تعتقد أورتاسون أن تدريب السائق ضمن بيئة محاكاة غنية إلى هذه الدرجة هو أقرب إلى طريقة تعلم الناس لمهارات جديدة في الواقع. وتقول: "إن كل مرة نجرب فيها شيئاً جديداً تؤدي إلى إعادة ترتيب أدمغتنا".

اقرأ أيضاً: كروز تستحوذ على شركة ألمانية تصنع رادارات السيارات ذاتية القيادة

تدريب الذكاء الاصطناعي ضمن بيئة المحاكاة

لقد أصبح تدريب الذكاء الاصطناعي ضمن بيئة المحاكاة بوضعه في مواجهة نفسه أو خصم آخر –لملايين المرات- طريقة فائقة الفعالية. فهكذا تمكنت "ديب مايند" (DeepMind) من تدريب ذكائها الاصطناعي على لعبتي جو وستاركرافت، وهي الطريقة التي تتعلم بها بوتات الذكاء الاصطناعي في الملاعب الافتراضية، مثل إكس لاند لديب مايند وهايد أند سيك لمختبر "أوبن إيه آي" (OpenAI)، حيث تتعلم مهارات أساسية ولكنها عامة بالتجربة والخطأ.  

ولكن الناحية السلبية في منح الذكاء الاصطناعي حرية التصرف في بيئة المحاكاة هي أنه قد يتعلم استغلال ثغرة ما غير موجودة في العالم الحقيقي. حيث تتعلم بوتات أوبن إيه في هايد أند سيك التعاون ضمن فرق للاختباء من الآخرين، أو العثور عليهم. ولكنها وجدت أيضاً بعض الأخطاء البرمجية في عملية المحاكاة، ما سمح لها بخرق قواعد الفيزياء بإطلاق نفسها إلى الهواء أو دفع الأجسام عبر الجدران.

ولهذا، يجب على وابي أن تحرص على أن تكون عملية المحاكاة فيها دقيقة بما يكفي لمنع سائق الذكاء الاصطناعي من تعلم عادات سيئة كهذه. فسوف تبقى الشبكات العصبونية على الدوام قادرة على استغلال الاختلافات بين العالم الافتراضي والعالم الحقيقي، كما تقول أورتاسون: "إنها تجيد الغش". 

تقول أورتاسون إن الشركة قامت بتطوير أساليب لقياس الاختلافات بين البيئات الحقيقية والافتراضية وتصغيرها قدر الإمكان. ولم تقدم أي تفاصيل إضافية عن هذه التكنولوجيا، ولكنها تقول إن وابي تخطط لنشر عملها.

إن ما تستطيع وابي تحقيقه باستخدام المحاكاة لوحدها سيعتمد على مدى واقعية وابي وورلد. يقول ليفينسون: "أصبحت عمليات المحاكاة أفضل من ذي قبل، ولهذا فإن عدد الأشياء التي لا يمكن تعلمها سوى في العالم الحقيقي أصبح قليلاً للغاية، ولكنني أعتقد أن هذا العدد سيتراجع إلى الصفر قريباً".

يقول شوتون: "من المهم  أن نحافظ على توازن منطقي بين المحاكاة والاختبار في العالم الحقيقي، فالاختبار النهائي لأي شركة سيارات ذاتية التحكم هو استخدام تكنولوجيتها بأمان على الطرقات، مع جميع تعقيدات العتاد الصلب الحقيقي".

وتتفق أورتاسون مع هذا المبدأ. وتقول: "ما زال الاختبار في العالم الحقيقي ضرورياً، ولكن بدرجة أقل بكثير".

ومهما يحدث، فإن أورتاسون مصرة على أن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر. وتقول: "ما زال الجميع يعملون بنفس الطريقة، على الرغم من أننا لم نتوصل إلى حل المشكلة، نحن في حاجة إلى طريقة لتسريع العملية ، ويجب أن نبذل قصارى جهودنا في العمل بهذه الطريقة الجديدة في التفكير".

المحتوى محمي