خلال الأيام الأولى من الجائحة، كانت كافة الأنظار متجهة نحو اللقاحات المحتملة. في مايو / أيار 2020، أعلنت الولايات المتحدة عن عملية أوبريشن وورب سبيد Operation Warp Speed، والتي كانت عبارة عن خطة لإنفاق المليارات على تطوير اللقاحات. ولكن بعيداً عن أنظار وسائل الإعلام الإخبارية في الغالب، كانت هناك جهود صامتة لتطوير دواء مخصص لمرض كوفيد-19 بنفس المستوى من الضرورة والأمل.
راجع الكيميائيون في منشأة أبحاث شركة فايزر في كونيتيكت بعض الأفكار التي طورتها الشركة أثناء تفشي السارس في عام 2003. حتى في ذلك الوقت، كان هناك خط واضح للاستهداف يتمثل في تثبيط جزء مفهوم بشكل من دورة حياة الفيروس ويتضمن أحد البروتيازات الرئيسية، وهو بروتين ينسق كيفية نسخ الفيروس لنفسه. إن إيجاد مادة كيميائية يمكنها الالتصاق بشدة بهذا البروتين سيؤدي إلى منع الفيروس من التكاثر في الجسم، ما يقلل من احتمال إصابة المريض بحالة خطيرة من المرض.
صدفة طبيعية وجهود حثيثة
حالف الباحثون الحظ على الفور. عندما بحثت شركة فايزر، وجدت أنه لا يوجد أي بروتين من آلاف البروتينات الموجودة في جسم الإنسان يشترك في نفس الجزء من التركيب الجزيئي الذي خططوا لاستهدافه في فيروس كورونا. وهذا يعني إمكانية توجيه ضربة قوية للفيروس دون توقع حدوث أي آثار جانبية كبيرة. قدمت الطبيعة للعلماء هدفاً بارزاً للتركيز عليه. يقول الكيميائي في شركة فايزر دافيد أوين: "هذا هو الهدف البيولوجي الأبرز الذي عملت عليه على الإطلاق".
سرّعت شركة فايزر من عملية تطوير الدواء نحو الأمام عن طريق اختبار مئات المواد الكيميائية بنفس الوقت، ثم إنتاج دفعات كبيرة من أكثر المواد الواعدة. وحتى عندما تم ترخيص أول لقاح لفيروس كورونا في الولايات المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 2020، كان يتم إجراء دراسات على الحيوانات للدواء الذي سيُطلق عليه لاحقاً اسم باكسلوفيد Paxlovid. وبدأت التجارب على البشر في مارس / آذار 2021.
وبحلول خريف عام 2021، كانت شركة فايزر مستعدة لإعلان النجاح. قرر مجلس المراقبة إيقاف الدراسة على البشر لأن مرضى كوفيد-19 الذي تم علاجهم بدواء باكسلوفيد لم يتعرضوا للوفاة، ولكن توفي مرضى تم إعطاؤهم الدواء الوهمي. تقول تشارلوت أليرتون، رئيسة تصميم الأدوية بشركة فايزر: "لقد كانت لحظة رائعة". وعلى الرغم من أن الأمر يأتي متأخراً عن تطوير اللقاح بنحو عام، إلا أن أليرتون تعتقد أن دواء باكسلوفيد قد سجل رقماً قياسياً، فهي أسرع عملية على الإطلاق لانتقال شركة أدوية من تصنيع مادة كيميائية جديدة إلى إثبات أنها تعالج المرض بأمان.
أظهر اختبار أجرته شركة فايزر على متطوعين لم يتلقوا اللقاح أن الدواء الجديد يقلل من احتمال الإصابة بحالة خطيرة من مرض كوفيد بنسبة 89%. ويبدو أن هذه النتائج أتت في وقت مثالي. إذ أن حالات العدوى والوفيات كانت على وشك بلوغ مستويات جديدة مرتفعة. يؤدي متحور أوميكرون الجديد سريع الانتشار إلى إصابة ملايين الأشخاص كل يوم في الولايات المتحدة وحدها. ووصف الرئيس جو بايدن، الذي سمحت إدارته ببيع الدواء في 22 ديسمبر / كانون الأول 2021 ، بأنه "سيغير قواعد اللعبة".
اقرأ أيضاً: المضادات الفيروسية: هل يمكن لحبة دواء واحدة علاج مرض كوفيد-19؟
باكسلوفيد وأخواته
حتى الآن، تتجه أنظار العالم إلى اللقاحات من أجل الوقاية، ويتم في البلدان الغنية اللجوء إلى إجراء باهظ التكلفة يتمثل في الحقن الوريدي لأدوية تسمى بالأجسام المضادة، والتي تثبط الفيروس. مع توافر دواء في عبوات جاهزة يمكنك الحصول عليها في منتصف الليل من الصيدلية بوصفة طبية، سيكون هناك ما يسميه الطبيب ومحلل وسائل التواصل الاجتماعي، إريك توبول، "نهجاً جديداً تماماً لمواجهة الفيروس".
ويضيف: "تحصل على وصفة طبية، وتذهب إلى الصيدلية، وهذا كل ما في الأمر".
يعدّ البروتياز، وفقاً لعلماء البيولوجيا، جزيئاً "شديد الحفظ" بشكل حاسم. وهذا يعني أن هذا الجزء نادراً ما يتغير حتى مع تطور الفيروس. وبالتالي، بينما يتحور فيروس كورونا بسرعة لتفادي اللقاحات، يبدو حتى الآن أن دواء باكسلوفيد سيكون فعالاً ضد أي متحور، سواء كان أوميكرون أو أي متحور يأتي بعده.
في الواقع، تشير التجارب المختبرية التي أجرتها شركة فايزر إلى أن دواء باكسلوفيد سيكون فعالاً ضد جميع فيروسات كورونا، والتي ربما لا يزال أحدها مختبئاً في كهف للخفافيش في مكان ما. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن الشركة قد توصلت إلى آلية محتملة لمواجهة الوباء القادم أيضاً. يقول أوين، الكيميائي بشركة فايزر: "إنه ينطوي على إمكانية أن يصبح دواءً شاملاً لكل فيروسات كورونا وأن يتم تخزينه بكميات كبيرة لمواجهة الأوبئة المستقبلية. لكنه موجود هنا من أجل هذا الوباء، لأننا أنجزناه بسرعة فائقة".
لا يعدّ دواء شركة فايزر هو الدواء الواعد الوحيد كمضاد للفيروسات. في أواخر عام 2020، كان دواء ريمديسفير هو أول مادة كيميائية تتم الموافقة عليها في الولايات المتحدة لعلاج كوفيد-19. ولكن يجب إعطاء دواء ريمديسفير من خلال التسريب الوريدي لخمسة أيام متتالية. وقد حدّ ذلك من تأثيره. في المقابل، قام الكيميائيون في شركة فايزر بتعديل المادة الكيميائية المضادة للفيروسات بحيث يمكن ابتلاعها.
يقول كريس وايت، الباحث في كلية إيكان للطب في نيويورك، والذي عيّنته شركة فايزر لتجربة الأدوية على الفئران في عام 2020: "أشعر أن دواء باكسلوفيد هو الخطوة الكبرى التي كنا نعمل من أجلها خلال هذا الوباء. وأعتقد أنه سيكون بمثابة علاج لمرض كوفيد".
ويضيف:
"تحصل على وصفة طبية، وتذهب إلى الصيدلية، وهذا كل ما في الأمر".
اقرأ أيضاً: ما أسباب عدم قلق شركات الأدوية من طفرات فيروس كورونا؟
تفاؤل حذِر
على الرغم من الحماس المبكر، لا يزال توافر دواء شركة فايزر قليلاً.
على الفور، أنفقت إدارة بايدن المتحرقة إلى إنهاء الوباء 5.3 مليار دولار لشراء ما يكفي لعلاج 10 ملايين مريض من دواء باكسلوفيد بشكل أولي في شهر ديسمبر/كانون الأول وضاعفت الكمية بعد بضعة أسابيع. لكن هذه الكميات الكافية لعلاج 20 مليون مريض لن تتوافر كلها حتى منتصف العام، وغالباً ما يكون الأوان قد فات للتعامل مع الازدياد الحالي في حالات الإصابة بالمتحور أوميكرون.
يتمثل أحد المآخذ الأخرى في أنه ينبغي إعطاء دواء باكسلوفيد في غضون خمسة أيام من بداية الأعراض. تحدد النماذج الداخلية لشركة فايزر ذلك باعتباره أحد التحديات. وجدت دراسة أُجريت في أغسطس / آب 2021 في مجلة حوليات طب الطوارئ (Annals of Emergency Medicine) أن الأشخاص يعانون من الأعراض لمدة خمسة أو ستة أيام وسطياً قبل أن يراجعوا المستشفى. بحلول ذلك الوقت، يكون الأشخاص المصابون بالحالات الخطيرة يعانون من صعوبة التنفس ويواجهون مشاكل رئوية مميتة بسبب رد فعل الجسم المناعي تجاه الفيروس، وليس بسبب الفيروس بحد ذاته. في هذه المرحلة، لا يمكن للدواء أن يفيد.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تؤدي الإصابة بمرض كوفيد-19 إلى مرض مناعي ذاتي مدى الحياة؟
وهذا يثير تساؤلات حول ما إذا كان دواء باكسلوفيد سيحدّ بالفعل من أثر الوباء. حتى عندما لا تكون إصابة المرضى بتلك الدرجة الخطيرة، فغالباً ما يكون هناك فاصل زمني لحين تأكيد إصابتهم. لهذا السبب، طرحت شركة فايزر فكرة تقديم الدواء للناس أثناء انتظار نتائج الاختبار.
يقول ميونغ تشا، رئيس الرعاية المنزلية في شركة كربون هيلث (Carbon Health)، التي تدير عيادات طبية عامة في الولايات المتحدة: "ما يميز اللعبة هو السرعة. حتى لو توفرت لدينا الآن الأدوية التي تؤخذ عن طريق الفم، فإن مشكلة الاختبار ستمنع الكثير من الناس من الحصول على العلاج".
اقرأ أيضاً: أخطر المعلومات الخاطئة حول نشأة وأعراض وعلاج كوفيد-19
بين مطرقة الاختبارات وسندان الإصابة
تجري شركة فايزر أيضاً دراسة لمعرفة ما إذا كان الدواء مفيداً للأشخاص الذين تعرضوا لمرض كوفيد-19 فقط، كنوع من العلاج الوقائي.
"إنها فترة قصيرة: يومان لإجراء الاختبار ويومان آخران للحصول على الدواء".
في الوقت الحالي، لا توجد كميات كافية من دواء باكسلوفيد لتوزيعها، ولذلك يتم ترشيد استخدامه، وذلك بطريقة فوضوية حتى الآن. رخّصت إدارة الغذاء والدواء الأميركية تناول الدواء من قبل أي شخص مصاب بمرض كوفيد-19 بشكل مؤكد ويعاني من عامل خطر واحد للإصابة بالحالة الخطيرة من المرض. ولكن تحديد عوامل الخطر المؤهلة والمرضى الذين يجب أن يحصلوا على الدواء لا يزال موضع نقاش.
أعلن بوب واكتر، رئيس قسم الطب بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، على تويتر أن المستشفى الذي يعمل فيه سيحتفظ بالدواء من أجل الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات جهاز المناعة، مثل مرضى زرع الكلى أو السرطان. واقترحت ولاية نيويورك أنها قد تعطي الأولوية للسكان من أصل لاتيني وإفريقي، بحجة أنهم معرضون لخطر أكبر بسبب عدم المساواة الصحية.
إن أهم عامل خطورة للإصابة بالحالة الخطيرة من مرض كوفيد-19 هو عدم الحصول على اللقاح، وكانت شركة فايزر قد درست الأشخاص الذين لم يتلقوا اللقاح في تجربتها البشرية. إذا كان تجنب اللقاحات يزيد من أولوية حصول الناس على الدواء، فيمكنهم اعتبار ذلك سبباً لعدم تلقي اللقاح. ومع ذلك، يشك ديفيد بولوير، وهو طبيب يدرس علاجات كوفيد-19 في جامعة مينيسوتا، في أن الأشخاص الذين يرفضون اللقاح قد لا يسعون وراء العلاج في الوقت المناسب للحصول على دواء باكسلوفيد. ويقول إن المرضى في وحدة العناية المركزة في المستشفى الذي يعمل فيه هم في الأساس أشخاص تلقوا اللقاح ولكنهم يعانون من خلل في الجهاز المناعي أو أشخاص لم يتلقوا اللقاح وأصبحوا يعانون من صعوبة في التنفس ومن ضائقة تنفسية شديدة. وقد جرّب البعض بالفعل بعض العلاجات المنزلية "العشوائية" أو العلاجات غير المتفق عليها مثل دواء إيفرمكتين المضاد للطفيليات.
"إنها فترة قصيرة: يومان لإجراء الاختبار ويومان آخران للحصول على الدواء، إذا كنت جالساً في المنزل وتعتقد أن مرض كوفيد هو عبارة عن خدعة، فهل ستخضع للاختبار بسرعة كافية؟ لأنه عند دخولك المستشفى فإن مرضك يعود حينها إلى استجابة الجسم الالتهابية، ولن يكون للأدوية المضادة للفيروسات دور كبير في ذلك الوقت".
اقرأ أيضاً: سباق محتدم لإيجاد علاج فيروس كورونا من الأدوية القديمة
اللقاحات: الوقاية خير من العلاج
وقالت منظمة الصحة العالمية في بيان لها إنها تعتقد أن "الوقاية خير من العلاج" وأن "هذه الأدوية لن تكون بدائل عن اللقاحات". ولم تقدّم المنظمة، التي تتخذ من جنيف مقراً لها، حتى الآن توصية رسمية لصالح دواء باكسلوفيد وتقول إنها تريد تتبع احتمال ظهور آثار جانبية.
ويقول روبرت شيفر، أستاذ الطب بجامعة ستانفورد: "سيكون من الصعب جداً استخدام دواء باكسلوفيد على نطاق واسع، لأنه سيتعين على الناس الخضوع للاختبار والعلاج في وقت مبكر جداً. لن يكون له نفس التأثير الذي ستحدثه اللقاحات، وسيكون بمثابة حل مكلف للغاية بالمقارنة معه".
اقرأ أيضاً: الوباء القادم آتٍ فعلاً ويمكننا أن نتعلم كيفية مواجهته من وباء كوفيد
استراتيجية مختلفة
قد يكون الأمر كذلك. لكن هذا الدواء لا يزال إضافة مهمة لأدوات مكافحة كوفيد.
في وقت مبكر من الوباء، استثمرت المنظمات الدولية المليارات في برامج اللقاحات. كما أنها أعطت الأولوية "لتغيير استخدام" الأدوية الموجودة، وذلك بشكل أساسي من خلال البحث في الأدوية المتوافرة في الصيدليات عن أي شيء قد يكون مفيداً. لكن تطوير دواء كيميائي مخصص جديد لم يحظ بنفس النوع من الدعم العام. وكانت أنيت فون ديلفت، الباحثة في جامعة أكسفورد، قد كتبت في مجلة نيتشر العام الماضي: "يبدو أن العالم قد تخلى عن الأدوية الجديدة المضادة للفيروسات حتى قبل أن تبدأ".
تنتسب فون ديلفت إلى منظمة تسمى كوفيد مون شوت Covid Moonshot، والتي تقول إنها عانت لإيجاد تمويل لأدوية جديدة مضادة للفيروسات. ويأتي ذلك على الرغم من بعض النجاحات الكبيرة مع الأدوية المضادة للفيروسات الأخرى، مثل الأدوية التي تثبط فيروس الإيدز، وتلك التي قضت مؤخراً على التهاب الكبد ج. وتقول المجموعة إن أحد الأسباب هو أن السلطات الصحية تعتقد أن تصميم مادة كيميائية جديدة من الصفر سيستغرق وقتاً طويلاً.
صحيح أن مثل هذا الجهد ينطوي على محاولات لا مفر منها من التجربة والخطأ. يقول مايكل لين، الباحث في جامعة ستانفورد: "لا يمكنك إدخال إنزيم في جهاز كمبيوتر وأن تطلب منه تطوير دواء لهذا المرض. قد يعطيك 100 فكرة، ولكن سيتعين عليك تجميعها بعد ذلك". قد يستغرق تجميع المكونات اللازمة لتركيب دواء واحد عدة أسابيع، وبعد ذلك لا يزال يتعين معرفة خصائصه الرئيسية، مثل ما إذا كان سيتم امتصاصه في الأمعاء أو تفكيكه في الكبد. كل ذلك يتم من خلال اختبارات واقعية على الحيوانات.
علاوة على ذلك، ابتعدت بعض شركات الأدوية الكبيرة عن أبحاث الأدوية المضادة للفيروسات في السنوات الأخيرة. على الرغم من النجاحات مع فيروس الإيدز والتهاب الكبد ج، فإن مجموعة الفيروسات التي تصيب البلدان الغنية، أي الفيروسات التي لا يوجد لها لقاح والتي يمكن لشركات الأدوية أن تجني الأرباح منها، لم تكن كثيرة. رأى أكاديميون مثل آيكانز وايت، المتخصص في أدوية الإنفلونزا، أن آفاق مجالات عملهم تتضاءل. يقول وايت: "لم يعتقد الناس أن هناك المزيد من الفيروسات التي سيكون علاجها مربحاً. كانت هناك فترة صعُب فيها البقاء في هذا المجال التجاري".
لكن اتضح أن الكيميائيين كانوا يعرفون بعض الأمور التي ثبت أنها لا تقدر بثمن لمواجهة فيروس كوفيد.
يسبب فيروس كورونا المرض عن طريق إدخال مواد جينية وجعلها تنسخ البروتينات اللازمة لتصنيع عدد أكبر من الفيروسات. وكما اتضح، يتم إنتاج عدد من هذه البروتينات الفيروسية كقطعة واحدة طويلة، مثل سلسلة من النقانق المتصلة. كانت وظيفة البروتياز التي كان الكيميائيون يستهدفونها هي قطع هذا "البروتين المتعدد" الكبير إلى أجزاء عاملة، وهو ما يقوم به باستخدام فتحة جزيئية خاصة.
أدرك الباحثون أنه إذا كان بإمكانهم ملء تلك الفتحة بمادة كيميائية ترتبط بها بشدة، أي بقوة كبيرة بحيث لا يمكن فصلها، فلن يؤدي البروتياز وظيفته ولن يتكاثر الفيروس. يقول لين: "لإنشاء مثبط للبروتياز، فإن الأمر أشبه بصب مفتاح ليلائم القفل. لا بدّ من وجود دواء يناسب هذه الفتحة تماماً ويجعلها غير متاحة".
بحلول منتصف عام 2020، كان الكيميائيون، بمن فيهم لين، يطرحون مقترحات لأشكال كيميائية قد تكون فعالة. لكن صنع المواد الكيميائية واختبارها بسرعة هو المجال الذي يأتي فيه دور تمويل البحث والتطوير غير المحدود في الشركات الكبرى. تمكنت شركة فايزر من تجميع 800 جزيء بشكل إجمالي، وفقاً للشركة.
بعد تحديد أكثر الجزيئات الواعدة، تحركت الشركة بسرعة في سبتمبر / أيلول 2020. في هذه المرحلة، تستثمر الشركة عادةً في كميات إنتاج صغيرة من أجل الاختبار. لكن أوين كان يريد توافر ما يكفي من الدواء لبدء دراسة بشرية على الفور إذا نجح على الحيوانات. وراهن على تسريع الإنتاج.
بحلول ديسمبر / كانون الأول 2020، وصلت بعض الإمدادات الأولية للمركب الجديد إلى وايت في نيويورك. وكانت كل الأنظار تتجه نحو لقاحي شركتي موديرنا وفايزر، واللذان تمت الموافقة عليهما في ذلك الشهر. ولكن وايت كان يقوم في مختبره بإتاحة وقته حتى يتمكن من إعطاء أدوية شركة فايزر المضادة للفيروسات للفئران المصابة بفيروس كورونا. ويقول: "كنت مشغولاً للغاية عندما أرسلت شركة فايزر بريداً إلكترونياً، لكننا أجرينا اجتماعاً عبر تطبيق زوم وقمت بوضع هذا الأمر على رأس الأولويات".
لم يكن أول مركب قام بتجربته من شركة فايزر ناجحاً. أما المركب الثاني، دواء باكسلوفيد، فقد كان ناجحاً بوضوح، حيث قلل من كمية الفيروس في أجسام الفئران بمعدل ألف ضعف أو أكثر. وفي غضون عام، حصل الدواء على ترخيص من إدارة الغذاء والدواء الأميركية.
اقرأ أيضاً: علم الشبكات الطبي والتعلم الآلي يساعدان في تحديد أدوية موجودة محتملة لكوفيد-19
فعالية من حيث التكلفة
عند شرائها ما يكفي لعلاج 10 ملايين مريض من دواء باكسلوفيد مقابل 5.3 مليار دولار، تكون الولايات المتحدة قد وضعت سعراً يبلغ نحو 530 دولاراً لكل كمية كافية لعلاج مريض من الدواء، وهي ستة أقراص يومياً لمدة خمسة أيام. كما طلبت إيطاليا وألمانيا وبلجيكا كميات من الدواء أيضاً. ووفقاً لألبرت بورلا، الرئيس التنفيذي لشركة فايزر، فإن سعر اللقاح (نحو 30 دولاراً لكل جرعة) قد ساعد في تحديد تكلفة الدواء الجديد.
بالنسبة إلى شركة فايزر، يمكن أن يصبح دواء كوفيد-19 سهل التناول مصدر إقبال آخر لها. يقول بولوير: "إنه ترخيص لكسب المال. يمكنهم بيع كل ما يمكنهم صنعه إلى الحكومات. سيفوق الطلب العرض، وسيكون هذا هو الحال في المستقبل المنظور".
ولكن حتى بتكلفة 500 دولار للشخص الواحد تقريباً، يمكن أن يكون دواء باكسلوفيد صفقة جيدة. إذا ظلت نتائج تجارب فايزر ناجحة، فإن الأطباء الذين يقدمون الدواء للمرضى ذوي الخطورة المرتفعة يمكن أن ينقذوا شخصاً واحداً تقريباً من بين كل 100 شخص يعالجونهم. وذلك بتكلفة 50 ألف دولار مقابل إنقاذ حياة أحد الأشخاص. يقول الاقتصاديون الطبيون إن الأدوية يمكن أن تكون "سلبية التكلفة"، أي أنها ستوفر المال إذا جنّبت عدداً كافياً من الناس دخول المستشفى، لأن علاج كل مريض في المستشفى يكلف آلاف الدولارات.
تحدث المقاومة من هذا النوع لأن الفيروس يقوم باستمرار بتغيير "البروتين الناتئ"، وهو الجزيء الذي يستخدمه للدخول إلى الخلايا، والذي تستهدفه اللقاحات والأجسام المضادة. قد تكون القدرة على تغيير شكل الجين الناتئ، وهو الجزء الأكثر انكشافاً لدى الفيروس، بمثابة استراتيجية بقاء تطورية تسمح لفيروسات كورونا بالتكيّف مع الأنواع الجديدة وتفادي ردود الفعل المناعية. لكن الباحثين لا يعتقدون أن الفيروس يمكنه أن يطور بسهولة طرقاً لتفادي دواء باكسلوفيد. وذلك لأن البروتياز مضبوط بدقة شديدة لأداء وظيفته، لدرجة أنه حتى الفيروسات ذات الصلة البعيدة لديها بروتياز مشابه إلى درجة كبيرة.
اقرأ أيضاً: ما هي الأدوية الأكثر فعالية في علاج كوفيد-19؟
في سباق مع المتحورات
فهل يمكن أن يظهر نمط مقاوم لدواء باكسلوفيد من فيروس كورونا؟ يمكن ذلك، فمن المعقول أن يتطور البروتياز بدرجة كافية لتفادي الدواء. لكن مثل هذا المتحور قد يكون أقل فعالية في التكاثر وربما لن ينتشر كثيراً. يقول شيفر، الذي يحتفظ بقاعدة بيانات لأنماط فيروس الإيدز المقاومة للأدوية في جامعة ستانفورد: "لا أعتقد أن المقاومة هي مصدر قلق كبير. إن التغييرات التي تطرأ على البروتياز ضارة بالفيروس". كما يقول إن العلاج الذي يستمر خمسة أيام فقط لا يعطي الفيروس الكثير من الوقت لتطوير المقاومة.
إن الطبيعة الأقل قابلية للتغير لجين البروتياز، حتى بين الفيروسات القريبة، هي السبب أيضاً في أن دواء شركة فايزر قد يكون مفيداً ضد الفيروسات التي لم نواجهها بعد. تظهر التجارب المختبرية التي أجرتها الشركة أنه بالإضافة إلى تثبيط نمو فيروس كورونا في الخلايا، فإنه يثبط أيضاً ستة من فيروسات كورونا الأخرى. وتشمل هذه الفيروسات فيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفسية MERS، وهو فيروس خطير ينتشر عن طريق الإبل ويؤدي إلى وفاة ثلث الأشخاص الذين يصابون به، وفيروس السارس الأصلي الذي انتشر عام 2003، وعدد من فيروسات كورونا التي تسبب الزكام فقط.
وعلى الرغم من أن دواء باكسلوفيد هو أكثر مضادات الفيروسات الواعدة المتوفرة حالياً لفيروس كورونا، إلا أن هناك أكثر من عشرة مضادات فيروسية جديدة قيد التطوير، ويمكن أن يكون الجيل القادم أفضل حتى. وهذا ما حدث مع فيروس الإيدز. يوجد الآن الكثير من الأدوية الفعالة لفيروس الإيدز في السوق لدرجة أن مثبطات البروتياز الأصلية قد تم إعادة تصنيفها على أنها الخط الثاني من العلاج.
اقرأ أيضاً: الفئات الأكثر ضعفاً في البرازيل تكافح من أجل تجاوز الضغوط الناجمة عن كوفيد
ويمكن أن تكون هناك أدوية جديدة لأمراض فيروسية أخرى قيد التطوير أيضاً. في يونيو / حزيران 2021، أعادت الولايات المتحدة أخيراً تركيزها إلى الأدوية المضادة للفيروسات بدرجة كبيرة، معلنةً أنها ستنفق 3 مليارات دولار في بحث كبير عن أدوية الجيل القادم. سيتم دفع نصف هذا المبلغ تقريباً لإنشاء ثمانية إلى عشرة مراكز جديدة لأبحاث مضادات الفيروسات، والتي سيعمل كل منها على فيروس كورونا وفيروسات أخرى من اختيارها، مثل الإيبولا أو الزكام.
يقول ماثيو فريمان، الأخصائي في فيروس كورونا في كلية الطب بجامعة ميريلاند وأحد المتقدمين للحصول على التمويل: "الهدف المعلن هو الحصول على شيء جاهز في المرة القادمة التي يظهر فيها أحد هذه التهديدات الرئيسية للصحة العامة. وفي الواقع، لا بدّ من توافر العديد من الأشياء". ووفقاً لفريمان، تتمثل الفكرة في أن يصبح علاج فيروسات كورونا ممكناً يوماً ما من خلال مجموعة من الأدوية المضادة للفيروسات، على غرار "مزيج الأدوية" المستخدم للسيطرة على فيروس الإيدز. ويضيف: "إنها نفس الفكرة: كلما زاد عدد الأدوية المشتركة، كان ذلك أفضل. كما أن ذلك يقي من الفيروسات المتحورة، لأن تفادي دواءين أصعب من تفادي دواء واحد. أعتقد أننا بحاجة إلى مجموعة من الأدوية المضادة للفيروسات التي تستهدف هذا الفيروس".
قد يكون من الممكن أيضاً العثور على أدوية فعالة ضد أي فيروس تقريباً، حتى تلك المختلفة مثل الإيبولا والإنفلونزا. يقول فريمان إنه وجد بعض المركبات التي قد تقوم بذلك من خلال التأثير على جسم الإنسان، وليس على أجزاء من الفيروس. ويقول: "نأمل أن يكون هناك نطاق جديد تماماً من الطرق المخصصة لاستهداف الفيروسات. يتعين علينا العثور عليها. في الماضي، لم يكن لدينا تمويل لأنه لم يكن هناك من يهتم. وأعتقد أننا بدأنا باستكشاف الحلول لهذه المشكلة".