يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا على تحسين فهمنا لأسباب العنف الديني، وربما التحكم فيه، وذلك وفقاً لدراسة جديدة من جامعة أوكسفورد، وهي تُعتبر الدراسة الأولى من نوعها؛ حيث إنها تستخدم الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على علم النفس بشكل واقعي، بدلاً من التعلم الآلي.
ونُشرت الدراسة في مجلة The Journal for Artificial Societies and Social Simulation، وهي تجمع ما بين النمذجة الحاسوبية وعلم النفس الإدراكي لتصميم ذكاء اصطناعي قادر على محاكاة النزعة الدينية البشرية، مما يسمح للباحثين بأن يفهموا بشكل أفضل شروط العنف الديني، وأسبابه المباشرة، وأنماطه.
وبحسب موقع "ساينس ديلي sciencedaily" فإن الدراسة تتمحور حول مسألة أساسية، وهي محاولة معرفة ما إذا كان البشر عنيفين بالطبيعة، أم أنه توجد عوامل -مثل العوامل الدينية- قادرة على إثارة التفرقة والكراهية والتوتر ما بين مجموعات مختلفة، بحيث قد تؤدي إلى العنف.
وتبيِّن النتائج أن البشر كائنات مسالمة بطبيعتها، ولكنهم مستعدون -ضمن طيف واسع من السياقات المختلفة- أن يعتنقوا العنف، خصوصاً عندما يعارض الآخرون المعتقدات الأساسية التي تحدد هويتهم.
وعلى الرغم من أن البحث يركز على أحداث تاريخية محددة، فإن النتائج قابلة للتطبيق على أية حادثة تتعلق بالعنف الديني، ويمكن استخدامها لفهم دوافع حدوثها، وعلى وجه الخصوص الأحداث المتعلقة بالإسلام الراديكالي، عندما تتضارب الهوية الوطنية للأشخاص مع هويتهم الدينية، مثل تفجير بوسطن وهجمات لندن الإرهابية. ويأمل الفريق بأن النتائج ستساعد الحكومات على معالجة وإخماد النزاع الاجتماعي والإرهاب.
وقد أُجريَ البحث من قبل مجموعة من الباحثين من عدة جامعات، بما فيها جامعة أوكسفورد، وجامعة بوسطن، وجامعة أجدير في النرويج. ولا يقوم البحث على محاكاة مباشرة للعنف، بل يركز على الظروف التي أدت إلى ظهور فترتين محددتين من الاضطرابات الاجتماعية الناتجة عن كراهية الآخر، والتي تصاعدت فيها الأحداث لتصل إلى العنف الجسدي الشديد.
ويعتبر النزاع الذي يشار إليه عادة باسم "مشاكل إيرلندا الشمالية" أحد أعنف الفترات في التاريخ الإيرلندي؛ فقد امتد لثلاثة عقود من الزمن، أدى فيها إلى مقتل 3,500 شخص وإصابة 47,000 تقريباً، وقد شمل هذا النزاع الجيش البريطاني والعديد من المجموعات المقاتلة من الموالين لبريطانيا، والجمهوريين المعادين لها.
أما النزاع الآخر فهو أحداث الشغب في غوجارات في الهند في 2002، وعلى الرغم من أنه لم يدم سوى لثلاثة أيام، فقد كان على نفس المستوى من التدمير والعنف. حيث اشتعل النزاع بين التجمعات السكانية من الهندوس والمسلمين في ولاية غوجارات في غرب الهند عندما توقف قطار سابارماتي السريع، والمليء بالحجاج الهندوس، في بلدة جودهرا ذات الأغلبية المسلمة، وانتهى بمقتل أكثر من ألفي شخص.
أما فيما يتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على علم النفس بشكل واقعي، يقول جستن لاين (أحد الباحثين): "تعرِّف الأغلبية المطلقة من العامة الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم التعلم الآلي لأتمتة الأعمال البشرية، مثل تصنيف التغريدات حسب سلبيتها وإيجابيتها، ولكن دراستنا تستخدم ما يسمى الذكاء الاصطناعي متعدد الشخصيات لتشكيل نموذج واقعي للإنسان، مثل طريقة تفكيره، وبالتحديد كيف يتماهى مع المجموعات، ولماذا يعرّف شخص ما نفسه على أنه مسيحي أو يهودي أو مسلم... إلخ، وبتعبير آخر: كيف تتوافق معتقداتنا الشخصية مع الهوية التي تسبغها مجموعة ما على نفسها؟".
وللحصول على هذه الشخصيات الدقيقة نفسياً للذكاء الاصطناعي، استخدم الفريق نظريات من علم النفس الإدراكي لمحاكاة الطريقة الطبيعية للتفكير ومعالجة المعلومات لدى الإنسان. وليست هذه الطريقة جديدة أو ثورية، ولكنها المرة الأولى التي تُطبق فيها بشكل عملي ضمن بحث. وهناك الكثير من الأدبيات العلمية النظرية التي تقارن العقل البشري مع البرامج الحاسوبية، ولكنها كانت مجرد مقارنة تشبيهية وحسب، ولم يقم أحد ببرمجة هذه المعلومات بشكل فعلي ضمن حاسوب من قبل. حيث قام الفريق ببرمجة هذه القواعد للتفاعل الإدراكي ضمن برنامج الذكاء الاصطناعي؛ وذلك لإظهار مدى توافق المعتقدات الفردية مع الأوضاع الجماعية.
وقد حقق الباحثون هذا بدراسة كيفية معالجة البشر للمعلومات مع أخذ تجاربهم الشخصية بعين الاعتبار، وذلك بالجمع ما بين بعض نماذج الذكاء الاصطناعي (التي تحاكي البشر) ممن كانت لهم تجارب إيجابية مع أشخاص ينتمون لاتجاهات دينية مختلفة، ونماذج أخرى ممن "تعرضوا" لتجارب سلبية أو حيادية، بهدف دراسة تصاعد العنف وانحساره مع مرور الزمن، وكيف يمكن التعامل معه، أو ما الذي يجعل التعامل معه مستحيلاً.
وقام الباحثون بتمثيل الحياة اليومية للمجتمع العادي، وكيفية تفاعل الناس من أديان ومذاهب مختلفة مع بعضهم البعض في العالم الحقيقي، وذلك عن طريق بناء بيئة افتراضية وملئها بالمئات أو الآلاف (وحتى الملايين) من نماذج الشخصيات البشرية. ويتمايز هؤلاء "الأشخاص" عن بعضهم بعدة متحولات بسيطة، مثل العمر والعرق... إلخ.
وتتمتع البيئات الافتراضية نفسها بتصميم بسيط؛ حيث تُخصص مساحة محددة لكل شخص، ولكن ضمن هذه المساحة يوجد احتمال معين بالتفاعل مع بعض الأخطار المحيطة، مثل الكوارث الطبيعية والأوبئة، إضافة إلى التفاعل مع أشخاص آخرين بطبيعة الحال.
وكشفت النتائج أن أكثر الظروف المحيطة بالفترات الطويلة من التوترات الناشئة عن الكراهية المتبادلة بين المجموعات المختلفة في المجتمع تحدث عندما تتفاقم الأخطار الاجتماعية -مثل الأفراد الخارجين عن المجموعة ممن يرفضون القيم الأساسية أو المعتقدات المقدسة لها- إلى درجة يصبح التعامل معها مستحيلاً. عندما يتعرض نظام المعتقدات الأساسية للناس إلى التجريح، أو يشعرون بأن التزامهم بمعتقداتهم أصبح موضع تشكيك، يزداد التوتر والهيجان. غير أن هذا التوتر لم يؤدِّ إلى العنف إلا في 20% من سيناريوهات المحاكاة، وقد نتج في جميع الحالات عن أشخاص من خارج المجموعة أو داخلها يقومون بمعارضة المعتقدات والهوية الأساسية للمجموعة وتجريحها.
وتميل بعض الديانات إلى تشجيع الأساليب المتطرفة لاستعراض الإخلاص لبعض المعتقدات، ويمكن أن يأخذ هذا التطرف شكلاً من العنف ضد مجموعة أو فرد من مذهب او دين آخر، أو ضد شخص انفصل عن المجموعة.
وقد حاولت بعض الأبحاث الأخرى استخدام الذكاء الاصطناعي التقليدي والتعلم الآلي لدراسة العنف الديني، ولكنها أعطت نتائج متباينة، كما أن بعض مسائل التحيز ضد الأقليات في التعلم الآلي تثير تساؤلات أخلاقية أيضاً. ويمثل هذا البحث المرة الأولى التي يستخدم فيها ذكاء اصطناعي متعدد الشخصيات لمعالجة هذا السؤال، وتصميم نماذج حاسوبية تتصف بالواقعية من الناحية النفسية.
يقول لاين: "في المحصلة، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي لدراسة الدين أو الثقافة يتطلب دراسة النفس البشرية ونمذجتها، لأن بنيتنا النفسية هي الأساس للدين والثقافة، ولهذا فإن جذور الكثير من المسائل -مثل العنف الديني- تكمن في طريقة معالجة عقولنا للمعلومات التي يقدمها لنا العالم".
وإن فهم السبب الجذري للعنف الديني يسمح باستخدام النموذج لاحتواء هذا العنف والتقليل من هذه النزاعات، أو حتى زيادتها. ولكن يمكن لهذا البحث أن يكون أداة إيجابية تدعم المجتمعات المستقرة والتكامل الاجتماعي، في حال تم استخدامه بفعالية.
وبعد إطلاق هذا المشروع بفترة قصيرة، تمكن الفريق من تأمين تمويل لمشروع جديد لفترة سنتين في مركز نمذجة الأنظمة الاجتماعية في كريستيانساند في النرويج، الذي يُعنى بدراسة النقلات الديمغرافية المتعلقة بالهجرة والاندماج في أوروبا -مثل اندماج الغجر في سلوفاكيا، وإعادة توطين اللاجئين السوريين في ليسبوس في النرويج- وذلك لمساعدة الحكومة النرويجية لتحسين عملية التكامل.