من المفارقات القاسية أن الأشياء التي تجعل المطعم جذاباً هي بالضبط ما تجعله خطيراً في الوقت الحالي: الحميمية والراحة وانخراط مجموعات من الناس في محادثات عميقة، وقضاء ساعات طويلة في تناول المشروبات والوجبات. بات تناول الطعام في المطعم أحد أخطر الأشياء التي قد تقوم بها أثناء جائحة فيروس كورونا.
ولفهم السبب، عليك التفكير في أحدث ما توصل إليه العلم حول كيفية انتقال كوفيد-19 من شخص لآخر. تمثل الموقف الرسمي الذي اتبعته منظمة الصحة العالمية منذ اندلاع الجائحة في أن فيروس كورونا ينتشر في الغالب عن طريق القطيرات التي تتطاير أثناء التحدث أو العطس أو السعال. بيد أن الأدلة تتزايد منذ أشهر على أن جسيمات الهباء الجوي -التي تكون أصغر من القطيرات ويمكنها أن تعلق في الهواء مثل الدخان- تُعد إحدى الوسائل الهامة للإصابة بالعدوى، هذا إن لم تكن الوسيلة الرئيسية، وهو ما قد يفسر السبب في أن كل الحالات المُسجلة تقريباً لتفشي فيروس كورونا حدثت في الأماكن المغلقة.
ومن المؤسف أن التوصية التي تقدمها منظمة الصحة العالمية للجمهور لم تواكب هذه الأدلة الجديدة حتى الآن. ولم تبدأ المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها في الإقرار بإمكانية انتقال العدوى عبر الهواء إلا مؤخراً، بينما لا تذكر العديد من الدول هذا الأمر في إرشاداتها الرسمية. ونتيجة لذلك، لا تزال العديد من المطاعم تتبع النصائح التي لا تعكس أحدث ما توصل إليه العلم، ومنها الهوس بالتنظيف وارتداء أقنعة واقية (التي لا تحميك من جسيمات الهباء الجوي) ووضع فواصل بلاستيكية بين الطاولات. وعلى الرغم من أن بعض هذه التدابير قد ينطوي على منفعة هامشية، إلا أن معظمها لا يزيد عن كونه “مسرحية تدور حول الجائحة”، أي أنها إجراءات تعطي شكل الأمان، لكنها توفر القليل من الحماية الحقيقية.
ما الذي يجب أن تبحث عنه في المطعم في الوقت الحالي؟
- الحجم مهم
المطعم الأكبر مساحة يُمكّنك من تحقيق التباعد على نحو أكثر سهولة. - الهواء النقي
إذا توافرت إمكانية للجلوس في الخارج، فيجب أن تفعل ذلك.
إذا تعذر ذلك، فاجلس بالقرب من باب أو نافذة مفتوحة قدر الإمكان. - تجنب الازدحام والضجيج
إذا بدا المطعم صغيراً أو مزدحماً أو صاخباً أو كان الضباب يتكون على نوافذه، فمن الضروري أن تتجنبه.
تأكد من بقائك أنت أو من تجلس معهم بعيداً عن رواد المطعم الآخرين قدر الإمكان. - الأقنعة
تجنب المطاعم التي لا يرتدي النُدُل العاملون فيها أقنعة. - اختر مقعدك بعناية
إذا كنت تلتقي أشخاصاً من خارج أسرتك، فاجلس بشكل مائل بالنسبة لهم.
ما الذي يجعل المطاعم على وجه التحديد خطيرة إلى هذا الحد؟ أولاً، لأنها عادة ما تكون أماكن صاخبة، حيث يتحدث الناس فيها بصوت عالٍ، ويخرجون كمية أكبر من المعتاد من الهواء، وبالتالي تتزايد احتمالية خروج جسيمات هباء جوي محملة بالفيروسات. ولا يزال يتعين على الباحثين أن يحددوا بدقة كمية الفيروسات التي يجب أن تستنشقها -أو المدة التي يجب أن تحتك فيها بشخص تتطاير منه جسيمات فيروسية- حتى تصاب بالعدوى.
وطبقاً لتقديرات المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، من الممكن أن تُصاب بالعدوى بعد 15 دقيقة فقط من التقارب الشديد مع هذا الشخص، ومع ذلك فإن جميع حالات الإصابة بالعدوى التي تم الإبلاغ عنها في المطاعم “تتضمن وجود شخص مصاب وآخر لديه القابلية للإصابة يتشاركان الهواء نفسه لمدة طويلة، غالباً تتراوح بين 30 دقيقة وبضع ساعات”، على حد تعبير خوسيه لويس خيمينيز، أستاذ الكيمياء في جامعة كولورادو بولدر، الذي درس الهباء الجوي لمدة عقدين من الزمن. ومن الممكن أيضاً -من الناحية النظرية- أن تحدث الإصابة بعدوى كوفيد-19 عن طريق الهباء الجوي الذي خلّفه شخص مصاب غادر القاعة بالفعل. لكن خيمينيز يشير إلى عدم وجود أي حالات مؤكدة من هذا النوع، مضيفاً أن الفيروس يفقد قدرته على إحداث العدوى بمرور الوقت، موضحاً أن هذا الأمر “عادة ما يحدث في غضون ساعة إلى ساعتين”.
وهناك أيضاً مشكلة ندرة ارتداء الأقنعة داخل المطاعم؛ إذ إن رواد المطاعم عادة ما يخلعونها لأنهم لا يستطيعون تناول الطعام أو الشراب أثناء ارتدائها. وربما تكون قد سمعت أن التهوية مهمة للغاية أيضاً -وهو جانب أخر تُحقق فيه المطاعم عادةً أداء سيئاً- حيث يتيح عدم كفاية التهوية للجسيمات الفيروسية الصغيرة البقاءَ معلقة في الهواء لفترات طويلة من الزمن، في انتظار أن يتم استنشاقها.
وبالطبع، لكي ينجح أي مطعم لابد أن يكون مشهوراً بما يكفي لجذب الناس من جميع أنحاء الحي أو المدينة أو حتى أبعد من ذلك ليأتوا ويتناولوا الطعام تحت سقف واحد. ومن الصعب تصور وجود بيئة أكثر جاذبية من هذه لنشر مرض ينتقل عبر الهواء، مثل سارس-كوف-2 (ربما باستثناء السفن السياحية). فلا عجب إذن أن المطاعم أثبتت أنها أرض خصبة مثالية لإحداث “الانتشار الفائق”، التي ينقل خلالها أحد الأشخاص الفيروس إلى عشرات الأشخاص الآخرين. وقد حدثت كل حالات الانتشار الفائق الموثقة تقريباً في قاعة صاخبة سيئة التهوية، وكان الكثير منها مطاعم.
وفي بداية شهر أكتوبر، وجدت هيئة الصحة العامة في إنجلترا أن “تناول الطعام في الخارج كان النشاط الأكثر شيوعاً الذي تم الإبلاغ عنه في الفترة ما بين يومين وحتى سبعة أيام قبل ظهور الأعراض” على الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بفيروس كورونا خلال الشهرين الماضيين. كما أن الحكومة الإسكتلندية عادةً ما تجد أن ربع الأشخاص الذين تكون نتيجة اختبارات فيروس كوفيد-19 الخاصة بهم إيجابية ذهبوا إلى مطعم أو حانة أو مقهى خلال الأسبوع السابق للإصابة. وفي شهر سبتمبر، وجدت دراسة أجرتها المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها على 802 من البالغين في الولايات المتحدة، أن الأشخاص الذين جاءت نتائج إصابتهم بفيروس كوفيد-19 إيجابية أكدوا تناولهم الطعام في المطاعم أكثر بمرتين تقريباً من أولئك الذين جاءت نتائج اختباراتهم سلبية.
ويقول ناثان شابيرو، أستاذ طب الطوارئ في مركز بيث إسرائيل ديكونيس الطبي، وأحد مؤلفي الدراسة التي أجرتها مراكز السيطرة على الأمراض، إن “ثمة ارتباط بينهما بلا شك”.
مع تزايد الحجج المعارضة لتناول الطعام خارج المنزل، لا عجب في أن تكون الجائحة قد خربت أعمال المطاعم. وفيما ازدهرت بعض المطاعم ذات الأسماء الكبيرة التي تقدم لزبائنها خيارات الطلب أثناء القيادة وتناول الطعام في الخارج، اضُطرت عشرات الآلاف من المطاعم التي تقدم الطعام في الداخل إلى إغلاق أبوابها، وقُطعت على الأرجح مصادر رزق ملايين الأشخاص.
كيف نجعل تناول الطعام في الخارج أكثر أماناً؟
على الرغم من التوقعات القاتمة، إلا أن هناك طرقاً لإعادة فتح المطاعم مع تقليل مخاطر الإصابة بالعدوى، ويقول ويليام بانفلث، أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة ولاية بنسلفانيا: “طالما تواجد الأشخاص في أماكن مغلقة، فالخطر قائم”. ومع ذلك، يُمكن تخفيف حدة الكثير من المخاطر. الشيء المهم الذي يجب أن نتذكره هو أنه لا يوجد تدبير واحد يكفي بمفرده؛ فزيادة الأمان تتطلب تضافر أكبر عدد ممكن من الجهود المختلفة.
أولاً وقبل كل شيء، يجب على الناس تناول الطعام في الهواء الطلق كلما كان ذلك ممكناً. ويقول بيورن بيرنير، مدير مركز العلوم المعقدة واللا خطية التابع لجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا: “خطر الإصابة بالعدوى في الداخل أعلى بمعدل 20 ضعفاً من خطر الإصابة في الخارج”. ومع ذلك، فإن بعض المطاعم إما لا تستطيع الحصول على موافقة من السلطات المحلية لوضع المقاعد في الهواء الطلق أو لا تملك المال لشراء الأثاث أو أجهزة التدفئة الخارجية التي من شأنها أن تساعد على جعل رواد المطعم يشعرون بالراحة مع اقتراب فصل الشتاء بسرعة في نصف الكرة الشمالي.
وإذا كان الجلوس في الهواء الطلق أمراً غير ممكن، فيجب على المطاعم أن تركز على أشياء أبسط. يجب على النُدُل ارتداء الأقنعة، كما يجب على الزبائن أيضاً أن يلتزموا بذلك أثناء عدم تواجدهم على طاولتهم. وعلى الرغم من أن الأقنعة لن تمنع دخول جميع جسيمات الهباء الجوي، إلا أنها ستوقف بعضها. كما يجب أن تكون الطاولات بعيدة عن بعضها البعض قدر الإمكان. ومرة أخرى يجب القول إن هذا ليس حلاً مثالياً، ولكن كلما ابتعدت عن الزبائن الآخرين قلّت احتمالية أن تستنشق كميات كبيرة من أنفاسهم. وكمثال توضيحي، ينصح خيمينيز باستخدام نفس التدابير التي كنت ستتخذها أثناء محاولتك لتجنب التدخين السلبي.
وثمة بعض التعديلات التي تتسم بدرجة أعلى من الإبداع. على سبيل المثال، يقول سام هاريسون، الذي يمتلك مقهى في لندن يدعى “سام ريفرسايد”، إن المطاعم يجب أن تخفض صوت الموسيقى لمنع زبائنها من التحدث بصوت عالٍ. وعلى الرغم من أن الأمر قد يبدو غير طبيعي، إلا أنه من الجيد أن يجلس رواد المطعم بشكل مائل بعيداً عن أي شخص من خارج أسرهم. وقد وجدت عمليات محاكاة أجراها الحاسوب الفائق فوجاكو في اليابان أن عدد القطيرات التي ستصل إليك بهذه الطريقة سينخفض بنحو 75% مقارنة بجلوسك في مواجهة شخص ما.
من الصعب الحكم على مدى أمان المطعم بمجرد النظر إليه؛ إذ لا يمكنك أن تحدد من نظرة واحدة عدد مرات تغير الهواء التي تحدث خلال ساعة كاملة. ويقول المهندس المعماري بانفليث إنه يجب السعي نحو الوصول إلى إجراء ست عمليات إحلال كاملة للهواء الداخلي بهواء خالٍ من الفيروسات كل ساعة. ويمكنك القيام بذلك عن طريق فتح نافذة أو باب، أو تنقية الهواء لإزالة الجسيمات، أو تطهير الهواء باستخدام “الأشعة فوق البنفسجية المبيدة للجراثيم”. وعلى الرغم من أنه من الصعب قياس معدل تغير الهواء دون الاستعانة بخبراء استشاريين في مجال جودة الهواء بتكاليف باهظة، إلا أن إحدى الطرق المختصرة تتمثل في استخدام جهاز مراقبة ثاني أكسيد الكربون كبديل (يمكنك شراء هذا الجهاز مقابل حوالي 150 دولاراً). وإذا كانت مستويات ثاني أكسيد الكربون أقل من 800-950 جزء في المليون، فإن التهوية كافية على الأرجح.
الاحتفاظ بالنتيجة
يمكن لأصحاب المطاعم -الذين يرغبون في الحصول على فكرة عن مدى نجاحهم في التعامل مع المخاطر- استخدامَ أحد نماذج تقدير المخاطر المجانية الموجودة على الإنترنت، على مواقع مثل شركة ستي (Setty) الهندسية، أو خبراء جامعة أوريجون، أو جامعة كولورادو بولدر. وتتيح لك هذه النماذج إدخال التفاصيل الخاصة بمنشأتك -كالحجم وارتفاع السقف ومتوسط نسبة الإشغال وغيرها من التفاصيل- ومن ثم تضع درجة تحدد لك تقريباً مدى الأمان الذي تتمتع به هذه المنشأة.
على الرغم من أن درجات المخاطر تستند إلى نمذجة المخاطر النسبية للهباء الجوي -التي تتطلب فهماً جيداً لأساسيات الحساب والعلوم – إلا أنها يمكن أن تمثل أداة مفيدة. ويقول بانفليث: “مع أن هذه هي أفضل الأشياء التي نملكها، إلا أنها لا تزال تستند إلى درجة غير مؤكدة نسبياً من المعرفة المتعلقة بمقدار الفيروسات التي تتطاير من الشخص المصاب، والكمية التي يجب استنشاقها حتى تصاب بالعدوى”. وبالرغم من أنها تستند إلى علم خاضع للمراجعة من قبل الأقران، إلا أنه يجب اعتبارها كأدلة يُسترشد بها وليس كحقائق ثابتة، لأنها تعتمد على العديد من الأمور المجهولة (على سبيل المثال، لا يمكنها معرفة ما إذا كان الأشخاص يرتدون أقنعتهم بشكل صحيح أم لا).
وإذا لم يكن فتح أبواب المطعم خياراً متاحاً، فبإمكان أجهزة تنقية الهواء التخلص من أكثر من 99% من جسيمات الهباء الجوي الموجودة في التيار الهوائي الذي يمر عبرها. وربما تكون بعض المطاعم قد ركبت هذه الأجهزة بالفعل كجزء من نظام التدفئة والتهوية وتكييف الهواء الخاص بها. أما بالنسبة لأولئك الذين لم يفعلوا ذلك، تبلغ تكلفة جهاز تنقية الهواء المستقل حوالي 100 دولار، ويمكن وضعه في منطقة تناول الطعام.
وأخيراً، ثمة فئة من التدابير التي قد تكون مفيدة بشكل هامشي، لكنها توشك أن تكون “مسرحية تدور حول الجائحة”. باتت عمليات فحص درجات الحرارة منتشرة على نطاق واسع وبادية للعيان، وبالرغم من أنها قد تساعد في إبعاد بعض الأشخاص الذين يعانون من الأعراض، إلا أنها لا تفعل شيئاً لمنع الأشخاص الذين لا تظهر عليهم الأعراض من دخول المباني. وفي الوقت نفسه، يُمكن للفواصل الموضوعة بين الطاولات أن تمنع الناس من العطس أو السعال في وجه بعضهم البعض، لكنها لا تجدي نفعاً في وقف انتقال الهباء الجوي.
الحقيقة المرة هي أن استمرار انتشار مستويات عالية من الفيروس في أي مجتمع، سيجعل الناس قلقين على نحو مبرر من تناول الطعام في الخارج. وهذا الأمر لا يمكن لأصحاب المطاعم التحكم فيه، وكل ما يمكنهم فعله هو التكيف -المزيد من الوجبات الجاهزة، ووضع المزيد من المقاعد في الهواء الطلق- ومحاولة الصمود. ولا يعزو هاريسون، مالك مقهى “سام ريفرسايد”، الأملَ في العودة في المستقبل المنظور إلى مستويات الأرباح التي كان يحققها قبل الجائحة. ويقول إن “(الجائحة) لن تقتلنا، لكنها ستقترب بشدة من ذلك”.