لم تعد هناك أي سياسة أو تكنولوجيا مهمة لا تتعلق بالمناخ، فقد وصل تأثير التغير المناخي حتى الآن إلى 85% من سكان العالم. ولم يعد بوسع المخططين وضع خطط لعالم تمثل فيه مخاطر التغير المناخي مسألة ضعيفة الاحتمال. وللتكيف مع هذه المخاطر والتخفيف منها، بدأت الحكومات ومجموعات المخططين بإعادة النظر في بنية الاقتصاد القادر على تحمل التغير المناخي. وقد أثبت كوفيد-19 أن تخفيضات انبعاثات الكربون لم تكن كافية، على الرغم من التباطؤ العالمي، ما يبين حجم الاستثمارات اللازمة لتحويل الأنظمة الاقتصادية الحالية. وبالتالي، فإن ما نحتاجه ليس مجرد تباطؤ، بل تغيير جذري في النموذج الاقتصادي الذي يحدد كيفية عمل البلدان على تحقيق الانتقالات التكنولوجية والرقمية.
الاقتصاد الدائري كنموذج للإنتاج والاستهلاك
واستجابة لهذه المشكلة، فقد أشاد الكثيرون بالاقتصاد الدائري كنموذج للإنتاج والاستهلاك ببنية قادرة على تحريك القيمة من خلال تقليل العناصر المادية المستخدمة في الاقتصاد وإعادة استخدامها وإعادة توليدها. وتعمل النماذج الدائرية الحالية على تضييق حلقات الموارد والإنتاج في الاستخدام والإصلاح وإعادة التصنيع وإعادة الاستخدام، ما يساعد على تأخير الحاجة إلى إعادة التدوير، بل ويلغي الحاجة إليها تماماً في بعض الحالات، والتي تمثل المرحلة الأخيرة في أي نموذج سليم للموارد. وعندما نبحث في التوافق بين النمو والتنمية الاقتصادية، سنجد أن نماذج الاقتصاد الدائري حققت مكانة لا يمكن تجاهلها.
إن القدرة على الانتقال إلى اقتصاد دائري بطريقة خضراء ومنخفضة الكربون لا تعتمد على الاستثمار في الأبحاث والابتكارات الجديدة وحسب، بل تعتمد أيضاً على الاستثمار في القاعدة العريضة من كفاءات المؤسسات التي تقوم بتجريب هذه النماذج والانتقال بها بفعالية. تحتاج الثورة الدائرية إلى ثورة دائرية أخرى على مستوى التعليم، والتدريب، وتعزيز المهارات، وذلك لتفادي الفشل الذي يمكن أن ينجم عن نقص الكفاءات المطلوبة لمجاراة الزيادة المتوقعة في حجم العمل بسبب الانتقال الدائري. ومن دون هذا البرنامج التعليمي، فإن السياسات الجريئة يمكن أن تفشل بسبب العجز في الكفاءات والأبحاث، وهو ما رأيناه من قبل على مستوى العالم في قطاعات التصنيع.
وكما شهدنا في الثورات الصناعية، فإن الفوائد التي سنحصل عليها في نهاية المطاف بسبب الانتقال نحو اقتصاد دائري تفوق بأضعاف مضاعفة الصعوبات المرافقة لهذا الانتقال، وذلك مع نضوج الأنظمة وتطورها. ووفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية في تقرير العمالة والتطلعات الاجتماعية على مستوى العالم في 2018، فإن الانتقال نحو اقتصاد أخضر يمكن أن يؤدي إلى ظهور 24 مليون وظيفة جديدة بحلول العام 2030، وتتضمن هذه المجموعة 6 ملايين وظيفة ناتجة بشكل مباشر عن الانتقال نحو اقتصاد دائري. وإضافة إلى ذلك، فإن التقديرات تشير إلى أن القطاعات الاقتصادية التي ستعاني من خسائر في العمالة تفوق 10,000 وظيفة في كافة أنحاء العالم تبلغ 14 قطاعاً فقط من أصل 163 قطاعاً شملته الدراسة في هذا التقرير.
اقرأ أيضاً: ميثاق حقوق البلوك تشين الذي أعلن عنه المنتدى الاقتصادي العالمي يثير جدلاً واسعاً
كيف يمكن الاستفادة من الاقتصاد الدائري؟
وفي تقرير التنمية العالمية للعام 2019، عبر البنك الدولي عن رسالة واضحة: للحصول على أفضل الفوائد الاجتماعية من بيئة عمل متغيرة، يجب أن يتركز العقد الاجتماعي الجديد على استثمارات أكبر في رأس المال البشري والحماية الاجتماعية. من المسلم به أن التقرير يركز على الطبيعة المتغيرة للعمل بسبب التطورات التكنولوجية ضمن الثورة الصناعية الرابعة، ولكن، وللحصول على انتقال اقتصادي بهذا المستوى اعتماداً على النموذج الدائري، يصبح هذا التركيز أكثر أهمية بكثير بالنسبة للحكومات التي تدرس إعادة توجيه استراتيجياتها الاقتصادية الوطنية. وعند دراسة مقاربة شاملة للاستثمار في رأس المال البشري، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ثلاثة قطاعات متمايزة ولكنها مترابطة في نفس الوقت: التعليم، واستحداث الوظائف، وتطوير المهارات. وبدورها، فإن أجندة اقتصاد دائري شاملة تؤدي إلى زعزعة العمل يجب أن تتعامل مع واقع مستقبل العمل، بحيث تؤدي إلى توافق بين عناصر تحول العمل وانتقال الموارد.
ومن إحدى نقاط البداية البديهية التي يمكن أن تفكر بها الحكومات هي إجراء عملية تثقيف بسيطة لمواطنيها لتحضيرهم للتغير الذي تأمل بأن تروج له. وتبقى الأولوية أجندة تعليمية عبر جميع المستويات، مع تركيز على قدرة المبادرات التعليمية المبكرة على توضيح الأفكار الرئيسية للهدر والموارد، على حين يركز التعليم المتقدم على المهارات المحددة المطلوبة للانتقال. إن زرع أفكار النموذج الدائري في غرف الصف منذ المراحل الابتدائية المبكرة يمكن أن يضمن قدرة المواطنين على استيعاب الاقتصاد الدائري والترويج له مع تقدمهم في السن. ويمكن لبعض الموارد، مثل غرفة الصف الدائرية، أن تساعد المعلمين والطلاب على إدماج التفكير الدائري ضمن المنهاج. كما يمكن لأدوات الواقع الافتراضي الجديدة أن تسمح بتخفيف التكاليف المادية للتجريب والمختبرات، مع قيام الطلاب بالبناء والتصميم ضمن البيئات الافتراضية.
ولكن هذه التساؤلات تنتهي مع منهاج أكثر تقدماً حول أنواع ممارسات الاستهلاك والإنتاج التي يعتمد عليها الوضع الحالي، وذلك لتدقيق الأفكار الحالية حول طبيعة الهدر، ومصدره الحقيقي، وما يحدث له خلال الحياة. وينبع هذا من الأفكار المبكرة حول الحاجة إلى تعليم أساسي أكثر انفتاحاً حول الممارسات الدائرية، وذلك لتجنب اختصارها بمسألة إعادة التدوير، والتي يجب أن يُنظر إليها على أنها المرحلة الأخيرة وحسب لأي منتج في إطار اقتصاد دائري فعال. وهذا يعني ضرورة وضع أطروحات ماجستير ودكتوراه جديدة في النموذج الدائري، ويعني فهم كيفية قيادة التعليم لأنماط الاستهلاك، والمجالات التي تحتاج إلى أفكار جديدة، وكيفية الاستفادة من الثورات التكنولوجية لتحقيق التوافق بين العمل والتعليم والاستدامة.
اقرأ أيضاً: مخاطر انتشار كورونا على الاقتصاد والأمن الغذائي
التركيز على القطاعات التي ستقود العملية وتجارب الدول
إن تحقيق التوافق بين التعليم وأسواق العمل المستقبلية يعني تركيز الانتباه العام والاستباقي على القطاعات التي تقود عملية تشكيل الوظائف الدائرية. ويمكن للحكومات –بل يتوجب عليها- أخذ عدة مبادرات لقيادة الجهود الصناعية وتوجيهها واستكمالها لتشكيل وظائف مستدامة. فمن الممكن أن تأخذ مبادرة تعتمد على الأبحاث بدعم العمل الهادف إلى استيعاب طبيعة الأعمال المطلوبة لتعزيز الاقتصاد الدائري. كما يمكن أن تحفز وتستثمر في البنى التحتية والابتكارات الرامية إلى تشكيل وظائف دائرية. ويمكن أيضاً أن تكون قدوة للقطاعات الأخرى بتعزيز قدراتها الدائرية ضمن هيكليتها الخاصة، وذلك من خلال الالتزام بأهداف مستدامة وتطبيق الاستدامة بشكل مقصود ومتعمد ضمن عملياتها.
ويمكن للدول أن تدرس الخطة الخضراء الشاملة وخطة الأبحاث والابتكار والمشاريع للعام 2025 اللتين وضعتهما سنغافورة، وذلك لاستقاء أفضل الممارسات واستلهام أفضل الأفكار نحو تحقيق هذا الهدف. وتبين الخطتان، بالترتيب، جهود الدولة الرامية إلى تحقيق اقتصاد دائري عبر التنمية والدعم والتقوية للمشاريع المستدامة، والترويج للابتكار المستدام المحلي عبر الاستثمار في نشاطات البحث والتطوير المستدامة واجتذابها. يعتمد الانتقال الدائري على بيئة من الأطراف الابتكارية الملتزمة ضمن هيكلية سلسلة ابتكارية طويلة، وابتكارات اجتماعية جديدة تعيد صياغة أنماط الاستهلاك، ومواد وابتكارات تصنيعية جديدة عبر عملية الإنتاج، وأساليب لوجستية جديدة في التوزيع، وحاجة أفقية إلى تعزيز المعلومات والرقمنة لضمان التنسيق. لا يتمحور النموذج الدائري حول شركة واحدة تقوم بتخفيض استهلاكها وأثرها من حيث المواد، بل حول تخفيف تكاليف النظام البيئي الكامل للشركات الصغيرة والمتوسطة للانتقال إلى قواعد موارد بديلة لمنتجاتها وخدماتها.
يعني القسم الثالث من المستقبل المتناسق لأجندة العمل في الاقتصاد الدائري العناية بقوة العمل الموجودة حالياً بتعزيزها بعمليات تتابعية لرفع وتعزيز المهارات، ومتطلبات برامج وسطية لترسيخ أساسات بالغة الصغر لطريقة التفكير الدائرية والمهارات التقنية المحددة المطلوبة. إن عدم القدرة على استيعاب هذه المجموعة الوسطية من المهارات بشكل يتجاوز البنية الأساسية الدائرية لإدارة البرامج والمواد واللوجستيات قد يؤدي إلى صعوبات يمكن أن تظهر في عمليات الانتقال إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي. فقد بالغت بعض الحكومات في الاعتماد على علوم البيانات، متجاهلة مهندسي الأنظمة ومدراء الإنتاج الذين يتيحون لأنظمة الذكاء الاصطناعي العمل والانتشار. وبالفعل، يحتاج تطوير المهارات الدائرية إلى مهندسي مواد جدد وعمليات تحليل جديدة للموارد، ولكن الصلة بين عمليات الإنتاج والتوزيع واللوجستيات المتقلبة تعني ضرورة وجود قاعدة مهارات أكبر لإدارة الانتقال والتنظيم.
إن تغطية قطاع أو اثنين من هذه القطاعات بشكل منعزل قد يمثل نقطة بداية لانتقال الاقتصاد نحو النموذج الدائري، ولكن الفوائد الكبرى تكمن في تقاطع القطاعات الثلاثة جميعاً. وبوضع خطة شاملة للقطاعات الثلاثة، يمكن تعزيز الفضول والمعرفة حول النموذج الدائري في التعليم، وتوليد فرص أكبر وتحقيق دعم أكبر للابتكار عبر تشكيل الوظائف، وتزويد قوة العمل بالأدوات الضرورية للازدهار في الاقتصاد الدائري عبر تطوير المهارات. ولن يقتصر أثر هذه الخطة على السماح لقوة العمل الحكومية بالاستعداد للانتقال إلى مستوى أعلى من النموذج الدائري، بل أيضاً تعزيز مشاركة أفرادها في الترويج والابتكار والدعم للاقتصاد الدائري. يمكن لمقاربة ثلاثية أن تحدث فرقاً كبيراً في دفع السياسات نحو مرحلة جديدة تتجاوز مجرد الاستعداد للمستقبل، وصولاً إلى صنع التوجهات المستقبلية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفوائد البيئية والاقتصادية للنموذج الدائري، فيجب ألا نتعامل معه كتوجه مؤقت مدعوم بعدد صغير من المبادرات المضخمة إعلامياً، والتي قد لا تؤدي إلى تكامل جميع العوامل المطلوبة حتى يحقق جميع إمكاناته الكامنة. يجب أن تدرس الاستراتيجيات الدائرية أكبر العوامل التي وقفت في وجه التغيرات الإنتاجية الكبيرة على مر التاريخ، مثل الخوف من المجهول، وذلك لتحضير المواطنين والصناع على حد سواء للتغيرات في مستقبل العمل.