حتى تتمكن البرازيل من مواجهة أزمة المعلومات المضللة التي تعاني منها، ينبغي عليها أن تركز استثماراتها في التعليم ومحاسبة مموِّلي شبكات الأخبار المزيفة. بدلاً من ذلك، يقوم الكونجرس الوطني في البرازيل بدراسة تشريع من شأنه انتهاك خصوصية وحرية التعبير لمستخدمي الإنترنت في البلاد، البالغ عددهم 137 مليوناً.
حالياً، يجري التحقيق مع العديد من أعضاء وأنصار حكومة الرئيس جايير بولسونارو اليمينية المتطرفة بداعي نشرهم أخباراً كاذبة خلال الانتخابات. وهناك مزاعم بقيام هؤلاء الأفراد بإدارة شبكة قوية لنشر معلومات مضللة عن الخصوم السياسيين والصحفيين. وقد دفعت بعض هذه المعلومات المضللة المؤيدين إلى مهاجمة الصحفيين جسدياً ومحاولة غزو الكونجرس الوطني في يونيو.
لكن من وجهة نظري فإن مشروع قانون “الأخبار الكاذبة” (المسمى رسمياً: القانون البرازيلي للحرية والمسؤولية والشفافية على الإنترنت) هو أسوأ طريقة ممكنة لمواجهة مشكلة تزييف الحقائق، وربما يمثل أحد أكثر قوانين الإنترنت تقييداً للحرية في العالم.
اضطلعت البرازيل بدور ريادي في مفهوم الحقوق الرقمية عندما أقرت الإطار البرازيلي للحقوق المدنية على الإنترنت [الإطار المدني للإنترنت] (Marco Civil da Internet) في عام 2014، ما وفَّر ضمانة واسعة النطاق للتعبير عبر الإنترنت. غير أن مشروع قانون “الأخبار الكاذبة” الجديد سيلتفّ على هذا الإطار، مُفسحاً المجال أمام المشرعين لإنشاء آلية يمكن استخدامها لتقييد هذه الحرية لملايين البرازيليين. وقد تمت الموافقة على مشروع القانون مؤخراً في مجلس الشيوخ، وستتم مناقشته في موعد لم يُحدَّد بعد في مجلس النواب بالكونجرس الوطني.
لماذا لن ينجح مشروع القانون الجديد في تحقيق هدفه المنشود؟
بادئ ذي بدء، فإن المشروع يتسم بالضبابية حول ما يمكن اعتباره أخباراً مزيفة؛ إذ إنه يعرِّف هذه الأخبار بأنها محتوى خاطئ أو خادع تتم مشاركته ويحمل إمكانية التسبب في ضرر فردي أو جماعي. يُفسح هذا الغموض المجال للدولة أن تقرر نوع المحتوى الذي يعتبر خاطئاً أو ضاراً، ويتيح لمن هم في السلطة التلاعب بتعريف الأخبار الكاذبة لتحقيق مكاسب سياسية.
علاوة على ذلك، يتجاهل مشروع القانون أكبر مشكلة في التعامل مع الأخبار المزيفة؛ ألا وهي شبكة الأشخاص التي تنشرها وليس المحتوى في حدّ ذاته. ورغم أن مشروع القانون يتخذ عدة خطوات لردع استخدام الحسابات الزائفة، لكنه لا يتطرق إلى المشكلة الرئيسية التي تجسدها الحسابات الحقيقية فعلاً، المسؤولة بشكل أساسي عن إضفاء الشرعية على المحتوى الزائف ونشره عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وعلى سبيل المثال، يجعل مشروع القانون إنشاء حسابات آلية مجهولة الهوية (أو بوتات) أمراً غير قانوني ما لم يتم التصريح بوضوح عن مصدرها والغرض منها، وهذا يمثل مشكلة لأي شخص يستخدم اسماً مستعاراً على وسائل التواصل الاجتماعي لدعم حرية التعبير. وبالإضافة إلى ذلك، سيُفرض على المستخدمين الذين يُشتبه في قيامهم بإنشاء بوتات أو حسابات مجهولة الهوية أن يقدِّموا هويات تعريف شخصية إلى شركات التكنولوجيا دون أمرٍ من المحكمة. وفي ظل مشروع القانون الجديد، يمكن الإبلاغ عن الحسابات على أنها مشبوهة لمجموعة متنوعة من الأسباب بما فيها -من الناحية النظرية- النزاعات السياسية.
يتضمن مشروع القانون أيضاً ما يبدو ظاهرياً أنها تدابير للسلامة، التي أعتبرها أحصنة طروادة لأنها ستسمح للحكومة بمراقبة المستخدمين. على سبيل المثال، يقتضي مشروع القانون بضرورة احتفاظ منصات التواصل الاجتماعي بسجلات للرسائل التي يقوم خمسة أشخاص على الأقل بإعادة توجيهها إلى أكثر من 1000 مستخدم في غضون 15 يوماً. وتكمن المشكلة هنا في أنه سيتم تخزين بيانات أي مستخدم يقوم بإعادة توجيه رسالة كهذه حتى لو لم يقصد التضليل.
وهناك مشكلة أخرى في مشروع القانون الجديد تتمثل في أنه يخاطر بتحويل البرازيل إلى جزيرة لها قواعدها الخاصة التي “تجمِّد” التكنولوجيا. على سبيل المثال، يتضمن المشروع إنشاء معيار قائم على نموذج واتساب (WhatsApp) لتطبيقات الهاتف، ما يُجبر المطورين الآخرين على التكيف مع هذا النموذج للحد من كيفية إعادة توجيه الرسائل أو عدد المشاركين الذين يمكنهم الانضمام إلى المجموعات.
وفوق كل ذلك، لعل أسوأ ما في مشروع القانون الجديد هو أنه يعكس اتجاه أحد أعظم التطورات التي أحدثها الإطار المدني للإنترنت؛ فوفقاً لذلك القانون، لا تتحمل المنصات المسؤولية عن المحتوى الذي ينشره المستخدمون، ولا ينبغي عليها إزالة هذا المحتوى إلا بموجب أمر محكمة يتضمن تحديداً للجريمة أو الفعل غير القانوني الذي تم ارتكابه. في المقابل، فإن مشروع القانون الجديد يحمِّل منصات التواصل الاجتماعي المسؤولية عن كل ما يُنشر عليها، ما سيدفعها إلى اتخاذ إجراءات صارمة بإزالة المحتوى الذي قد يثير استياء الحكومة، وفرض رقابة على المستخدمين لرصد المنشورات غير المناسبة.
أعتقد أنه ينبغي على شركات مثل يوتيوب وفيسبوك (وواتساب) وتويتر أن تدرك مسؤوليتها عن المواد المنشورة على منصاتها، وأن تعتمد قواعد أكثر وضوحاً ضد المعلومات المضللة. بيد أن مشروع القانون هذا لن يوقف انتشار المعلومات المضللة. وعوضاً عن ذلك، سيمنح شركات التكنولوجيا حافزاً قوياً لتقييد حرية البرازيليين في التعبير في وقتٍ تسوده الاضطرابات السياسية.
ومع أن العديد من المنظمات قد حاولت بالفعل تقليص نطاق القانون الجديد ونجحت في حذف بعض الأحكام المقلقة رغم عدم ذكر أي منها هنا، لكن لا يزال القانون المعدَّل يمثِّل مشكلة كبيرة.
قد تتمثل الطريقة الأفضل للتعامل مع تزييف الحقائق في التحقيق مع أولئك الذين يموِّلون شبكات الأخبار الكاذبة، ومحاسبتهم باستخدام التشريعات الموجودة بالفعل. كما ينبغي على منصات الشبكات الاجتماعية تغيير مقاييسها وتصميم خوارزمياتها بشكلٍ يوقف تشجيع انتشار المحتوى المتطرف ويتيح الإبلاغ عما هو خاطئ بشكل واضح.
بغض النظر عن عدد الحسابات المزيفة والبوتات الموجودة بالفعل، فإن الأخبار المزيفة تميل إلى الانتشار عبر أناس حقيقيين. كما حدث عندما ادعى دونالد ترامب زوراً على فيسبوك أن الأطفال “شبه محصنين” ضد فيروس كورونا، أو عندما يروِّج بولسونارو للفوائد غير المثبتة علمياً لمادة الكلوروكين. من هنا تتضح الأهمية البالغة للتوعية حول استخدام الإنترنت في أي مجتمع مستنير؛ حيث إن تعليم الأشخاص كيفية تحديد المعلومات الخاطئة، وتوفير أدوات لمساعدة المستخدمين على التحقق من المحتوى، وتقديم طرق للإبلاغ عن المحتوى الخاطئ، يجب أن تكون جميعها جزءاً من الحل البرازيلي لمشكلة تزييف الحقائق.
وقد شكّل إطار الحقوق المدنية في البرازيل استجابةَ المجتمع لمحاولات مماثلة من قِبل الحكومة لفرض رقابة على الإنترنت. ومن نواحٍ عديدة، يبدو أن مشروع القانون الجديد هذا لا يسعى إلى مكافحة الأخبار الكاذبة، بل إلى السيطرة على المستخدمين؛ حيث إن تقييد الحريات المدنية وحرية التعبير لا يمثل حلاً مقبولاً، لأن من المستحيل مواجهة هذه المشكلة بشكل متسرِّع أو بقوة القانون وحدها.