كيف يمكن للنسبية الخاصة أن تساعد الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالمستقبل؟

5 دقائق
كيف يمكن للنسبية الخاصة أن تساعد الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالمستقبل؟
مصدر الصورة: إيتيان جول مارى

لا أحد يعرف ما الذي سيحدث في المستقبل، إلا أن بعض التخمينات تكون أفضل كثيراً من غيرها. لن ينعكس اتجاه كرة القدم التي تم ركلها في الهواء لتعود مرة أخرى إلى قدم الراكل، ولن تصبح شطيرة برجر الجبن التي تم أكل نصفها كاملة مرة أخرى، ولن تلتئم الذراع المكسورة بين عشية وضحاها.

واستناداً إلى الوصف الأساسي للسبب والنتيجة الذي ذكره أينشتاين في نظرية النسبية الخاصة، توصل باحثون من إمبريال كوليدج لندن إلى طريقة لمساعدة أنظمة الذكاء الاصطناعي على تحسين قدرتها على التخمين.

يتقدم العالم تدريجياً، وتنبثق كل لحظة من اللحظات التي سبقتها. وبوسعنا أن نخمن بشكل جيد ما الذي سيحدث تالياً لأننا نمتلك حدساً قوياً حيال السبب والنتيجة، وهو الحدس الذي تم شحذه عن طريق ملاحظة كيف يسير العالم منذ لحظة ولادتنا، ومعالجة تلك الملاحظات من خلال أدمغة مدعومة بملايين السنين من التطور.

في المقابل، يصعب على أجهزة الكمبيوتر فهم الاستدلال السببي. وعلى الرغم من التفوق الذي تتمتع به نماذج التعلم الآلي في اكتشاف العلاقات الارتباطية، إلا أنها تجد صعوبة بالغة في تفسير سبب وجوب أن يتبع حدثٌ ما حدثاً آخر. ويمثل هذا الأمر مشكلة لأن الافتقار إلى القدرة على فهم معنى السبب والنتيجة يُمكن أن يجعل التنبؤات بعيدة كل البعد عن الواقع. لماذا لا ينعكس اتجاه كرة القدم أثناء طيرانها؟

كما يثير هذا الأمر قلقاً خاصاً إزاء عمليات التشخيص المعتمدة على الذكاء الاصطناعي؛ إذ إن الأمراض غالباً ما ترتبط بالعديد من الأعراض. على سبيل المثال، يعاني المصابون بداء السكري من النوع الثاني في الغالب من زيادة الوزن وضيق التنفس، إلا أن ضيق التنفس لا ينتج عن داء السكري، ومعالجة المريض بالأنسولين لن يساعد في علاج هذا العَرَض.

ويدرك مجتمع الذكاء الاصطناعي مدى أهمية الاستدلال السببي في التعلم الآلي، ويسعى جاهداً لإيجاد طرق لدمجه.

وقد جرب الباحثون طرقاً مختلفة لمساعدة أجهزة الكمبيوتر على التنبؤ بما قد يحدث تالياً. وتعتمد النُهج المتبعة حالياً على تدريب نموذج التعلم الآلي إطاراً تلو الآخر، لتحديد الأنماط في تسلسلات الأفعال. على سبيل المثال، اعرض على الذكاء الاصطناعي بضعة إطارات لصور قطار يخرج من محطة، ثم اطلب منه توليد الإطارات القليلة التالية في التسلسل.

ويقول أثاناسيوس فلونتزوس من إمبريال كوليدج لندن إن الذكاء الاصطناعي يمكنه التنبؤ ببضعة إطارات مستقبلية على نحو جيد، إلا أن مستوى الدقة ينخفض بشكل حاد بعد 5 أو 10 إطارات. ونظراً لأن الذكاء الاصطناعي يستخدم الإطارات السابقة لتوليد الإطار التالي في التسلسل، فإن الأخطاء الصغيرة التي ارتُكبت في وقت مبكر -على سبيل المثال بضعة بكسلات مشوشة- تتفاقم لتصبح أخطاء أكبر مع تقدم التسلسل.

أراد فلونتزوس وزملاؤه تجربة نهج مختلف، وبدلاً من جعل الذكاء الاصطناعي يتعلم التنبؤ بتسلسل معين من الإطارات المستقبلية عبر مشاهدة الملايين من مقاطع الفيديو، سمحوا له بتوليد مجموعة كاملة من الإطارات التي تماثل تقريباً الإطارات السابقة، ثم اختيار تلك التي من المرجح أن تظهر تالياً. ويقول فلونتزوس إن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يقوم بتخمينات مستقبلية دون الحاجة إلى تعلم أي شيء عن التطور الزمني.

وللقيام بذلك، طور الفريق خوارزمية مستوحاة من المخاريط الضوئية، وهي الوصف الرياضي لحدود السبب والنتيجة في الزمكان، الذي اقترحه أينشتاين لأول مرة في نظرية النسبية الخاصة ثم نقحه لاحقاً أستاذه السابق هيرمان مينكوفسكي. ونشأ مفهوم المخاريط الضوئية في الفيزياء لأن سرعة الضوء ثابتة، فهي تُظهر حدود تمدد شعاع الضوء -وكل شيء آخر- كما ينبعث من حدث أولي، مثل الانفجار.

خذ ورقة وضع نقطة على أحد الأحداث الموجودة عليها، ثم ارسم دائرة يقع هذا الحدث في مركزها. تمثل المسافة بين النقطة وحافة الدائرة المسافة التي قطعها الضوء خلال فترة زمنية معينة، ولنقل مثلاً: ثانية واحدة. ونظراً لأنه لا يُمكن لأي شيء -ولا حتى المعلومات- السفر أسرع من الضوء، فإن حافة هذه الدائرة تمثل حداً صارماً للتأثير السببي للحدث الأصلي. ومن الناحية النظرية، يُمكن أن يتأثر أي شيء داخل الدائرة بالحدث، بينما لا يمكن لأي شيء يقع خارجها أن يتأثر.

بعد ثانيتين، قطع الضوء ضعف المسافة وتضاعف حجم الدائرة: لدينا الآن عدداً أكبر بكثير من المسارات المستقبلية الممكنة لهذا الحدث الأصلي. تخيل أن هذه الدوائر -الآخذة في التوسع- ترتفع ثانيةً تلو الأخرى من الورقة، لتُشكل مخروطاً مقلوباً يقع الحدث الأصلي عند طرفه. هذا هو المخروط الضوئي. كما يُمكن أيضاً أن تتوسع صورة معكوسة للمخروط إلى الوراء -خلف الورقة- لتحتوي على كل مسارات الماضي الممكنة التي يُمكن أن تقود إلى وقوع الحدث الأصلي.

استخدم فلونتزوس وزملاؤه هذا المفهوم للحد من عدد الإطارات المستقبلية التي يُمكن أن يختارها الذكاء الاصطناعي. وقد اختبروا الفكرة على مجموعتين من البيانات: الأولى هي (Moving MNIST) التي تتألف من مقاطع فيديو قصيرة لأرقام مكتوبة بخط اليد تتحرك على الشاشة، والثانية هي سلسلة (KTH) للأنشطة البشرية، التي تحتوي على مقاطع لأشخاص يسيرون أو يلوحون بأذرعهم. وفي كلتا الحالتين، دربوا الذكاء الاصطناعي على توليد إطارات تبدو مماثلة لتلك الموجودة في مجموعة البيانات. ولكن الأهم من ذلك أن الإطارات الموجودة في مجموعة بيانات التدريب لم تُعرض وفقاً لتسلسل معين، ولم تكن الخوارزمية تعلم كيفية إكمال السلسلة.

ثم طلبوا من الذكاء الاصطناعي اختيار الإطارات الجديدة التي يُرجح أن تتبع إطاراً أخر. وللقيام بذلك، قام الذكاء الاصطناعي بتصنيف الإطارات التي تم توليدها وفقاً لتشابهها، ثم استخدم خوارزمية المخروط الضوئي لرسم حدود حول الإطارات التي يُمكن أن تكون مرتبطة بعلاقة سببية بالإطار المُعطى. وعلى الرغم من أنه لم يتم تدريب الذكاء الاصطناعي على استكمال التسلسل، إلا أنه لايزال بإمكانه تخمين الإطارات التالية على نحو جيد. ويوضح فلونتزوس أنك إذا قدمت للذكاء الاصطناعي إطاراً يُظهر شخصاً قصير الشعر يسير مرتدياً قميصاً، فإنه سيرفض الإطارات التي تُظهر شخصاً طويل الشعر أو بلا قميص. وقد دخل هذا العمل مرحلة المراجعة النهائية في مؤتمر أنظمة معالجة المعلومات العصبية (NeurIPS)، وهو مؤتمر رئيسي للتعلم الآلي.

ومن مزايا هذا النهج أنه من المفترض أن يعمل مع مختلف أنواع نماذج التعلم الآلي، بشرط أن يكون النموذج قادراً على توليد إطارات جديدة مماثلة لتلك الموجودة في مجموعة التدريب. كما يُمكن استخدامه لتحسين دقة أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة حالياً والتي تم تدريبها على تسلسل مقاطع الفيديو.

ولاختبار هذا النهج، قام الفريق بتوسيع المخاريط بمعدل ثابت، غير أن هذا المعدل سيختلف في الممارسة العملية. على سبيل المثال، سيكون للكرة الموجودة في ملعب كرة قدم مواقع مستقبلية محتملة أكثر من الكرة التي تسير على القضبان، وهو ما يعني أن كرة القدم ستحتاج إلى مخروط يتوسع بمعدل أسرع.

ويتطلب العمل بهذه السرعات التعمق في الديناميكا الحرارية، وهو أمر غير عملي. لذا، يخطط الفريق في الوقت الراهن لتحديد قطر المخاريط يدوياً، بيد أن الذكاء الاصطناعي يمكنه معرفة مقدار ومدى سرعة تحرك الأجسام -على سبيل المثال- من خلال مشاهدة مقطع فيديو لمباراة كرة قدم، ما سيمكنه من تحديد قطر المخروط نفسه. كما يُمكن للذكاء الاصطناعي أيضاً أن يتعلم بسرعة فائقة، وأن يلاحظ مدى سرعة تغير نظام حقيقي وضبط حجم المخروط ليتناسب مع هذا النظام.

ويُعد التنبؤ بالمستقبل أمراً هاماً بالنسبة للعديد من التطبيقات، فالمركبات ذاتية القيادة يجب أن تكون قادرة على التنبؤ بما إذا كان الطفل على وشك أن يركض نحو الطريق، أو ما إذا كان راكبُ دراجةٍ متذبذبٌ يمثل خطراً. كما أن الروبوتات التي يتعين عليها أن تتعامل مع الأجسام المادية يجب أن تكون قادرة على التنبؤ بسلوك تلك الأجسام عند تحريكها. وستكون الأنظمة التنبؤية عموماً أكثر دقة إذا كان بإمكانها التفكير في السبب والنتيجة بدلاً من الاقتصار على اكتشاف العلاقة الارتباطية.

لكن فلونتزوس وزملاءه مهتمون بالطب بشكل خاص؛ إذ يُمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاكاة الكيفية التي قد يستجيب بها المريض لعلاج معين. على سبيل المثال، استكشاف كيف يؤتى هذا العلاج مفعوله تدريجياً. ويقول فلونتزوس: “يمكنك معرفة كيفية تأثير العقار على المرض من خلال إيجاد كل النتائج الممكنة”. كما يُمكن استخدام هذا النهج أيضاً في الصور الطبية، حيث يُمكن للذكاء الاصطناعي تحديد الطرق التي من المرجح أن يتطور بها المرض، من خلال فحص صور الرنين المغناطيسي للدماغ.

من جانبه، يقول كياران لي الباحث الذي يعمل في مجال الاستدلال السببي بشركة سبوتيفاي وكلية لندن الجامعية: “من الرائع أن نرى اقتباس أفكار الفيزياء الأساسية للقيام بذلك”، مشيراً إلى أن “فهم العلاقة السببية مهم للغاية إذا كنت ترغب في اتخاذ إجراءات أو قرارات في العالم الحقيقي”؛ إذ إنه يمس جوهر الكيفية التي أوصلت الأشياء إلى ما هي عليه حالياً: “إذا كنت ترغب في طرح السؤال ‘لماذا؟’ فعليك إذن أن تفهم السبب والنتيجة”.

المحتوى محمي