يتيح التشفير الكمي إجراء الاتصالات بأسلوب يضمن أمن البيانات المتبادلة، وذلك بفضل قوانين الفيزياء. وقد أصبح يتسم بالأهمية بصورة متزايدة.
فقد عرف الفيزيائيون من زمن طويل أن الحواسيب الكمومية ستتمكن من كسر جميع أنواع التشفير الأخرى تقريباً، ونظراً لأن قدرات هذه الأجهزة تزداد يوماً بعد يوم، فإن مصير أساليب التشفير التقليدية لم يعد غامضاً. ولذلك فإن كلاً من الشركات التجارية والحكومات والمؤسسات العسكرية تنتظر بفارغ الصبر أن يتم تطوير أنظمة للتشفير الكمِّي.
إلا أن ثمَّةَ مشكلة، فالتشفير الكمي يعتمد على الفوتونات كلٍّ على حدة في حمل المعلومات الكمية، ولكن حتى أفضل أنواع الألياف الضوئية لا يمكنه أن يحمل هذه الفوتونات سوى مسافات معينة -حوالي 200 كيلومتر- قبل أن يؤدي امتصاص الضوء إلى استحالة تنفيذ العملية، ولذلك فإن التشفير الكمي لم يتم تطبيقه بنجاح من قبل على مسافات شاسعة أكثر من ذلك.
ولكن ذلك بدأ يتغير اليوم، بفضل قمر صناعي صيني استثنائي تم إطلاقه في 2016؛ فقد حقق القمر الصناعي ميسيوس عدداً من الإنجازات البارزة منذ عام تقريباً، وذلك منذ أن باشر عمله. وفي الصيف الماضي، تمكن من نقل أول غرض من الأرض إلى المدار بشكل آني، وقد كان فوتوناً واحداً.
ومع نهاية يناير 2018، تمكَّن هذا القمر الصناعي من إعداد أول خدمة للتشفير الكمي بين القارات، وقد اختبر الباحثون النظام من خلال إقامة اجتماع مرئي آمن بين أوروبا والصين. وبذلك تمكنت قوانين الفيزياء -ولأول مرة- من أن تكفل أمن هذا الاجتماع المرئي.
طريقة العمل بسيطة؛ حيث يعتمد التشفير الكمي على ما يسمى: لوحة المرة الواحدة (one-time pad) لضمان الخصوصية، وهي مجموعة من الأعداد العشوائية -أي مفتاح- يمكن استخدامها من قِبل طرفي اتصال في ترميز وفك ترميز الرسائل.
وعادة ما تكمن مشكلة لوحات المرة الواحدة في ضمان أنه لا أحد يمتلكها سوى المرسل والمستقبل فقط، فكيف يمكن لكلا الطرفين التأكد من عدم قيام أي متنصِّت بنسخ المفتاح أثناء توزيعه بينهما؟
يتم حل هذه المشكلة بشكل دقيق عن طريق إرسال المفتاح باستخدام جسيمات كمومية مثل الفوتونات؛ نظراً لأن من الممكن على الدوام معرفة ما إذا كان الجسيم الكمي قد تم رصده سابقاً، وإن كان قد تم رصده، فحينئذ يتم التخلي عن المفتاح ويتم إرسال مفتاح آخر إلى أن يتأكد كلا الطرفين من أن لوحة المرة الواحدة التي في حوزته لم تتعرض للرصد.
هذه هي عملية توزيع المفتاح الكمي، وهي عملية حاسمة تشكل جزءاً جوهرياً من التشفير الكمي. وبعد أن يصبح المفتاح -لوحة المرة الواحدة- في حوزة كلا الطرفين، يمكنهما التواصل عبر القنوات الكلاسيكية المعتادة بأمان تام.
ويقوم القمر الصناعي ميسيوس -ببساطة- بتوزيع هذا المفتاح انطلاقاً من المدار، وبما أنه يقع في مدار متزامن مع حركة الشمس فوق القطبين، فهو يمر فوق كافة أجزاء سطح الكرة الأرضية بنفس التوقيت المحلي تقريباً كل يوم.
ولذلك عندما يكون القمر الصناعي هذا فوق المحطة الأرضية الصينية الواقعة في مقاطعة شينغلونغ شمالي إقليم خيبي في الصين، فإنه يرسل لوحة المرة الواحدة إلى الأرض، مرمَّزةً بفوتونات مفردة باستخدام بروتوكول اتصال مستقر. وعندما تدور الأرض أسفل القمر الصناعي، ومع بروز المحطة الأرضية الواقعة في مدينة جراتس في النمسا أسفل منه، يرسل ميسوس لوحة المرة الواحدة ذاتها إلى الطرف المستقبل الواقع هناك.
وبذلك يصبح في حوزة كلا المحطتين المفتاح ذاته الذي يسمح لهما بإجراء اتصالات آمنة تماماً عبر أي من قنوات الاتصال الكلاسيكية.
ومع ذلك فإن التجربة تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد كان الهدف هو إقامة اجتماع مرئي بين الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، والأكاديمية النمساوية للعلوم في فيينا، ولذلك يجب توزيع المفتاح بشكل آمن بين كلا هذين الموقعين. ومن أجل ذلك استخدم الفريقان اتصالاً كمومياً أرضياً عبر الألياف الضوئية.
وفي نهاية المطاف قاموا بإعداد قناة اتصال فيديوية تم تأمينها باستخدام معيار التشفير المتقدم (AES)، يتم تحديثها كل ثانية باستخدام رموز ابتدائية بطول 128 بت. وفي سبتمبر 2017 تمكن الفريقان من إجراء اجتماع مرئي رائد من نوعه استمر لمدة 75 دقيقة، مع تبادل للبيانات بلغ حجمه الإجمالي 2 جيجابايت تقريباً.
يقول الفريقان (كان الأول بقيادة أنطون زيلينجر في جامعة فيينا، والثاني بقيادة جيان-وي بان في الجامعة الصينية للعلوم والتكنولوجيا في مدينة خيفي في الصين): "لقد أثبتنا عملياً إمكانية الاتصال الكمي العابر للقارات بين عدة مواقع على سطح الأرض، مع مسافات فاصلة بلغ أقصاها 7,600 كيلومتر".
لكن هناك عدد من نقاط الضعف المحتملة التي ينبغي العمل عليها في النظام مستقبلاً، ولعل أكثرها أهمية هي أن القمر الصناعي يتم اعتباره آمناً خلال الوقت الذي يستغرقه للاتصال بكلتا المحطتين الأرضيتين. وقد يكون ذلك صحيحاً -فمَن ذا الذي يستطيع اختراق قمر صناعي يحلق في مداره؟- ولكن هذا الجانب الأمني ليس مضموناً بموجب القوانين الفيزيائية. ومع ذلك يقول الفريقان إن هذا الأمر يمكن معالجته في عمليات التصميم المستقبلية باستخدام دارة ترحيل كمومية بين طرفي الاتصال.
وأياً كانت أوجه القصور فيما تم تجريبه، فإن هذا العمل مثير للإعجاب بلا شك؛ فهو تجربة عملية أثبتت صحة المبدأ العلمي في إجراء اتصالات آمنة على نطاق عالمي. يقول زيلينجر وجيان وي وزملاؤهما: "يقترح عملنا حلاً فعالاً لإنشاء شبكة عالمية مترامية الأطراف، مما يضع حجر الأساس لإنشاء شبكة إنترنت كمومية في المستقبل".
وتتوق الكثير من الحكومات والجهات العسكرية العاملة والشركات التجارية إلى الحصول على قدرات مماثلة، ولذلك من المؤكد أنه لن يمر وقت طويل قبل أن تبدأ الإصدارات التجارية من القمر الصناعي ميسيوس ببيع هذا النوع من الاتصالات الآمنة حول العالم، مع اضطلاع الصين بدور ريادي لهذا الاتجاه.
مرجع: arxiv.org/abs/1801.04418: شبكات كمومية عابرة للقارات يتم ترحيلها عبر استخدام الأقمار الصناعية