الأوقات العصيبة تشحذ تفكيرنا وترغمنا على إعادة تقييم كل شيء تقريباً على المستويين الشخصي والمهني. ولو كنا نسير دوماً في مسار تصاعدي، فلن تتاح لنا الفرصة للتوقف والتقييم رغم صعوبة درس من هذا النوع.
يتم تذكيرنا عبر جميع الوسائل الإخبارية أن الاقتصادات العالمية تضعف وتتباطأ؛ حيث تعكف الحكومات على تقديم مساعدات مالية ضخمة للقطاعين الخاص والعام. وتتزايد صعوبة الحصول على التمويل التجاري والشخصي، كما يتم -بنحوٍ أو بآخر- تقييد المبالغ وتشديد الشروط مقارنة بالسنوات القليلة الماضية. كما أن الثقة آخذة في الانحسار، ما يدفع الناس والشركات تلقائياً للقلق بشأن السنوات القليلة المقبلة.
“قد يكون التشاؤم هو الشعور السائد حالياً، لكنني أرى جوانب مشرقة تلوح في الأفق”.
قد يبدو أن لا مفرّ من الواقع الاقتصادي المحتوم، ولكن في حين أن التشاؤم والإحباط قد تكون أهم سمات هذا الشهر، والأشهر العديدة المقبلة، فإني أرى أموراً إيجابية أخرى تلوح في الأفق. ويمكنني القول إن البيئة الصعبة قد توفر منصة للابتكار والنمو الاقتصادي بالاستناد إلى ريادة الأعمال والتفكير الإبداعي.
أنا رائدة أعمال، وبالفطرة نحن -رواد الأعمال- مجبولون على التفاؤل؛ إذ تنطوي ريادة الأعمال على المخاطرة بشكل منهجي ومستمر مع احتمال نجاح ضعيف إلى حد الإحباط. ولو نظرنا إلى ريادة الأعمال بروح إيجابية، فإنها تنطوي على توفير حلول للمشاكل، واستكشاف كيفية تجاوز العقبات، والعثور على الفرص في أماكن يعجز الآخرون عن رصدها. وبالفعل هناك فرصٌ سانحة ومجالات مشرقة أعتقد أنه ينبغي علينا السعي وراءها والاحتفاء بها واقتناصها.
أعتقد أن التكنولوجيا قد تغيرت إلى الأبد خلال الأشهر الستة الماضية:
- التكنولوجيا تلعب دور البطولة. لم يعد هناك “شيء” يُنحي جانباً الإستراتيجية والخطط ويدعم فقط أهداف وتحديات العمل، فقد أصبحت التكنولوجيا ركيزة عمل أساسية وجوهرية بطريقة لم نشهدها أبداً قبل إجراءات الإغلاق والحجر الصحي.
- البيانات ذكاء، والذكاء في طور الانتصار. لقد تعاظمت قوة وأهمية وضرورة إنشاء شركة قائمة على البيانات، وتتمتع بالرؤية التحليلية اللازمة لإرشاد اتخاذ القرارات الذكية للشركات على نحو صائب أكثر من أي وقت مضى. ولعل التأثير الأكبر للبيانات يتمثل في قيام الشركات بإعادة تجديد وربط أساليب جمع المعلومات وتزويد نفسها بالأدوات عالية الجودة اللازمة لتوظيف هذه المعلومات على نطاق واسع. ولم تعد البيانات مجرد ميزة داعمة، وإنما أصبحت تحتل مكانتها في قلب التحول الحقيقي.
- إعادة تصور نماذج الأعمال. بعد تحطم القواعد المقبولة سابقاً، تنتقل “الإستراتيجية” الأعلى أهمية من إجراء التحسينات التدريجية إلى عالم النقلات النوعية في النماذج. فمجالس الإدارة التي تعاني تقليدياً من رهاب التكنولوجيا تفتح ذراعيها اليوم لاحتضان نهج منح الأولوية للحلول الرقمية أولاً؛ ما يخلق فرصة لتغيير طريقة إنجاز الأعمال بشكل جذري من الألف إلى الياء. ومن الاعتبارات الهامة في هذا السياق من أجل الحفاظ على الرشاقة والقدرة على الصمود ليس فقط إعداد البنية التحتية بما يتماشى مع متطلبات المستقبل، وإنما أيضاً تأهيل القوى العاملة حتى تكون جاهزة مستقبلاً للتعامل والتكيف مع التحول الرقمي. وعلى الرغم من بعض التضحيات، لكن ستكون هناك في المقابل فرص هائلة.
- المسؤولية والتعليم. يوفر الانخراط في العمل مع الشركات الصغيرة منصة للابتكار، ويتيح إطلاق العنان للقوة الريادية للشركات الإبداعية ذات “الإمكانات” الأقل. ومع ذلك، ومع تعزيز صرامة قوانين التنظيم وخصوصية البيانات، فإن ضمان نجاح هذه العلاقات على أرض الواقع يتطلب الإرشاد والدعم وعملية توريد مبتكرة لإفساح المجال أمام التعايش بين الشركات الناشئة والمؤسسات الكبيرة. تتزايد الرغبة في المخاطرة؛ حيث إن إعادة تصور الإجراءات الداخلية -وليس بالضرورة تخفيفها- لمساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة على استكشاف الفرص وتجاوز عقبات الدخول تعد أمراً حيوياً لتحقيق التحول في كامل النظام البيئي دون المساس بمتطلبات الامتثال.
يصاحب هذا التغيير فرص خصبة جمّة؛ إذ إنه في ظل تغير الأولويات وانتقال التكنولوجيا من “دورها الثانوي” التكميلي إلى “دور البطولة”، ازدادت الرغبة في الحصول على أفضل البرامج والخدمات الاحترافية وتسارعت دورات المبيعات لتعبِّر عن هذه الحاجة الملحّة والطلب عليها.
خلال فترات النمو، لا يهتم الناس كثيراً بالتكاليف. لكن خلال فترات الركود، فإن الشيء الوحيد الذي يهتم به الناس هو خفض التكاليف، ما يخلق طريقة أخرى لإنجاح أعمال جديدة أيضاً. إن الوقت الحالي هو الأمثل لإزاحة إحدى الشركات المهيمنة من خلال العمل على تقليص الميزانيات من أجل اكتساب موطئ قدم في المجال المعني. قد يمثل التخفيض الجدّي في النفقات العامة السنوية لشركة ما العاملَ الحاسم عند تخصيص مواردها لأعمالها الجديدة. وبما أن الركود حالة مؤقتة، لا بدّ أن تحل نهايته وستتعافى الميزانيات حينها.
وبينما كانت الشركات قد اختارت في السابق حلولاً بسيطة لمواجهة التحديات -تدبُّر أمورها بطريقة أرخص وأكثر بدائية لمعالجة مشكلة أو حاجة- أو الالتزام بحل موجود “جيد بما فيه الكفاية”، فإنني أرى أن هناك طلباً اليوم على أفضل المنتجات والخدمات الذكية. من أجل الصمود والازدهار في أوقات عصيبة، فإن الحلول المتواضعة ببساطة ليست كافية. في المقابل، نشهد انتصارات المنصات الذكية، وهنا تجد الشركات الذكية والطموحة وعالية الجودة فرصاً إضافية لإزاحة الشركات المهيمنة وكسب العملاء.
ومن بين جميع التغييرات الحاصلة، تعرضت طبيعة القيادة في حدّ ذاتها لصدمة كبيرة لا يمكنها تجاهلها، وهذا التبدُّل في مواقف مجالس الإدارة والقيادة يعني أن هذا التغيير يحظى بالدعم حقاً. ستكون الشركات الناجحة -مهما كانت كبيرة أو صغيرة- هي تلك التي تتمكن من إيجاد التعايش بين القيادة والثقافة والتكنولوجيا، والشركات التي لا تنجح في ذلك سيكون نصيبها الفشل. أصبح كل شيء واضحاً الآن ولا مجال للاختباء خلف أصابع اليد.
تدرك الشركات الكبيرة أن ممارسة الأعمال معها أمر صعب، وتعلم أنها تحتاج إلى تعديل العمليات حتى تتمكن الشركات الصغيرة والمتوسطة المبتكِرة -التي تبني المنتجات التي يمكن أن تمنحها ميزة تنافسية- من التعامل معها. ووفقاً لتجربتي الشخصية، تولي القيادات تركيزاً متزايداً على هذه المسألة (لكنها ما زالت بحاجة إلى اهتمام أكبر).
أنا لا أقول إنه لا توجد تحديات صعبة أمامنا في المستقبل، فنحن جميعاً نواجه معاناة حالياً. وستستمر الشركات في تكبُّد هذه المعاناة. يتطلب المناخ الاقتصادي الصعب قدراً كبيراً من البراعة والقدرة على النظر إلى الأشياء بشكل مختلف والتركيز على مكامن الفرص الخصبة. وعند النظر إلى الأشياء بشكل مختلف، تتضح حقيقة وجود العديد من الفرص السانحة، ليس لإطلاق أعمال جديدة فحسب، ولكن أيضاً لتحسين الأعمال القائمة حالياً.
وبينما يذكِّرني البعض -باستمرار- بأن عامل الحظ يلعب دوراً أيضاً في التقاط تلك الفرص، فإنني أتذكر القول الشهير لصامويل جولدوين: “كلما عملت بجد أكبر، كنت محظوظاً أكثر”. والمغزى من هذا القول هو أنه ينبغي عليك توخّي الحذر لكن لا تكن منغلقاً ومتحفظاً، ابحث عن فرص خارجية وانظر بشكل مختلف إلى مواردك، في اختصاص وظيفتك، وتحديات عملك، وأجهزتك وبرامجك أو مهاراتك. اعمل بجد للعثور على المكان المحتمل للفرص إذا كنت تبيع، واعمل بنفس الجد لمعرفة مكان إنشاء التكنولوجيا الذكية إذا كنت تشتري. وكما يقولون: “مَن جدَّ وَجَد”.