على مدار العقد الماضي، تحسنت قدرتنا على تعديل الجينوم البشري بشكل سريع، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى التقدم في تقنيات تعديل الجينوم مثل تقنية كريسبر. ويسعى العلماء بقوة لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في إجراء أي تغيير وفق أي تسلسل للحمض النووي في أي خلية من خلايا الجسم. لقد أفسح تنوع هذه الأدوات المجال لعلاج مجموعة من الأمراض الموهِنة، من الحالات العصبية السائدة إلى الأشكال النادرة من السرطان. ولكن إلى جانب التطبيقات العلاجية الواعدة، ينبغي علينا أن نشعر بالقلق بشأن الاستخدامات غير الأخلاقية وغير العادلة المحتملة لهذه التقنيات.
التعديل الجيني يدق ناقوس الخطر
بلغ القلق العام بشأن الاستخدام المحتمل وإساءة استخدام تعديل الجينوم ذروته في عام 2018 عقب الإعلان المفاجئ عن أول طفلتين أجريت لهما عملية التعديل. إذ كشف هي جيانكوي، الأستاذ المشرف على أحد المختبرات الجامعية في الصين، بشكل علني عن جهوده التي قام بها لتعديل الأجنة البشرية لتصبح مقاوِمة لفيروس الإيدز. أدان المجتمع العلمي الدولي تجربة هي جيانكوي، ووجهت الحكومة الصينية في النهاية اتهامات جنائية ضد هذا العالِم الشاب الصاعد. يقضي هي جيانكوي حالياً عقوبة السجن لمدة ثلاث سنوات بعد أن أدانته محكمة صينية بـ "ممارسة إجراءات طبية بشكل غير قانوني".
اقرأ أيضاً: ما الذي حدث للتوأمين لولو ونانا اللتين ولدتا بعد تعديلهما بتقنية كريسبر؟
يتعرض تعديل الأجنة البشرية لأغراض الإنجاب للانتقاد على أنه غير آمن وغير ضروري، ويمكن القول إنه قد تجاوز الحدود وجعل الإجابة على التساؤل أمراً ملحاً: كيف ينبغي تنظيم تعديل الجينوم البشري؟ من الواضح أن اتباع نهج وطني هو أمر خاطئ. فمن المحتمل أن تؤدي مجموعة من التنظيمات المختلفة على مستوى الدولة إلى السياحة الطبية، أي السفر خارج الوطن الأصلي للشخص للخضوع لإجراء طبي مقيّد. ولكن كيف سيبدو نمط الحوكمة على المستوى العالمي؟
في عام 2020، أصدرت الأكاديميات الوطنية بالولايات المتحدة والجمعية الملكية بالمملكة المتحدة تقريراً يصف النقاط التي يجب التحقق منها قبل محاولة بدء الحمل بجنين بشري معدل. على سبيل المثال، ينبغي على الأطباء إجراء تسلسل للحمض النووي للجنين للكشف عن أي تغييرات غير مقصودة.
وعلى الرغم من أن هذا التقرير قدم قائمة بما يجب فعله وما لا يجب فعله، إلا أنه لم يحدد كيفية الإشراف على الاستخدام الأخلاقي لهذه التكنولوجيا على المستوى العالمي، ومن ينبغي عليه القيام بذلك. للإجابة على هذا السؤال، بدأت لجنة استشارية تابعة لمنظمة الصحة العالمية تحقيقاً مدته عامان للبحث في هذه المسألة على وجه التحديد.
حوكمة وتوصيات بشأن تعديل الجينوم البشري
وفي شهر تموز/ يوليو، أصدرت اللجنة، التي تضم خبراء بارزين في مجال العلوم من جميع أنحاء العالم، تقريرين: إطار عمل للحوكمة وتوصيات بشأن تعديل الجينوم البشري. قدمت هاتان الوثيقتان العديد من دراسات الحالة، والتي غطت العديد من الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها استخدام تعديل الجينوم لتغيير الخلايا البشرية، بدءاً من علاج الأمراض وحتى تعزيز القدرات الجسدية.
تناول التقرير الأضرار الواضحة لتعديل الأجنة واقترح طرقاً لمراقبة الأبحاث غير الأخلاقية على نطاق عالمي. على سبيل المثال، أوصت اللجنة بإنشاء آلية للإبلاغ حتى يقوم العلماء بالإبلاغ عن النشاط غير القانوني.
كما واجهت اللجنة أيضاً بنفس القدر، إن لم يكن أكثر، النتائج المثيرة للقلق لتعديل الجينوم البشري، والتي حظيت باهتمام أقل بكثير من تعديل الأجنة: فعلى خطى العلاجات الأخرى مثل أدوية السرطان واللقاحات، يبدو أن علاجات تعديل الجينوم في طريقها لزيادة حجم عدم المساواة الحالية فيما يتعلق بالصحة العالمية.
شددت اللجنة على الحاجة إلى المساواة في مجال الصحة العالمية، مدركةً أن العديد من البلدان ستكون متأخرة مع تقدم تقنية تعديل الجينوم. إذا لم تتم معالجة ذلك، فقد يُترك المرضى الذين يعانون من أمراض جينية نادرة ليجدوا أن علاجاتهم تقتصر على البلدان ذات الدخل المرتفع، حيث تمتلك المستشفيات المعدات المتطورة والموظفين المدربين وآليات الدفع اللازمة لتقديم هذه العلاجات.
اقرأ أيضاً: مشروع لتصميم الأطفال بتمويل من البيتكوين
حتى الآن: ما هي الأمراض التي يُسمح فيها بالعلاج الجيني؟
حتى الآن، تمت الموافقة على علاجات جينية لبعض الأمراض مثل عمى ليبر الخلقي (مرض وراثي في العين) وضمور العضلات الشوكي (مرض عصبي تنكسي) في العديد من البلدان. تعدّ آلية عمل العلاجات الجينية، التي يتم فيها إدخال نسخة سليمة من الحمض النووي إلى الجينوم بشكل عشوائي، مختلفة عن تعديل الجينوم، الذي يؤدي إلى تغييرات جينية دقيقة. تتراوح أسعار العلاجات الجينية المعتمدة الموجودة حالياً في الأسواق من 300 ألف دولار إلى 2.1 مليون دولار، والتي تعدّ أسعاراً باهظة للأفراد حتى في البلدان ذات الدخل المرتفع. وقامت شركة الأدوية بلوبيرد بيو Bluebird Bio مؤخراً بسحب علاجها الجيني لمرض الثلاسيميا بيتا، وهو مرض دموي نادر، من البلدان الأوروبية بسبب خلافات حول تحديد الأسعار، مما يشير إلى صعوبة تقديم هذه العلاجات المنقذة للحياة باهظة الثمن للمرضى.
إذن، كيف تبدو المساواة في مجال الصحة العالمية حين يكون هناك دواء ثمنه ملايين الدولارات؟ والأهم من ذلك، من الذي سيقوم بدور ضمان استفادة المرضى في جميع أنحاء العالم من علاجات تعديل الجينوم في المستقبل؟ للبدء بالإجابة على هذه الأسئلة، يجب أن نبدأ بفهم الوضع الحالي لهذه التكنولوجيا الآن، وإلى أين تتجه، ومن هو أكثر المستفيدين منها.
في الولايات المتحدة وحدها، يتم إنفاق مليارات الدولارات لتطوير تقنية تعديل الجينوم لعلاج قائمة طويلة من الأمراض الموهِنة. يُطلق على هذا النهج "تعديل الخلايا الجسدية"، وهو نوع أقل إثارة للجدل من "تعديل الخلايا الجنسية"، والذي يتضمن تعديل البويضات والحيوانات المنوية والأجنة. لا تنتقل التغييرات الحاصلة في الخلايا الجسدية إلى الأجيال القادمة، ولكن لا يزال بإمكانها علاج المرض طوال حياة المريض.
إن مجموعة الأمراض التي يمكن علاجها باستخدام تعديل الجينوم كبيرة. يطوّر العلماء طرقاً جديدة لاستهداف الخلايا في كافة أنحاء الجسم، من الخلايا العصبية في الدماغ إلى خلايا الشبكية في العين. وأظهرت التجارب السريرية والأبحاث الأولية، التي أُجريت في الصين والولايات المتحدة وغيرها من الأماكن الأخرى، إمكانات هذه التقنية في تصحيح ضمور العضلات ومرض هنتنغتون وحتى بعض أنواع العمى. وعلى الرغم من النتائج الأولية الواعدة، لا تزال علاجات تعديل الجينوم قيد التجارب السريرية ولم توافق الهيئات التنظيمية على دخول أي علاج لأسواق الرعاية الصحية في أي بلد. وفي حين أن هذه الجهود السريرية لا تزال افتراضية، إلا أنها مؤشرات واضحة على ما قد يبدو عليه الوضع العلاجي في المستقبل.
يشير الخبراء إلى جهود علاج مرض فقر الدم المنجلي على أنها تدل على كيفية تأثير تعديل الجينوم على المرضى وأنظمة الرعاية الصحية. فقر الدم المنجلي هو مرض وراثي يؤدي إلى تشوه خلايا الدم الحمراء، مما يؤدي إلى انخفاض متوسط العمر المتوقع إلى ما يتراوح بين 42 و47 عاماً في الولايات المتحدة. يتم إجراء تجارب سريرية متعددة لعلاج فقر الدم المنجلي باستخدام تعديل الجينوم، وذلك بإشراف مجموعات بحثية من المجالين الأكاديمي والتجاري، ولكن التكلفة النهائية لأي علاجات معتمدة ستكون باهظة حتماً. تتضمن هذه الإجراءات إزالة الخلايا من نقي عظام المريض وتعديل الحمض النووي الموجود داخل تلك الخلايا وإعادة إدخال الخلايا المعدّلة إلى الجسم. تتطلب هذه العملية معدّات متطورة وموظفين مدربين تدريباً متقدماً والمكوث في المستشفى لمدة طويلة. تقدّر التوقعات أن سعر هذا العلاج سيكون أكثر من مليون دولار لكل مريض، بما يتوافق مع العلاجات الجينية المعتمدة الباهظة، ولكنه يستهدف هذه المرة عدداً أكبر بكثير من المرضى، إذ يعاني نحو 100 ألف شخص في الولايات المتحدة من فقر الدم المنجلي.
اقرأ أيضاً: امرأة في سباق مع الزمن لنزع فتيل قنبلة موقوتة في جيناتها
كيف ستتحقق المساواة باستخدام علاجات تعديل الجينوم؟
تتخبط شركات التأمين الكبيرة وبرامج التأمين الحكومية لإيجاد طرق لتغطية التدفق المستقبلي لعلاجات تعديل الجينوم، ما يمثل تحدياً للطرق التقليدية لدفع ثمن الأدوية. في الولايات المتحدة، سيجد الأفراد الذين لديهم خطط تأمين من شركات صغيرة أو ليس لديهم تأمين أن الحصول على هذه الإجراءات صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلًا. إذن، فكيف يمكن أن يستفيد الأشخاص في البلدان منخفضة الدخل من مثل هذه العلاجات؟
بافتراض أن علاج مرض فقر الدم المنجلي قد يكون من بين أوائل العلاجات المعتمدة لتعديل الجينوم، مع إمكانية أن يستفيد منه ملايين الأشخاص على مستوى العالم، فكيف سيساعد علاج بملايين الدولارات في توجيه البوصلة نحو المساواة في مجال الصحة العالمية؟
الإجابة المختصرة هي أنه لن يقوم بذلك. في الواقع، إذا تُرك الأمر للأسواق التجارية، فمن المرجح أن تفاقم عدم المساواة في مجال الصحة العالمية. يجب تبني نهج مختلف لتطوير علاجات فعالة وآمنة ويمكن الوصول إليها على نطاق واسع وبأسعار معقولة أيضاً. وكان ذلك هو محور الفكرة الكامنة وراء التعاون بين مؤسسة بيل وميليندا غيتس وشركة الصناعات الدوائية نوفارتيس ومعاهد الصحة الوطنية الأميركية.
يهدف هذا الجهد الجماعي إلى تطوير علاج لتعديل الجينوم لمرض فقر الدم المنجلي وفيروس الإيدز، والذي من شأنه أن يكون مناسباً للمرضى في المناطق منخفضة الموارد مثل إفريقيا أو المناطق الريفية في أميركا. باختصار، يتمثل الهدف في إدخال جزيئات تعديل الجينوم إلى الجسم مباشرة دون إزالة أي خلايا، مما يقلل التكلفة والوقت. من الناحية التقنية، يعدّ هذا الهدف ضخماً وصعباً. ولكن في حال نجاحه، فإنه سيوفر علاجاً يمكن الحصول عليه من قبل 12-15 مليون شخص في إفريقيا يعانون من مرض فقر الدم المنجلي، حيث لن يتمكن 90% منهم من بلوغ سن 18 عاماً دون الخضوع لتدخلات طبية.
إذا نجح مشروع غيتس، فهل سيكون بمثابة تجربة لمرة واحدة أم نموذجاً للعلاجات المستقبلية؟ إن تطبيق هذا التعاون متعدد القطاعات على شكل نهج معياري لتطوير علاجات يمكن الوصول إليها من شأنه أن يكون أسهل بوجود إشراف دولي، وهو دور يقول البعض إن منظمة الصحة العالمية يمكن أن تقوم به، ولكن العديد يتساءلون أيضاً عما إذا كانت المنظمة على مستوى هذا التحدي.
اقرأ أيضاً: استخدام تقنية كريسبر لمحاولة استعادة البصر عند شخص أعمى
لقاحات كوفيد-19: مثال على عدم المساواة في الرعاية الصحية اليوم
يشهد العالم حالياً مثالاً كارثياً على عدم المساواة في مجال الصحة العالمية. ففي حين تلقى 1% فقط من الأشخاص في البلدان منخفضة الدخل لقاح كوفيد-19، من المرجح أن يبدأ مواطنو الولايات المتحدة بتلقي جرعات داعمة خلال الأشهر المقبلة. منذ بداية الوباء، عملت منظمة الصحة العالمية على تعزيز الوصول العادل إلى لقاحات كوفيد-19 من خلال مبادرات مثل مبادرة كوفاكس، بهدف تقديم جرعات لما لا يقل عن 20% من سكان الدول.
ومع ذلك، لم تلق تلك الجهود سوى القليل من النجاح. فقد كان ادخار اللقاحات في البلدان ذات الدخل المرتفع بمثابة عقبة كبيرة أمام مبادرة كوفاكس. كما تعثّر الحصول على اللقاحات العالمية بسبب عدم رغبة الدول في الموافقة على التنازل المؤقت عن حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بلقاحات كوفيد-19 والتقنيات ذات الصلة بها.
لقد أظهر الوباء العالمي بوضوح ضرورة وجود منظمة يمكنها أن تكون بمثابة القائد الأخلاقي، لتحافظ على صحة جميع المواطنين وعافيتهم. سعت منظمة الصحة العالمية إلى القيام بذلك على مدار الأشهر الثمانية عشر الماضية. والآن، تدعو اللجنة الاستشارية لمنظمة الصحة العالمية المنظمة إلى لعب دور قيادي "أخلاقي" مماثل في مجال تعديل الجينوم، لكن اللقاحات موجودة منذ أكثر من قرن وتختلف اختلافاً جذرياً عن تعديل الجينوم، الذي يمثل تقنية تنطوي على الكثير من الأمور المجهولة.
يعتبر الإشراف على التقنيات الناشئة خارج نطاق المهمة الأساسية لمنظمة الصحة العالمية، ولكن هذه الوظيفة بدأت بالتغير. تقوم منظمة الصحة العالمية حالياً بمساعدة البلدان في تقييم كيفية تأثير التقنيات الناشئة على عافية مواطنيها، ويمكن القول إن تقنيات تعديل الجينات هي إحدى أهم التقنيات الجديدة لمواجهة التحديات المتعلقة بالصحة. وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية لا تزال في بداية طريقها الوعر للتقنيات الناشئة، فقد تكون هي المنظمة الأفضل لمساعدة المجتمع على توجيه بوصلته الأخلاقية نحو المساواة في مجال الصحة العالمية.
ينطوي جزء من هذه العملية على عقد اجتماعات مع الحكومات وصانعي السياسات، وتوقع العواقب المحتملة لتعديل الجينوم على المساواة في مجال الصحة وتوضيحها، وتعزيز التعاون المبتكر لضمان استفادة الجميع من علاجات تعديل الجينوم. تعرضت البلدان منخفضة الموارد للإهمال خلال جائحة كوفيد-19. وعلينا أن نتأكد من أن اختلاف المناطق الجغرافية لن يعيق الحصول على فوائد علاجات تعديل الجينوم في المستقبل.
مجلة "فيوتشر تنس" هي شراكة بين مجلة "سليت" (Slate) ومركز التفكير "نيو أميركا" (New America) وجامعة أريزونا ستيت، وهي تتمعن في القضايا المتعلقة بالتكنولوجيات الناشئة والسياسات العامة والمجتمع.