ما مصير حوسبة الحمض النووي اليوم وغيرها من بدائل السيليكون؟

5 دقائق
بدائل رقاقات السيليكون في الحوسبة
حقوق الصورة: بوليستا/ شترستوك.

عندما تم تصنيع أول ترانزستور، في عام 1947، لم يكن أحد ليتخيل التأثير النهائي لهذا الجهاز، المفتاح الذي أصبح يشكل قلب الرقائق المنطقية. علينا أن نشكر السيليكون بسبب استحواذه المذهل على عالم الحوسبة، فيكفي إضافة قليل من الشوائب إلى السيليكون، حتى يشكل مادة تكاد تكون مثالية للترانزستورات في الرقائق الحاسوبية.

لأكثر من خمسة عقود، قام المهندسون بتقليص الترانزستورات القائمة على السيليكون مراراً وتكراراً، ما أدى إلى تصنيع أجهزة حاسوبية أصغر حجماً وأسرع وأكثر كفاءة في استخدام الطاقة في أثناء العمل. لكن سلسلة الانتصارات التكنولوجية الطويلة، وعمليات التصغير التي ساهمت في تحقيقها، لا يمكن أن تستمر إلى الأبد.

يقول نيكولاس مالايا، أحد علماء الحوسبة في شركة "إيه إم دي" (AMD) في ولاية كاليفورنيا: "نحن في حاجة إلى تكنولوجيا للتغلب على السيليكون، فقد بدأنا نواجه قيوداً هائلة".

فما هو شكل التكنولوجيا التي ستشكل بدائل السيليكون؟

لم يكن هناك نقص في أساليب الحوسبة البديلة التي تم اقتراحها على مدار الخمسين عاماً الماضية، ونذكر فيما يلي خمساً من الأساليب الجديرة بالذكر، حيث حظيت كلها بالكثير من الضجة والترويج، إلا أنها هُزمت أمام السيليكون. ولكن ربما ما يزال هناك أمل بالنسبة لها.

الإلكترونيات الدورانية

يتمحور عمل الرقائق الحاسوبية حول استراتيجيات للتحكم في تدفق الإلكترونات، وبشكل أكثر تحديدًا، للتحكم في شحنتها.
لكن الإلكترونات، تمتلك بالإضافة إلى الشحنة، زخماً زاوياً (أو لفاً ذاتياً) يمكن التحكم فيه بواسطة المجالات المغناطيسية.

ظهرت الإلكترونيات الدورانية في الثمانينيات، مدفوعة بالفكرة القائلة بأن ⁧⁩اللف الذاتي يمكن استخدامه لتمثيل البتات⁧⁩: حيث يمكن لأحد اتجاهي اللف أن يمثل الرقم 1، فيما يمثل الاتجاه الآخر الرقم 0.

من الناحية النظرية، يمكن صنع ترانزستورات الإلكترونات الدورانية بحجم صغير، ما يسمح بالحصول على رقائق مكتظة بالعناصر الإلكترونية. ولكن من الناحية العملية، كان من الصعب العثور على المواد المناسبة لبناء هذه العناصر. يقول الباحثون إنه ما يزال هناك حاجة للكثير من العمل في مجال علوم المواد الأساسية. ومع ذلك، فقد تم تسويق تكنولوجيات الإلكترونيات الدورانية في عدد قليل من المجالات المحددة للغاية، كما يقول جريجوري فوكس، عالم الفيزياء التطبيقية في جامعة كورنيل في مدينة إيثاكا بولاية نيويورك.
بدائل رقاقات السيليكون في الحوسبة
الإلكترونيات الدورانية

 

حتى الآن، كان أكبر نجاح حققته الإلكترونيات الدورانية هو الذاكرة غير المتطايرة، وهو النوع الذي يمنع فقدان البيانات في حالة انقطاع التيار الكهربائي. وقد بدأ إنتاج الذواكر من النوع STT-RAM (وهو اختصار بالإنجليزية يشير إلى ذاكرة الوصول العشوائي بتأثير عزم دوران انتقال اللف الذاتي) منذ 2012 ويمكن العثور عليها في مرافق التخزين السحابية.

اقرأ أيضاً: آي بي إم تبني مختبراً جديداً لصناعة الأدوية بالكامل عن بُعد عبر السحابة

المقاومة الذاكرية

تعتمد الإلكترونيات التقليدية على 3 مكونات: المكثف الكهربائي، والمقاوم الكهربائي، والمحث. في العام 1971، وضع المهندس الكهربائي ليون تشوا نظرية لمكون رابع أطلق عليه اسم "ميمرستور" وهو اختصار لعبارة: مقاومة الذاكرة.

وفي العام 2008، قام الباحثون في شركة "هيوليت-باكارد" (Hewlett-Packard) ⁧⁩بتطوير أول نموذج عملي من الميمرستور⁧، وذلك باستخدام ثاني أكسيد التيتانيوم. لقد كان الأمر مثيراً لأن الميمرستورات يمكن استخدامها نظرياً من أجل كلا نوعي العمليات المتعلقة بالذاكرة والمنطق، حيث "تتذكر" الأجهزة آخر قيمة للجهد الكهربائي تم تطبيقها، وبالتالي فهي تحتفظ بالمعلومات حتى في حال تم إيقاف تشغيلها. وهي تختلف أيضاً عن المقاومات العادية في أن مقاومتها يمكن أن تتغير اعتماداً على مقدار الجهد المطبق..

بدائل رقاقات السيليكون في الحوسبة
المقاومة الذاكرية

 

يمكن لهذا التعديل أن يستخدم في إنجاز عمليات منطقية، فإذا تم إجراؤه ضمن ذاكرة حاسوبية، فيمكن لهذه العمليات أن تقلل من مقدار البيانات التي يجب نقلها بين الذاكرة والمعالج. وقد ظهرت الميمرستورات لأول مرة تجارياً كعناصر للتخزين غير المتطاير، حيث أُطلق عليها اسم RRAM أو ReRAM، وهو اختصار بالإنجليزية للعبارة: "ذاكرة وصول عشوائي مقاومية".

لكن هذا المجال ما يزال يمضي قدماً، ففي العام 2019، طور الباحثون رقاقة ميمرستور-5,832 يمكن استخدامها في الذكاء الاصطناعي.

اقرأ أيضاً: إحدى الخوارزميات الكمومية الهامة قد تمثل خاصية من خواص الطبيعة

⁩الأنابيب النانوية الكربونية

لا يعتبر الكربون نصف ناقل مثالي. ولكن في ظل الظروف المناسبة، يمكن صنع أنابيب نانوية ممتازة، فقد ⁩صُنعت الأنابيب النانوية الكربونية لأول مرة على شكل ترانزستورات ⁧⁩في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأظهرت الدراسات أنها يمكن أن تكون أكثر كفاءة في استخدام الطاقة من السيليكون ⁧⁩بعشر مرات⁧.

في الواقع، من بين الترانزستورات الخمسة البديلة التي تمت مناقشتها في هذا المقال، قد تكون الأنابيب النانوية الكربونية الأبعد منالاً من غيرها. ففي عام ⁧⁩2013⁧⁩، بنى باحثو ستانفورد أول حاسوب عملي ⁧⁩يعتمد بالكامل على ترانزستورات الأنابيب النانوية الكربونية⁧، وإن كان بسيطاً. لكن الأنابيب النانوية الكربونية تميل إلى الالتفاف على شكل كرات صغيرة وتتجمع معاً مثل السباغيتي. علاوة على ذلك، فإن معظم أساليب الإنشاء والتركيب التقليدية تصنع الأنابيب النانوية نصف الناقلة والمعدنية في مزيج فوضوي. يبحث علماء ومهندسو المواد عن طرق لتصحيح هذه العيوب والتغلب عليها.
بدائل رقاقات السيليكون في الحوسبة
الأنابيب النانوية الكربونية

 

في العام 2019، استخدم باحثو جامعة إم آي تي تقنيات محسّنة ⁧⁩لصنع معالج صغريّ بسعة 16 بت مع أكثر من 14,000 من ترانزستورات الأنابيب النانوية الكربونية.⁧ ما يزال هذا الإنجاز بعيداً كل البعد عن تصنيع رقاقة سيليكون تحتوي على ملايين أو مليارات الترانزستورات، ولكنه يبقى تقدماً رغم كل شيء.

اقرأ أيضاً: شركة ناشئة تروّج لخدمة “حفظ العقل”

حوسبة الحمض النووي

في العام 1994، تمكن ليونارد أديلمان، وهو عالم في مجال الحاسوب في جامعة كاليفورنيا الجنوبية بمدينة لوس أنجلوس، من صنع حاسوب مكون من حساء الحمض النووي، حيث أظهر أن بإمكان الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) أن يتجمع ذاتياً في أنبوب اختبار لاسستكشاف جميع المسارات الممكنة في مسألة شهيرة تعرف باسم "البائع المتجول". وقد توقع الخبراء أن حوسبة الحمض النووي سوف ⁧⁩تتغلب⁧⁩ على التكنولوجيا القائمة على السيليكون، خاصة بوجود حوسبة متوازية ذات قدرات هائلة.

في وقت لاحق، خلص الباحثون إلى أن حوسبة الحمض النووي لا تتمتع بالسرعة الكافية للقيام بذلك. لكن الحمض النووي يتمتع ببعض المزايا الإيجابية. فقد أظهر باحثون أنه من الممكن ترميز ⁧⁩الشِّعر⁧⁩، و⁧الصور من نوع "جيف" (GIF)، والأفلام الرقمية⁧⁩ على شكل جزيئاتk والكثافة المحتملة مذهلة، حيث قدر ⁧مهندسون بيولوجيون⁧⁩ من جامعة إم آي تي في ورقة في وقت سابق من هذا العام أنه يمكن تخزين جميع البيانات الرقمية في العالم في كوب من القهوة مليء بالحمض النووي.

بدائل رقاقات السيليكون في الحوسبة
حوسبة الحمض النووي

 

ما يهم هو التكلفة: حيث قال أحد المؤلفين المشاركين في وقت لاحق إن تصنيع الحمض النووي يجب أن يكون أرخص بمليون مرة لكي ينافس الشريط المغناطيسي. ما لم يتمكن الباحثون من تخفيض تكلفة التخزين بالاعتماد على الحمض النووي، فإن مادة الحياة ستبقى عالقة ضمن حدود الخلايا.

اقرأ أيضاً: كيف يغير الذكاء الاصطناعي من طبيعة الحواسيب؟

⁩الإلكترونيات الجزيئية

إنها رؤية مقنعة: فالترانزستورات تصبح أصغر فأصغر، فلماذا لا نمضي قدماً و⁧⁩نصنعها من الجزيئات الفردية⁧؟ فالقواطع الكهربائية ذات المقياس النانومتري ستؤدي إلى الحصول على رقاقة فعالة من حيث التكلفة ومكتظة بالعناصر الإلكترونية. قد تكون الرقائق قادرة حتى على تجميع نفسها بفضل ⁧التفاعلات التي تحدث بين الجزيئات⁧، حيث تسابقت المجموعات في "هيوليت-باكاراد" وشركات أخرى في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لجعل الكيمياء والإلكترونيات يعملان معاً.

ولكن وبعد عقود من العمل، ما يزال حلم الإلكترونيات الجزيئية كما هوفقد وجد الباحثون أن الجزيئات المفردة يمكن أن تكون شديدة الخصوصية، وتعمل كترانزستورات في ظل ظروف ضيقة جداً فقط. يقول ريتشارد ماكريري، الكيميائي في جامعة ألبيرتا: "لم يثبت أحد كيف يمكن دمج الأجهزة أحادية الجزيء بشكل موثوق به في الإلكترونيات الدقيقة للمعالجة المتوازية الفائقة". إن حلم الإلكترونيات الجزيئية ما زال أمامه بصيص من الأمل، ولكنه هذه الأيام مقتصر على مختبرات الكيمياء والفيزياء إلى حد كبير، حيث ⁧⁩يواصل الباحثون الكفاح للتوصل إلى سلوك الجزيئات المتقلبة إلى ما لا نهاية⁧⁩.
بدائل رقاقات السيليكون في الحوسبة
الإلكترونات الجزيئية

 

اقرأ أيضاً: باحثون يتمكنون من استخدام الرياضيات في تسهيل قياس شكل البروتينات

ماذا بعد؟

ما يزال السيليكون هو السائد، ولكن الوقت ينفد بالنسبة لأنصاف النواقل المفضلة لدى الجميع. تشير أحدث نسخة من ⁧⁩خارطة الطريق الدولية للأجهزة والأنظمة (اختصاراً: IRDS)⁧⁩ إلى أنه من المتوقع للترانزستورات أن تتوقف عن الانكماش بعد عام 2028، وأنه ستكون هناك حاجة إلى تجميع الدارات المتكاملة في بنية ثلاثية الأبعاد للحفاظ على إمكانية صنع رقاقات أسرع وأكثر كفاءة. قد يكون هذا هو الوقت الذي تجد فيه أجهزة الحوسبة الأخرى فرصة لها، ولكن ذلك مرتبط مع تكنولوجيا السيليكون.

يستكشف الباحثون طرقاً هجينة لصناعة الرقاقات، ففي العام 2017، قام الباحثون الذين أحرزوا تقدماً في استخدام ترانزستورات الأنابيب النانوية الكربونية بدمجها مع طبقات من الميمرستورات غير المتطايرة وأجهزة السيليكون، وهو نموذج أولي لنهج يسعى إلى تحسين السرعة واستهلاك الطاقة في مجال الحوسبة من خلال الابتعاد عن المعماريات التقليدية. يقول مالايا من «إيه إم دي» إن رقاقات السيليكون الكلاسيكية ستواصل إحراز بعض التقدم. ولكنه يضيف قائلاً: «أعتقد أن المستقبل سيكون غير متجانس، حيث تستخدم جميع التكنولوجيات على الأرجح بطريقة مكملة للحوسبة التقليدية».

بعبارة أخرى، سيظل المستقبل من نصيب السيليكون. ولكنه سيشهد أشياء أخرى أيضاً.

 

المحتوى محمي