عندما ننظر إلى العالم من حولنا، نرى أنماطاً؛ فالشمس تشرق وتغرب، وفصول السنة تتبدل، والأبراج تتدفق عبر سماء الليل. أثناء دراستنا لهذه الأنماط، قمنا بتطوير قوانين ونظريات علمية تساعدنا على فهم الكون. ورغم أن نظرياتنا مدعومة بأدلة علمية قوية، إلا أنها لا تزال متجذرة في بعض الافتراضات الأساسية. ولعل أحد أهم هذه الافتراضات يتمثل في أن قوانين الفيزياء تسري نفسها في كل مكان. يُعرف هذا الافتراض باسم «الخواص الكونية» (Cosmic Isotropy)، ويسمح لنا بمقارنة ما نراه في المختبر مع ما نراه على بعد سنوات ضوئية.
وفي حين أن افتراض الخواص الكونية هو افتراض عام، لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع اختباره. إذ عندما أرسلنا مجسات فضائية عبر نظامنا الشمسي، وجدنا أن قوانين الجاذبية والكهرومغناطيسية تسري على الكواكب البعيدة تماماً بالطريقة التي تنطبق فيها على الأرض. لقد أظهرنا أيضاً أن الثوابت الفيزيائية، مثل سرعة الضوء، هي نفسها في مختلف أصقاع الكون. لكن بالرغم من أن افتراض الخواص الكونية هو عمل جيد، إلا أن ذلك لا يعني أنهُ صحيح تماماً، وربما نكون مخطئين في هذا الافتراض.
لأكثر من قرن، افترض علماء الكونيات أن الكون متجانس ويظهر كما هو في جميع الاتجاهات. لكن في السنوات القليلة الماضية، تحدى العديد من الفيزيائيين وعلماء الفلك هذا المبدأ الكوني. وقد جمعت مجموعة من العلماء من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والهند المزيد من الأدلة التي تشير إلى أن توسع الكون في الواقع لا يحدث بالسرعة نفسها في جميع الاتجاهات.
ماذا يعني توسع الكون؟
في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، قام إدوين هابل باكتشاف رائد أكد أن الكون يتوسع. من خلال التلسكوبات، بدت المجرات وكأنها تبتعد عن بعضها البعض. يتفق علماء الفلك عموماً على أنه بعد الانفجار العظيم، توسع الكون بشكل مستمر. التشبيه الشائع هو أن هذا التوسع يشبه رغيف الخبز الذي تتموضع عليه حبات الزبيب؛ عندما يُخبز الخبز، فإن الزبيب (الذي يمثل الأجسام الكونية مثل المجرات وعناقيد المجرات "وهي أكبر الهياكل في الكون مرتبطة ببعضها البعض بفعل الجاذبية" في الفضاء) يبتعد عن بعضه بعضاً، بينما تمدد الرغيف بأكمله (هو الفضاء). مع وجود مزيج متساوٍ، يجب أن يكون التمدد منتظماً في جميع الاتجاهات، كما ينبغي أن يكون مع كون متماثل.
بعد ما يقرب من سبعة عقود، توصلت مجموعتان بحثيتان مستقلتان إلى أن كوننا يتوسع بوتيرة متسارعة.
اقرأ أيضاً: باحثون عرب يقترحون نظرية جديدة لنشأة الكون بديلة للانفجار العظيم
هل تباطأ التمدد الكوني؟
لاحظت المجموعتان، بقيادة ساول بيرلماتر وآدم وريس وبريان شميدت، أن المستعرات العظمى البعيدة من النوع a1، (وهي النجوم فائقة الكتلة التي نفد وقودها وانفجرت)، تمتلك سطوعاً ثابتاً. ومن خلال دراسة الضوء المنبعث من هذه الأجسام، قدر علماء الكونيات مدى بعدها في الفضاء.
بدمج هذه المعلومات مع الانزياح نحو الأحمر، أي التغير في الطول الموجي للضوء المنبعث بسبب تأثير دوبلر، توصلوا إلى مدى سرعة توسع الكون. أثناء القيام بهذا التمرين، اكتشف الفريق أمراً مفاجئاً: الضوء المنبعث من هذه المستعرات العظمى كان أضعف مما توقعوا. وقد فَسَّروا ذلك بأن الكون يتمدد بشكل أسرع من المتوقع.
وجد بيرلماتر وريس وشميدت، أن الطريقة الوحيدة لشرح اختلاف القياسات هي أن تمدد الكون يزداد سرعة. وهذا يعني أن شكلاً غامضاً من الطاقة، يسمى الطاقة المظلمة، كان يقود هذا التمدد المتسارع لكوننا.
تخيل أنك تقود سيارتك على الطريق، وفجأة أوقفت محرك سيارتك. ستستمر سيارتك في التحرك لمسافة ما ثم تتوقف. كان الاعتقاد السائد هو أن امراً مماثلاً حدث مع تمدد الكون. بعد فترة وجيزة من نشأته بعد الانفجار العظيم، خضع لفترة من التوسع السريع، تسمى التضخم الكوني (نظرية شائعة لكننا لم نجد دليلاً مباشراً عليها بعد).
هذا التضخم هو المحرك. منذ أن انتهت حقبة التضخم، يجب أن يتباطأ تمدد الكون لأن الجاذبية كانت "تضغط على المكابح" عن طريق شدّ المادة الكونية نحو بعضها بعضاً. ولكن إذا كان الكون يتوسع بشكل أسرع حتى اليوم، أي إذا كانت سيارتك تتسارع لفترة طويلة بعد أن تم إيقاف تشغيل المحرك، لابد أن يكون هناك شيء ما يدفعها. يطلق علماء الفيزياء الفلكية على هذا الشيء اسم الطاقة المظلمة.
لقد افترضنا أيضاً أن تسارع تمدد الكون هو نفسه في كل مكان؛ بغض النظر عن المكان الذي تنظر إليه في السماء، يجب أن نرى الأشياء تخضع لنفس قواعد التمدد في أي مكان آخر. بمعنى يجب أن يتسارع تمدد الكون بالمعدل نفسه في جميع الاتجاهات. ضع في اعتبارك، يوجد الكثير من الأدلة وراء افتراض التناظر هذا، بما في ذلك أول ضوء يمكننا رؤيته في الكون، والذي يسمى الخلفية الكونية الميكروية (CMB). يعبر CMB عن حالة الكون في أيامه الأولى، عندما كان بعمر 380 ألف عام فقط. يظهر توزيع CMB في تلك الأيام الأولى متجانساً بنفس السطوع بغض النظر عن المكان الذي ننظر إليه، لذا فهو مؤشر جيد على أن الكون متناظر بالفعل.
ما الذي يخبرنا به اختلاف معدل توسع الكون في الاتجاهات المختلفة عن تناظره؟
عمل بعض علماء الفلك على اختبار هذا التناظر في تسارع تمدد الكون. كانت أولى الاختبارات الحقيقية في عام 2008؛ حيث أجرى مايك هدسون وآخرون أبحاثاً حول التدفقات الكونية (مصطلح يقوم بوصف مكون غير عشوائي محتمل للسرعة الغريبة لعناقيد المجرات. السرعة المقاسة الفعلية هي مجموع السرعة التي تنبأ بها قانون هابل، بالإضافة إلى انحرافات محتملة صغيرة وغامضة غير مفسرة تتدفق في نفس الاتجاه، تسمى انحرافات سرعة عناقيد المجرات عن مجرى هابل الكلي "السرعة الغريبة") والبنية واسعة النطاق. كان هؤلاء الباحثين في مسعى للإجابة عن سؤال طويل الأمد حول أصل السرعة الغريبة التي تقارب 600 كم/ثانية لمجموعة المجرات المحلية. ولكن اكتشف هؤلاء العلماء أن الجزء الخاص بنا من الكون، على مسافة 400 مليون سنة ضوئية، لا يتمدد بشكل موحد في جميع الاتجاهات كما هو متوقع. إنه يتوسع في نصف السماء بشكل أسرع من النصف الآخر.
لم تنل هذه النتائج في حينها اهتماماً بالغاًً، حتى مع توصل فريق بحثي آخر في مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا في جرينبيلت بولاية ماريلاند لنفس النتائج. وجد فريق ناسا مستقلاً أن 700 مجموعة مجرات بعيدة يتم سحبها جميعًا في نفس الاتجاه. والذي وصفه هدسون في حينها بأنه اكتشاف مثير للاهتمام، وأن اتجاه التدفق يتفق مع الاتجاه الذي توصل إليه فريقه.
توالت النتائج التي تؤيد هذه المشاهدات، وكان أبرزها في عام 2020، دراسة حديثة باستخدام بيانات من مرصد تشاندرا للأشعة السينية (Chandra X-ray) التابع لناسا، وإكس إم إم نيوتن (XMM Newton) التابع لوكالة الفضاء الأوروبية. قام علماء الفلك بالاعتماد على بيانات الأشعة السينية من هذه المراصد المدارية، بدراسة مئات من مجموعات المجرات، وهي أكبر الهياكل في الكون مرتبطة ببعضها بعضاًبفعل الجاذبية، ودراسة كيفية تباين خصائصها الظاهرية عبر السماء.
قام العلماء بالاعتماد على بيانات الأشعة السينية التي حصلوا عليها من تلك المراصد المدارية، باختبار أكثر من 800 عنقود مجري، ودراسة كيفية تباين خصائصها الظاهرية عبر السماء. وقد كان العلماء قد أجروا في السابق العديد من الاختبارات لمعرفة ما إذا كان تمدد الكون هو نفسه في جميع الاتجاهات. وشمل ذلك استخدام عمليات الرصد الضوئي للنجوم المتفجرة ودراسات الأشعة تحت الحمراء للمجرات. قدمت بعض هذه الجهود السابقة أدلة محتملة على أن الكون ليس متناظر.
ولكن هذا الاختبار الأخير يستخدم تقنية قوية وجديدة ومستقلة. إنها تستفيد من العلاقة بين درجة حرارة الغاز الساخن المنتشر في العناقيد المجرية وكمية الأشعة السينية التي تنبعث عنها والمعروفة باسم سطوع الأشعة السينية للعنقود. كلما ارتفعت درجة حرارة الغاز، زاد سطوعالأشعة السينية. بمجرد قياس درجة حرارة الغاز العنقودي، يمكن تقدير توهج الأشعة السينية.
اقرأ أيضاً: هل يعني توسع الكون أن الكواكب ستكف عن الدوران حول النجوم؟
اختلافات كبيرة في خصائص المجموعات المجرية تقود إلى التشكيك في الخواص الكونية
قال كونستانتينوس ميغاس من جامعة بون في ألمانيا، والذي قاد الدراسة الجديدة، "بحثنا مع زملائنا من جامعة هارفارد، في سلوك أكثر من 800 مجموعة مجرية في الكون الحالي. إذا كانت فرضية الخواص الكونية صحيحة، فإن خصائص العناقيد ستكون موحدة عبر السماء. لكننا رأينا بالفعل اختلافات كبيرة، وقد لا يكون توسع الكون هو نفسه في جميع الاتجاهات".
استخدم علماء الفلك قياسات درجة حرارة الأشعة السينية للغاز شديد الحرارة الذي ينتشر في العناقيد، وقارنوا البيانات بمدى سطوع العناقيد في السماء. يُفتَرض أن تظهر مجموعات العناقيد التي من نفس درجة الحرارة والتي تقع على مسافات متماثلة بنفس درجة التوهج. لكن ليس هذا ما لاحظوه. لقد رأوا أن المجموعات التي لها نفس الخصائص (من درجة حرارة ومسافة) بدت أقل سطوعاً في اتجاه واحد من السماء، وأكثر سطوعاً من المتوقع في الاتجاه الآخر. كان الفارق كبيراً، حوالي 30 في المئة.
هذه الاختلافات لم تكن عشوائية ولكن كان لها نمط واضح اعتماداً على الاتجاه. أعطت النتائج للباحثين سرعات تمدد مختلفة، كاشفة أن الكون يبدو أنه يتحرك بعيدًا عنا أسرع في بعض الاتجاهات من الاتجاهات الأخرى.
وضح كونستانتينوس في مدونته بأنهم قاموا بوضع الاحتمالات التي من شأنها ان تؤثر على ملاحظاتهم وقد تحرف نتائجهم، وهذا ملخص لما جاء فيها:
الاحتمال الأول: قد يحجب الغاز والغبار خارج مجرتنا بعض الأشعة السينية من جزء واحد من السماء مما يجعل العناقيد تبدو باهتة في هذا الاتجاه. أجرينا العديد من الاختبارات التي أدت بنا إلى الاعتقاد بأن هذا السيناريو يبدو غير مرجح، لكنه ليس مستحيلًا، ويستحق المزيد من الدراسة.
الاحتمال الآخر: هو أن يقوم أحد العناقيد العملاقة، أكبر الهياكل في الكون والتي تمتد لمئات الملايين من السنين الضوئية، بفعل جاذبيته بسحب العناقيد التي في نفس الاتجاه إليه، مما يضيف المزيد من السرعة إليها ويفسد حسابات الانزياح نحو الأحمر.
نفترض أن هذه السرعات "المحلية" للعناقيد، بالإضافة إلى سرعات تمدد الكون، هي صغيرة وعشوائية وأنها غير مهمة بشكل عام، ولكن لا يمكننا استبعاد ذلك، وهناك حاجة إلى مزيد من عمليات الرصد لمعرفة حجم التأثير الذي قد تتسبب به هذه العناقيد. وفي ردهم على الاعتراض القائل بأن التباين ينشأ بسبب حركة الأرض بسرعة 369 كم/ثانية فيما يتعلق بالإطار المرجعي الذي يكون فيه الكون متناظر قاموا بنشر دراسة أخرى في هذا العام، ورفضوا فيها هذا التفسير بدلالة إحصائية 4.9 سيجما. هذا يعني أن احتمال أن تكون النتيجة بسبب حركة الأرض هو واحد فقط من 2 مليون.
ومع ذلك، لم يقتنع الجميع. طالب البعض من العلماء بالمزيد من العينات على سبيل المثال
أوصى رينيه لوريج، وهو عالم مشروع يعمل في مهمة إقليدس في وكالة الفضاء الأوروبية، بتكرار الدراسة باستخدام المزيد من مجموعات المجرات.
وقال: "النتائج مثيرة للاهتمام حقًا، لكن العينة المشمولة في الدراسة لا تزال صغيرة نسبيًا لاستخلاص مثل هذه النتائج العميقة". ولكن إذا أردنا حقًا إعادة التفكير في النموذج الكوني المقبول على نطاق واسع، فسنحتاج إلى مزيد من البيانات".
هل سنتمكن من الحصول على مزيد من البيانات ؟
في العام المقبل سيقوم مشروع إقليدس بهذه المهمة حيث سيقوم بمسح جزء كبير من السماء وتصوير مليارات المجرات عبر الكون من أجل تقديم رؤى حول طبيعة اثنين من الألغاز الكونية البارزة: المادة المظلمة والطاقة المظلمة. هذه المهمة ستمكن العلماء من جمع المزيد من البيانات حول طبيعة تمدد الكون، خصائص كمية كبيرة من عناقيد المجرات، وقد تؤدي هذه النتائج إلى دعم أو التشكيك في الادعاء القائل بأن تسارع تمدد الكون قد لا يكون بنفس المعدل في جميع الاتجاهات.