يمكننا تشبيه الرياضيين الروس في أولمبياد طوكيو بطلاب مدرسة يخضعون لعقوبة وتبدو على وجوههم نظرات السخرية والاستهزاء بالمدير بعد أن أدار ظهره، باستثناء أنهم يقضون ما يبدو كأنه عقوبة هزلية على الفضائح غير المنتهية لاستخدام العقاقير المنشطة في بلادهم، وذلك بسبب حرمان روسيا من المشاركة في الألعاب الأولومبية.
يمكن مسامحة المشاهد العادي إذا فاتته حقيقة أنه من المفترض أن تكون روسيا في فترة توقف عن المشاركة في الألعاب الأولمبية. في الدورة الشتوية بمدينة بيونغ تشانغ الكورية الجنوبية في عام 2018، اضطر الرياضيون الروس إلى ارتداء لباس موحد باللون الرمادي لا يحتوي على أي علامات والسير في موكب تحت راية الأولمبياد العامة والاحتفال بانتصاراتهم مع نشيد الأولمبياد الرسمي، أما في دورة طوكيو الحالية، فلباسهم الموحد يحتوي على خطوط عريضة بيضاء وزرقاء وحمراء بنفس ترتيب ألوان العلم الروسي، ويرفعون راية اللجنة الأولمبية الروسية الذي يحمل رسم 3 شعلات بيضاء وزرقاء وحمراء تعلو شعار الأولمبياد بحلقاته الخمس، وعندما يحرزون ميدالية ذهبية يسمعون لحن مقطوعة تشايكوفسكي الشهيرة "كونشرتو البيانو رقم 1" (Piano Concerto No. 1).
حرمان روسيا من المشاركة في الألعاب الأولومبية
لقد تحول الرياضيون الروس من مشاركين حياديين من دولة لا يمكن ذكر اسمها إلى رياضيين يمثلون اللجنة الأولمبية لدولتهم، ومن المثير للاهتمام أن شبكة الإذاعة والتلفزيون الأميركية "إن بي سي" (NBC) استغنت إلى حدّ كبير عن هذه التمثيلية في تغطيتها التلفزيونية، وأشارت إلى الرياضيين الروس على أنهم يمثلون روسيا ببساطة. يحقق رياضيو "اللجنة الأولمبية الروسية" هؤلاء أداءً جيد وهم حالياً في المرتبة الثالثة في إجمالي عدد الميداليات بعد بعثتي الصين والولايات المتحدة على الرغم من أن حجمهما أكبر بكثير.
لكن ينتشر بين العدد الكبير من منافسيهم شعور بعدم الارتياح حول مشاركة روسيا. قال السباح الأميركي رايان مورفي في مؤتمر صحفي بعد أن خسر الميدالية الذهبية لصالح الروسي يفغيني ريلوف:
"يستنزف الأمر عقلي بدرجة كبيرة... أن أسبح في سباق قد لا يكون نزيهاً. هذا يحبطني لكن يجب أن أسبح في المضمار المجاور لمضماري. ليس لدي القدرة على القيام بتدريب ذي مستوى عالٍ جداً لأجل الألعاب الأولمبية ومحاولة إقناع صانعي القرار بأنهم يتخذون قرارات خاطئة".
في مجالات أخرى من الأولمبياد، قالت المشاركة الأميركية في رياضة التجديف، ميغان كالمو، إنها "شعرت بالاشمئزاز لرؤية فريق ليس من المفترض أن يكون مشاركاً يغادر مع ميدالية فضية"، مشيرة إلى الميدالية التي حاز عليها فريق الروسيتين فاسيليسا ستيبانوفا وإلينا أوريابينسكايا، وأثار أحد الصحفيين حفيظة نجم رياضة التنس الروسي دانييل ميدفيديف عندما سأله عما إذا كان يشعر هو والمتسابقون الروس الآخرون أنهم يحملون "وصمة الغشاشين" أينما ذهبوا.
ورداً على تعليقات رايان مورفي بعد فوز ريلوف، نشرت اللجنة الأولمبية الروسية تغريدة على موقع "تويتر" مرافقة لصورة مورفي كُتب فيها:
"يجب أن تعرف كيف تخسر، لكن لا يستطيع الجميع معرفة ذلك. وها نحن ذا، عاد صندوق الموسيقى القديم لتشغيل الأسطوانة القديمة ذاتها عن تناول الرياضيين الروس عقاقير منشطة مجدداً، وهناك من يديرها بجد. يبدو قلق الإنجليز في حربهم الدعائية حول الألعاب الأولمبية في طوكيو واضحاً، وعبرت عنه تعليقات الرياضيين الذين أهانتهم الخسارة. لن نواسيكم، وسنسامح الأضعف فالربّ هو القاضي الذي سيحكم عليهم، وهو معيننا".
نشرت السفارة الروسية في المملكة المتحدة رداً محسوباً أكثر على "تويتر": "إن عواطف الرياضيين مفهومة، لكن تأجيج وسائل الإعلام لها أمر مثير للشفقة".
تعاطي الرياضيين الروس للعقاقير المنشطة
هذه ثالث دورة للألعاب الأولمبية تشارك فيها روسيا منذ أبلغت "الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات" في عام 2016 أن الرياضيين الروس تعاطوا العقاقير المنشطة ما بين عامي 2011 و2015 وفق برنامج مدروس بإشراف السلطات الروسية. (شملت الفترة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في لندن عام 2012 والدورة الشتوية في سوتشي عام 2014). كشف التحقيق أن المسؤولين استبدلوا على نحو منظم عيّنات بول الرياضيين الروس الذين تعاطوا المنشطات بعينات نظيفة، وبالنتيجة تم حرمان روسيا من المشاركة في الألعاب الأولومبية وحُرم أكثر من 100 رياضيّ روسيّ من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2016 في ريو البرازيلية، ودخلت القيود التي تفصل مشاركة الرياضيين الفرديين عن المشاركة الروسية حيز التنفيذ وشملت الدورة التي أقيمت في بيونغ تشانغ. لتجنب تمديد هذا الحرمان، أقرّ الكرملين بالتلاعب بالمنشطات (على الرغم من أنه لم يقرّ على الإطلاق بإشراف الدولة على برنامج المنشطات) وسمح لـ "الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات" بالحصول على بيانات الاختبارات من مختبر مدينة موسكو، ومع ذلك بدا أنه تم العبث ببعض المعلومات. لذلك في عام 2019 حُرمت روسيا من المشاركة في الألعاب الأولمبية لأربعة أعوام أخرى.
لكن الأهم هو أن محكمة التحكيم الرياضية انحازت العام الماضي لجانب روسيا في استئنافها الذي بني على عدة أسباب، وخفضت مدة الحرمان إلى عامين وخففت كثيراً من القيود المفروضة على الرياضيين الروس.
في دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في مدينة ريو البرازيلية، سُمح لـ 271 رياضياً فقط (أي 70% من الفريق الأصلي) بالمشاركة، لكن البعثة الروسية في الدورة المقامة في طوكيو أكبر بكثير، إذ إنها تضم 335 رياضياً. يختلف عدد الرياضيين الذين يشملهم الحرمان بناء على نوع الرياضة والاتحاد الذي يحكمها، وهذا الأسبوع مع احتلال سباقات المضمار والميدان مركز الصدارة في دورة الألعاب ستصبح عقوبة روسيا واضحة أكثر مع وضع "الاتحاد الدولي لألعاب القوى" حدّاً أعلى لعدد الرياضيين المشاركين يبلغ 10 رياضيين فقط.
تمثلت أكبر خدمة قدمتها محكمة التحكيم الرياضية لروسيا عندما غيرت العقوبات التي يتعين عليها مراقبتها في منح فريقها تسمية "روك" (ROC) التي تعني اللجنة الأولمبية الروسية. فقد أتاحت بهذا الاسم مجالاً كبيراً لإبداع روسيا في حربها الدعائية، على الرغم من أن ذلك قد لا يكون واضحاً.
سرعان ما حول المسؤولون الروس الاسم إلى الكلمة المماثلة لها باللفظ (ROCK) (بمعنى يهزّ)، وأطلقت المنتجة العامة في القناة الرياضية الحكومية "ماتش تي في" (Match TV)، تينا كانديلاكي، حملة على وسائل التواصل الاجتماعي مع وسم #WeWillROCYou (وي ويل روك يو) إشارة إلى أغنية فرقة كوين الشهيرة التي تحمل نفس الاسم (We Will Rock You) بمعنى "سوف نهزّ عالمكم". كتبت كانديلاكي على صفحتها على إنستغرام: "الألعاب الأولمبية هي المكان الذي سنثبت للعالم من خلاله من هو الشعب الروسي، كل هذه الإهانات وحرمان "الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات" لنا من المشاركة بالأولمبياد ليست سوى حافز لنا".
الدوافع السياسية للعقوبات
يقول الاتجاه الرسمي في روسيا إن كل هذه العقوبات المتعلقة بالألعاب الأولمبية لها دوافع سياسية وهي جزء لا يتجزأ من تحرك جغرافي استراتيجي أكبر من جانب الغرب لحرمان روسيا من المكانة التي تستحقها في العالم. في عام 2019، قال رئيس الوزراء آنذاك، دميتري ميدفيديف، عن حرمان روسيا من المشاركة في الألعاب الأولمبية إنها "هستيريا معاداة روسيا المزمنة"، وهي نفس الرسالة التي يتلقاها الروس من الإعلام الحكومي المهيمن على التلفزيون الروسي. ازداد انتشار وسم "وي ويل روك يو" بعد أن روج له وزير الخارجية سيرغي لافروف في أحد خطاباته، حيث قال عن أغنية فرقة كوين "سوف نهزّ عالمكم" إنها أميركية (على الرغم من أنها بريطانية) وقال إن العنوان الحالي للفريق الروسي يحفز الرياضيين لتحقيق الفوز. كما صنعت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية التي تعمل تحت إدارة لافروف، مقطع فيديو أقلّ ما يمكن أن نقول عنه هو إنه مثير للجدل، في البداية كانت تلكم تمثال عرض ألصقت عليه كلمة "صحافة" قبل عقد مؤتمر صحفي، ثم يطرح عليها أحد الصحفيين سؤالاً عن رأيها بالمخاوف الأميركية حول قرصنة روسيا للألعاب الأولمبية (لم تعبر الولايات المتحدة عن مخاوف كهذه في الحقيقة)، فتجيب: "هذا عذر ممتاز لفشل الأميركيين. لكن عليهم ألا ينسوا ربط انتصاراتهم أيضاً بالقراصنة الروس".
حتى الآن، نُشر نحو 16,000 منشور على "إنستغرام" بوسم "وي ويل روك يو" (#WeWillROCYou)، وعلى موقع "تيك توك" سجل الوسم نحو 100 مليون رؤية، وينشر المستخدمون مقاطع فيديو للرياضيين الروس وهم يتلقون الميداليات الذهبية في أولمبياد طوكيو مع تعليق "يمكننا الفوز بالميداليات من دون علم ونشيد وطني". كما قام الدي جيه سماش (DJ Smash) الروسي الشهير بدمج أغنية "سنهز عالمكم" (We Will Rock You) مع مقطوعة "كونشرتو البيانو رقم 1"، واستخدم كثير من الروسيين هذه المقطوعة كموسيقى تصويرية لمقاطع الفيديو التي يصنعونها.
حتى إن الروسيين استخدموا الوسم خارج الإنترنت، فقد ظهر بشكل رسوم (غرافيتي) على جدران المباني في كبرى المدن الروسية. يصور أحد الرسومات التي تم تصويرها في مدينة موسكو رياضياً روسيّاً يصرع منافساً يحمل شعار "الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات" على لباسه. من المرجح أن تكون السلطات الروسية وراء هذه الرسومات، إذ تتم إزالة جميع الرسومات التي لا توافق عليها الدولة بسرعة (مثل صورة قائد المعارضة أليكسي نافالني). بالإضافة إلى أن موقع "سبورتس.آر يو" (Sports.ru) توصل إلى أن معظم المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي بوسم "وي ويل روك يو" تعود إلى حسابات مرتبطة بالحكومة.
بغضّ النظر عن الجهد الذي يبذله الكرملين لإذكاء الروح الوطنية بوحي من الألعاب الأولمبية (كما تفعل حكومات أخرى كثيرة)، فالروس كغيرهم من الشعوب ليسوا بحاجة إلى ما يحثهم على الالتفاف حول رياضيهم وتشجيعهم. كما أن الطبيعة الهزلية للعقوبات المفروضة عليهم في المنافسة تعمل على التقليل من شأن مخالفتهم الأولى في الرأي العام ودعم الشكاوى الرسمية التي تقول إن النظام العالمي يسعى ببساطة إلى القضاء على روسيا.
وفي نهاية الحديث عن حرمان روسيا من المشاركة في الألعاب الأولومبية، تستمر دورة الألعاب الأولمبية بمشاركة الروس فيها، مع شعور كثير من الأشخاص المنطقيين في روسيا وغيرها من الدول حول العالم أن الرياضيين الروس الذين لم يثبت تعاطيهم للمنشطات قطّ يستحقون فرصة المشاركة في الألعاب الأولمبية بغضّ النظر عن الأخطاء السابقة التي ارتكبها أقرانهم ومن يحكمون الرياضة الروسية.