هل هدف شركة "نيورالينك"هو الوصول لعلاج طبي أم تعزيز القدرات البشرية؟ وماذا عن جهاز إيلون ماسك الجديد الذي يربط بين الدماغ والكومبيوتر؟
عقدت شركة "نيورالينك" التي يملكها إيلون ماسك مؤتمراً في بث مباشر يوم الجمعة عرّفت العالم فيه على 3 حيوانات بدت متشابهة. لكن، ثمة سرّ في أحدهما وكان يسمى غيرترود لأنه كان خجولاً وعنيداً، فقد زُرعت الشركة في دماغه قبل شهرين أحدث نسخة من الجهاز القائم على تقنية الربط بين الدماغ والكمبيوتر (BCI) الذي تصنعه شركة "نيورالينك". كان هذ الحيوان يشبه حيواناً آخر لم يُزرع الجهاز في دماغه، ويشبه حيواناًً ثالثاً زُرع الجهاز في دماغه ثم أُزيل. ومع تجول غيرترود في المكان وتصرفه على نحو طبيعي، رأى المشاهدون عرضاً لنشاط دماغه في الوقت الحقيقي. قال ماسك: "إذا استمرّ الجهاز بالعمل في دماغ غيرترود، وقد استمر بالفعل لمدة شهرين وهو يزداد قوة، فهذه إشارة واعدة بأن هذا الجهاز سيعمل بقوة في دماغ البشر".
شركة "نيورالينك" وأجهزة الربط بين الدماغ والكومبيوتر
على الرغم من امتلاء هذا المؤتمر بالادعاءات المتكلفة والوعود العجيبة، كالقدرة على "تخزين ذكرياتك في نسخة احتياطية واستعادتها" لاحقاً، فمن المؤكد أن شركة "نيورالينك" وغيرها تشهد الآن تطورات حقيقية في أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر. وقد تؤدي عقود من العمل على أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر إلى توفير علاجات جديدة عميقة للمرضى الذين يعانون من إصابات ومشكلات عصبية، كمساعدة المصابين بالشلل على التحكم بالماوس الخاصة بالكمبيوتر مثلاً، أو تحريك طرف صناعي بالتفكير فقط.
تبدو هذه التكنولوجيا بحدّ ذاتها مثيرة للإعجاب، ويمكن أن تجرى عليها تجارب سريرية قريباً، وهذا تحديداً هو سبب ضرورة أخذ ما يكفي من الوقت للتفكير في أهدافها. على الرغم من تأكيد ماسك أن السلامة تحظى بالأهمية القصوى، وهو سبب عرض شركته "نيورالينك" للحيوان غيرترود والحيوان الآخر الذي أُزيل الجهاز من دماغه بأمان، فإن القضايا الأساسية التي تمت مناقشتها في مؤتمر يوم الجمعة كانت تتعلق بالأذى الجسدي والأمان الرقمي. هذه عقبات مهمة في وجه تطوير أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر، لكن هناك أيضاً مخاوف أخلاقية تجنب ماسك التطرق إليها في المؤتمر. وبقي سؤال واحد من دون جواب، وهو: لمن صنعت شركة "نيورالينك" جهازها القائم على تكنولوجيا الربط بين الدماغ والكمبيوتر؟ وما هو الهدف منه؟ وكيف سيغير الاتجاه الذي تسير فيه هذه التقنية؟ وفي حين وجهت شركة "نيورالينك" عدة نداءات لمساعدة أصحاب الهمم من ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها ماسك وفريقه بدأت تجعل هذه النداءات تبدو وكأنها واجهة رقيقة تخفي أحلام تتجاوز الإنسانية.
ما هي شركة "نيورالينك"؟
"نيورالينك" هي واحدة من عدة شركات تعمل على تطوير أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر، ويتمثل أسلوبها في إنشاء نوع جديد من الأقطاب الكهربائية على شكل "شريط" أو "خيط" عصبي، إضافة إلى روبوت جراحيّ يقوم بـ "خياطة" الجهاز داخل الدماغ. يتطلب الانتقال من التجارب على الحيوانات إلى التجارب على البشر موافقة الجهات التنظيمية، ووفقاً لماسك، فإن إدارة الدواء والغذاء الأميركية منحت جهاز شركة "نيورالينك" تسمية "الجهاز الابتكاري"، ما يعني أن الجهاز سيخضع لعملية مراجعة أسرع. استعرض مؤتمر يوم الجمعة تقدماً على صعيدي الجهاز والجرّاح الآلي مقارنة بالصيف الماضي، وباتت التجارب السريرية تلوح في الأفق، لكن لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت الشركة ستحقق هدفها الأولي المتمثل في بدء التجارب البشرية في عام 2020.
والجدير بالذكر أن ماسك قال في بداية المؤتمر إن هدف شركة "نيورالينك" هو: "حلّ مشكلات مهمة في الدماغ والعمود الفقري"، ونوه جرّاح الأعصاب في فريق الشركة إلى أن التجارب السريرية ستجرى على الأشخاص الذين يعانون من إصابات في النخاع الشوكي. وتشير الورقة المفاهيمية التي أصدرتها شركة "نيورالينك" في عام 2019 إلى الأمر ذاته. وفي حين أن الهدف الأولي للتجارب السريرية سيكون مساعدة من يعاني من الشلل في تشغيل الكمبيوتر أو الآلات، أشار ماسك إلى أنه من الممكن أن تستخدم أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر في استعادة حركة الأطراف بعد إصابة النخاع الشوكي. كما تضمن المؤتمر ادعاءات بأن تقنية الربط بين الدماغ والكمبيوتر ستتمكن يوماً ما من مساعدة من يعانون من حالات متفاوتة من العمى والصمم.
بيد أن تعليقات ماسك وفريقه في أثناء المؤتمر الأخير وقبله لم تقتصر بأي حال من الأحوال على مساعدة أصحاب الهمم من ذوي الاحتياجات الخاصة. إذ قال ماسك إنه إلى جانب قدرة جهاز الربط بين الدماغ والكمبيوتر الذي صنعته شركة "نيورالينك" على مساعدة الأشخاص الذين يعانون من ضعف السمع أو البصر، فيمكن أن يسمح لمستخدميه أيضاً بسماع ترددات ورؤية أطوال موجية تتجاوز الحدود الطبيعية لدى البشر، أو أن تقوم ببث الموسيقى إلى أدمغتهم مباشرة. وبالإضافة إلى الأمل في السيطرة على الألم واستعادة الوظائف المفقودة بسبب الشيخوخة، أعرب فريق شركة "نيورالينك" عن طموحاته في السعي لاستخدام جهاز الربط بين الدماغ والكمبيوتر في ممارسة الألعاب الإلكترونية، و"التخاطر" للتواصل على نحو أسرع من الكلام، و"حفظ الذكريات وإعادة عرضها" أو إرسالها إلى "جسد جديد أو إلى جسم إنسان آلي". أصدرت "مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو" ملفاً تعريفياً لمهندس في شركة "نيورالينك" في شهر يوليو/تموز، نُقل فيه قوله إن "تعزيز القدرات البشرية" حتى لدى الأشخاص الأصحاء "هو نتيجة بديهية" لعملهم ولرؤية ماسك.
كما يستمر ماسك بالإشارة إلى أن مخاوفه بشأن هيمنة الذكاء الاصطناعي على البشر هي سبب تطوير أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر. وأوضح أن الهدف بعيد الأمد لشركة "نيورالينك" هو السماح للبشر "بالاندماج" مع الذكاء الاصطناعي لضمان أن يتمكنوا من مواكبته. كما نشر تغريدة في شهر يوليو/تموز يقول فيها: "إذا لم تتمكن من التغلب عليهم، فما عليك إلا الانضمام إليهم: رسالة شركة نيورالينك". وفي مقابلة أجريت في هذا الصيف، ادعى ماسك أنه من الممكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي "أكثر ذكاءً من البشر ... في غضون أقلّ من 5 أعوام"، ما جعل هدف تعزيز القدرات البشرية يبدو ضرورة ملحة. في مؤتمر يوم الجمعة، استمر ماسك بتكرار قوله إن "استخدام أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر من أجل ’التعايش مع الذكاء الاصطناعي‘ قد يكون أهم ما يمكن لهذه الأجهزة تحقيقه".
هذه التعليقات تصعّب معرفة أهداف شركة "نيورالينك". هل هي توفير علاج للمرضى المصابين بأمراض وإصابات عصبية، أم أن تكون رائدة في تعزيز القدرات البشرية؟ إذا كانت أهداف الشركة متمثلة بكليهما، فقد أوضح ماسك في تعليقاته أنه مهتم أكثر بتعزيز قدرات الأصحاء مع معالجة المرضى في نفس الوقت. شركة "نيورالينك" ليست الوحيدة التي تسعى لتحقيق هذا الهدف المزدوج في مجال الربط بين الدماغ والكمبيوتر. خذ مثلاً شركة "فيسبوك"، فهي تحب التحدث عن عملها في صناعة أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر "من أجل مساعدة المرضى الذين يعانون من تلف عصبي على استعادة قدرتهم على الكلام"، وهي قضية نبيلة بحق. لكن في نفس الوقت، للشركة مصلحة كبيرة في منح كثير من مستخدميها الوصول إلى هذه الأجهزة القابلة للارتداء، من دون حصرها بأصحاب الهمم فقط، فذلك سيزيد حجم البيانات التي يتم جمعها عن المستخدمين.
لكن من الضروري معرفة الهدف والمستهدفين من صنع أجهزة التواصل بين الدماغ والكمبيوتر، فذلك سيمكّننا من معرفة من سيكون المستفيداً الأساسي ومن سيكون المستفيد الثانوي من صنع هذه التقنية. وحتى من دون إصدار حكم على استخدام أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر لأغراض تعزيز القدرات البشرية، فإن السعي لتحقيق هذا الهدف وفقاً لمواعيد نهائية صارمة قد يخلق مشكلات بسبب ترك مجتمعات أصحاب الهمم خلف الركب، وعدم التفكير في رفاهية المستخدمين الآخرين (بخلاف تجنب الأذى الجسدي الناجم عن زراعة الجهاز داخل الدماغ).
تأثير أجهزة الذكاء الاصطناعي على أصحاب الهمم
إذا طُوّرت أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر لأغراض العلاج وتعزيز القدرات البشرية معاً، كيف سنحمي مصالح أصحاب الهمم ما أن يمثلوا أقلية في السوق؟ من المحتمل أن تكون هذه المجموعة هي أول من يختبر هذه التقنية ويقدم البيانات اللازمة لتحسينها، لكن التركيز على احتياجاتهم قد يصبح أقل ربحية مع انتشار الاستخدامات غير الطبية لتكنولوجيا الربط بين الدماغ والكمبيوتر. وعندئذ، هل ستبقى مساعدة أصحاب الهمم نقطة التركيز المحورية في نماذج عمل شركة "نيورالينك" وغيرها؟ مع انخفاض النسبة المئوية لمستخدمي تقنية الربط بين الدماغ والكمبيوتر من المرضى أو أصحاب الهمم، هل ستستمر الشركات في منح الأولوية لاحتياجاتهم على حساب مصالح المستهلكين؟
والسؤال الآخر هو: من الذي سيمتلك الكمية الهائلة من "البيانات العصبية" الناتجة عن استخدام أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر العلاجية، وماذا سيحل بهذه البيانات؟ هل يمكن استخدام بيانات المرضى من أصحاب الهمم الذين يستخدمون هذه التقنية للمساعدة في تطوير أدوات لتعزيز القدرات البشرية؟ هل سيكون لهم رأي في ذلك؟ وكما هو الحال مع أجهزة تنظيم ضربات القلب، فمن المحتمل أن يتم تسليم البيانات من أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر إلى سلطات إنفاذ القانون من دون موافقة المستخدم، ما يؤدي إلى مزيد من ممارسات المراقبة على مستخدمي هذه الأجهزة سواء كانت طبية أو غير طبية. تعهد ماسك في المؤتمر الذي عقده في شهر أغسطس/آب بجعل تكلفة جهاز شركته "نيورالينك" ميسورة، علماً أن الحصول على مزيد من البيانات من استخدام المرضى والمستهلكين له على حد سواء سيصب في نهاية المطاف في صالح قدرة شركة "نيورالينك" على تطوير التكنولوجيا الخاصة بها (بالإضافة إلى إمكانية بيع البيانات غير الطبية وتسييلها).
لا يزال لدى شركة "نيورالينك" وغيرها من الشركات المصنعة لأجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر الوقت الكافي لمعالجة هذه القضايا، حتى وإن كان هدفهم بعيد الأمد هو تعزيز القدرات البشرية. ينبغي للشركات أن تتحدث إلى مجموعات المرضى ومجتمعات أصحاب الهمم التي تعهدت بتقديم المساعدة لها، والأهم هو أن تستمع إليهم. إذا كان تطوير أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر يهدف حقاً لمساعدة هذه الفئات، فيجب أن تملك احتياجاتهم وأصواتهم القدرة على التأثير في الاتجاه الذي تسير فيه التكنولوجيا حالياً. كما لا يمكن التعامل مع مجتمعات أصحاب الهمم على أنها كتلة منفصلة، ويجب أن تذكرنا عمليات زراعة قوقعة الأذن دائماً أن استخدام التكنولوجيا العصبية هو مسألة معقدة، وسيكون هناك تفاوت بين المستخدمين في مدى ملاءمة الجهاز لرغباتهم.
نظراً لدور إدارة الغذاء والدواء في الموافقة على أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر، يجب أن تعمل الإدارة مع القطاع ومجموعات أصحاب المصالح من أجل ضمان أن تستمر شركات تقنية الربط بين الدماغ والكمبيوتر بتحديث خدماتها وصيانتها وتقديمها للمرضى والمستخدمين من أصحاب الهمم، حتى بعد أن تبدأ بتقديم أجهزتها للمستهلكين. وبما أن قواعد الخصوصية في قانون إخضاع التأمين الصحي لقابلية النقل والمحاسبة تنطبق فقط على البيانات الصحية، فقد آن الأوان لوضع قواعد جديدة تحمي البيانات العصبية بغضّ النظر عن وجود أغراض صحية منها، وهذا ما حدث بالفعل فيما يخص بيانات الجينوم.
وفي نهاية الحديث عن جهاز إيلون ماسك الجديد، تبدو أجهزة الربط بين الدماغ والكمبيوتر أدوات جديدة قوية قادرة على إنشاء مستقبل خال من الأمراض والإصابات العصبية، لكنها أيضاً قادرة على تغيير حدود القدرات البشرية إلى الأبد. لذا، يجب النظر في أصحاب الأصوات المسموعة والمجازفات التي سنقوم بها كمجتمع بهذا الخصوص.