في المرة القادمة التي تصادف فيها طفلاً صغيراً، اعلم أن لديه فرصة كبيرة لأن يحيا ويشهد حلول القرن الثاني والعشرين. فكيف سيكون حال المكتبات في ذلك الوقت يا تُرى؟ لا أحد يعلم، غير أنه بوسعنا الحديث على الأرجح عما ينبغي أن تكون عليه المكتبات في ذلك المستقبل المتخيل. إليكم توقع عن حال المكتبات في عام 2100.
حال المكتبات في عام 2100
على سبيل المثال، كم سيكون عدد المكتبات آنذاك؟ يمكنني التفكير في إجابتَين جيّدتَين، وآمل أن تكون كلتاهما صحيحة، إضافة إلى إجابة ثالثة سيئة، والتي أرجو أن تكون خاطئة تماماً.
الإجابة الأولى الصحيحة بسيطة، وهي: سيكون هنالك مكتبة واحدة، مكتبة عالمية شاملة متاحة للجميع في كل أنحاء العالم.
ويعني ذلك التصوّر أننا ننظر إلى المكتبات على أنها أماكن لجمع المقتنيات، وهذا ما ستكون عليه فعلاً في أحد جوانبها. ويعتمد النمط القديم للمكتبات على جمع المقتنيات المادية الموزَّعة على نطاق واسع وبطريقة استراتيجية في أماكن محددة، حين تكون المجتمعات أو المؤسسات فيها قادرة على شراء تلك المقتنيات والحفاظ عليها. وإذا كان الاطلاع على "موسوعة بريتانيكا" أمراً جيداً على سبيل المثال، فكان يجب على كل مكتبة أن تشتري دورياً النسخة الأحدث من هذه الموسوعة، وتتدبّر أمرها في التخلّص من النسخة القديمة.
أما الآن، نجد "موسوعة بريتانيكا" ومصادر أخرى للمعلومات متوفّرة على شبكة الإنترنت. ومع هذا، تستمرّ المكتبات في "شراء" (وصار الأمر أشبه بالاستئجار في هذه المرحلة) مثل هذه الأشياء دورياً وبأسعار تشعر أنه مبالغ فيها، في حين يراها الناشرون منخفضة جداً. إن وجود هذا الكمّ الكبير من نُسَخ هذه الموسوعة غير مجدٍ على الإطلاق ومنافٍ للعقل والمنطق. غير أننا نواظب على شراء تلك النسخ على أساس العادة أكثر مما نشتريها بدافع الحاجة الحقيقية. أما الحقيقة الحتمية التي لا بد منها فتكمن في أننا لا نفكر في أسلوب آخر لتمويل عملية شراء مصادر معلومات معقدة ونشرها، إلا من خلال العمل على توزيع التكلفة على أوسع دائرة ممكنة من المؤسسات والمستخدمين.
من الضروري تغيير ذلك الواقع. فبمجرد توفّر موسوعة ما أو كتاب أو صحيفة في شكل رقمي، لا يبقى هنالك أي سبب وجيه يمنع إتاحتها لأكبر عدد ممكن من القرّاء وبالمجان قدر الإمكان، ولا أي سبب مُقنع يمنع امتلاكها وحمايتها مركزياً. وفي الوقت الراهن، ثمة مكتبات جامعية رئيسة ومهمة فيها كنوز وافرة ومذهلة حقاً من المعارف، لكن للأسف، لا يمكننا الوصول إليها. ويعجز معظم الناس الذين يعيشون اليوم على هذا الكوكب عن الوصول إلى منابع المعرفة التي تبدو من المنظور التقني متوفرة على أجهزة هواتفهم الذكية اليوم، وبكل ما تعنيه كلمة اليوم من معنى. أي في غضون الساعة التي تلي لحظة قراءتك هذه السطور، وذلك إذا ما اتّخذ المزوّد قرار إتاحة هذه المنابع للعموم.
وإن كان لا بدّ من التغيير، فسيحدث هذا التغيير. وسنشهد عملية تجميع مقتنيات المكتبات وتعزيز البنية التحتية التقنية اللازمة لإتاحة تلك المقتنيات للعموم. (وبالطبع سيكون هنالك نسخ مكرّرة وأخرى احتياطية، تماماً كما هي عليه الحال اليوم بالنسبة لأمور كثيرة مثل عمليات البحث في موقع "جوجل"، التي تتم استضافتها على خوادم وفي مواقع عديدة، تتقاسم فيما بينها أعباء العمل بطريقة منطقية وشفافة. فمثل هذا التوزيع من شأنه تسريع الخدمة وتحسين عامل المرونة والتأقلم في حالات الكوارث والطوارئ)، فضلاً عن أننا سنشهد ظهور آليات جديدة لتسديد تكلفة الأعمال التي توازي عملية "النشر" في أيامنا هذه، آليات تُتيح للناس إمكانية الدخول الحرّ والمجاني كلياً إلى جميع محتويات هذه المكتبة العالمية.
الإجابة الثانية الصحيحة عن سؤالي الأصلي أكثر تعقيداً بعض الشيء، وهي أنه سيكون هنالك 3 ملايين مكتبة. ومع أن الحسابات الدقيقة لهذا الرقم خارج موضوعنا، إلا أنني حصلت عليه انطلاقاً من تقديرات "رابطة المكتبات الأميركية"، التي تقول بأن اليوم يوجد نحو 119 ألف مكتبة في الولايات المتحدة، واستقراء تطوّر هذا الرقم إذا ما عُمّم على كل سكان العالم في المستقبل. فهنالك أسباب تجعلنا نأمل أن يزداد عدد سكان العالم ببطء ليصل إلى 9 مليارات نسمة في القرن المقبل، وباعتماد نسبة عدد المكتبات إلى عدد السكان التي لدينا في الولايات المتحدة نصل إلى رقم 3 ملايين مكتبة، بحيث تتوفر لدينا مكتبة لكل 3 آلاف نسمة، وهي نسبة تبدو لي جيدة.
المقتنيات المادية للمكتبات
لكن هذه المكتبات ستبدو مختلفة حينئذ. إذ إن مقتنياتها المادية ستكون جميعها مشابهة لما نسميه اليوم "مصنفات خاصة"، وهي المواد الفريدة التي تنفرد بامتلاكها بسبب مكانها الجغرافي أو تاريخها الخاص. ففي ولاية أريزونا، حيث أعمل أميناً لمكتبة الجامعة، نحتفظ في مكتبتنا بمنشورات السيناتور باري جولدووتر ومع أن أحداً لن ينسخ تلك المنشورات مرة أخرى، إلا أنها ستحتفظ بقيمة تاريخية وسنفتخر بها دائماً. وقد نقوم يوماً ما بتحويلها إلى الشكل الرقمي، وحينئذ ما من سبب وجيه يمنعنا من حفظ النسخة الرقمية منها في المكتبة الكونية المركزية وجعلها متاحة للجميع.
ومن المتوقع أن يثابر القرّاء على زيارة هذه الثلاثة ملايين مكتبة للتعرّف على مخطوطاتها ومقتنياتها الفريدة، ولكنهم سيجدون هنالك أكثر بكثير مما يبحثون عنه الآن: أناس أذكياء منخرطون في العمل المعرفي والعمل المجتمعي. وسيتمحور عمل أمناء المكتبات حينئذ حول التدريب والإشراف والتوجيه والتيسير، كما سيكون هنالك أيضاً أعضاء آخرون من الجمهور يبحثون عن المعرفة ويشاركون في التبادل المعرفي وروّاداً للنشاط الروحي ونشاط عالم الأعمال. وستُشكّل المكتبات في المستقبل "المكان الثالث" المثالي للمجتمع الحرّ، ولن تفقد سحرها وقوة جاذبيتها مطلقاً.
ولكن ما مدى ثقتي في صحة الإجابتين الأولى والثانية؟ إنني أتعجّب من نفسي وأنا أقول إنني واثق "إلى حد بعيد". (لأنني كنت أظنني أكثر تشاؤماً من ذلك.) والجيد في الأمر أنني إذا كنت محقّاً، فإن الكثير من الأمور الجيدة فعلاً للبشرية كلها يجب أن تكون قد تحقّقت بحلول ذلك الوقت. فمجموعة المقتنيات الواحدة والمتاحة للجميع ستعني أن العائلة البشرية، قد بذلت جهوداً جبّارة لتخطي التشرذم والانقسام والطائفية والأمراض السياسية. فإذا كانت المكتبة التي أتخيّلها ستكون في المستقبل متاحة لكل من يعيش حتى في كوريا الشمالية، فإننا سنكون على ثقة بأن العالم قد أصبح مكاناً أفضل للعيش فيه.
قلت إن لدي إجابة ثالثة سيئة، وهي الإجابة التي أتمنى ألا تكون صحيحة. فتلك الإجابة متشائمة إلى أبعد الحدود: لن يكون هنالك أي مكتبة.
هنالك طرق كثيرة لكي يتحوّل ذلك التشاؤم إلى واقع، منها التفاعل الكارثي بين الأسلحة النووية وارتطام الكويكبات بالأرض وانهيار المناخ، وحينها تكون خسارة المكتبات واحدة من أخفّ أعراض خراب مستقبلنا البائس. كما قد نخسر المكتبات بسبب الغطرسة وقصر النظر. فلطالما سمعنا جميعاً أشكالاً متعددة من المقولات القاطعة المتكبّرة من شاكلة "لم نعد بحاجة إلى المكتبات، فكل شيء أصبح اليوم رقمياً"، مقولات تصلح للاستخدام على منصة مناظرة بين المرشحين الرئاسيين.
أهمية المكتبات حول العالم
لكننا نحتاج فعلاً للمكتبات. ففي عالمنا الذي يعجّ بهذا الفيض الهائل من المعلومات، بوسع المكتبات جمع وانتقاء المعلومات الجيدة وحراستها والعناية بها. المعلومات التي اجتهد أشخاص أذكياء حقاً في العمل عليها وإبداعها وصونها، والتي يمكنك الاعتماد عليها في فهم العالم فهماً عميقاً ودقيقاً، المعلومات المعقدة أكثر من أن تنتج ببساطة عن مجرد الاستعانة بالجمهور، والبعيدة عن المقبول والمعتاد أكثر من أن تُفرَض علينا من الشركات والسياسيين. أما بالنسبة لأمناء المكتبات الأذكياء والمهنيّين والزاهدين في كل شيء ما عدا الحقيقة، فهم بمنزلة "فرسان الجيداي" الذين سيحمون مستقبل ثقافتنا ويستحقّون كل الاحترام والتقدير لجهودهم.
ولن تكون المكتبات، بوصفها أماكن، أقلّ قيمة مما هي عليه اليوم، إذ مهما كانت درجة تفاؤلي يبدو لي من الحكمة بمكان أن أعترف بأن الأناس الجيّدين والأذكياء وأصحاب المبادئ لن يكونوا وحدهم على سطح الأرض، ولذلك فإنهم سيكنّون تقديراً خاصاً- كما يفعلون الآن- لفرصة تقصّي المعرفة وتبادل الآراء برفقة الآخرين ضمن صروح المكتبات.
وإذا ما انجرفنا مع التفاؤل التقني السائد واللامبالاة، وتركنا المكتبات تتلاشى وتندثر، فإننا سنكون حينئذ في حالة سيئة تستحق الشفقة. هنالك تفسيرات تاريخية كثيرة لاندثار مكتبة الإسكندرية العظيمة العريقة، غير أن تقييمي الشخصي أن هذه المكتبة لم تندثر لأنها كانت ضحية يوليوس قيصر أو غيره. يقيني أن المكتبات من المرجّح أن تندثر عندما لا يقوم قادة المجتمع بواجبهم في دعمها وعندما ينظرون إليها بوصفها من المسلَّمات ويعاملونها باستخفاف.
وفي نهاية الحديث عن المكتبات في عام 2100، بوسعي أن أبقى متفائلاً. فـ "مكتبة الإسكندرية" العريقة اندثرت يوماً ما في القرون الأولى للميلاد، بيد أنها انبعثت في الواقع من جديد. ومع كل هذه التحديات السياسية والدينية والاجتماعية التي تواجه مصر اليوم، فإننا نشهد بناءً جديداً ساطعاً في ميناء الإسكندرية أكمل اليوم عقده الثاني بوصفه مكاناً للحوار، والأهم من ذلك مكاناً للقراءة. وسنبقى دوماً بحاجة إلى مكان للقراءة.