سيكون السفر الواقعي بين النجوم بطيئاً لدرجة أنه من الممكن أن تطرأ بعض الأحداث اللغوية الغريبة قبل أن تصل السفن الفضائية إلى وجهتها. فماذا عن اللغة عند السفر إلى الفضاء؟
تخيل أننا في عام 2500، والعلماء في وكالة فضاء مثل وكالة ناسا ينتظرون خبراً من أول بعثة من المستعمرين الذين سافروا إلى نظام كوكبي آخر. أقلعت سفينة الفضاء قبل مائتي عام، وبدلاً من وضع المسافرين في حالة من السبات وتعريضهم لمخاطر التلف الحيوي أو تعطل المعدات، فهم يعيشون على متن السفينة جيلاً بعد جيل، ويمارسون حياة طبيعية ويموتون ويتوالدون لتستمر حياة البشر على مدى الرحلة. ليس بالإمكان التواصل معهم كثيراً نظراً لبعد المسافات، فالرسالة التي ترسلها البعثة بسرعة الضوء تستغرق عقداً من الزمن لتصل إلى الأرض، ويستغرق وصول الرد عقداً آخر. ولكن بناءً على حسابات الوكالة الفضائية، من المتوقع أن ترد أخبار عن هبوط المستعمرين على الكوكب الآخر في أي يوم.
وفجأة، تصل الرسالة! إنها الرسالة الأولى من بشر يعيشون تحت شمس أخرى، فيتجمع العلماء حول شاشاتهم يتوقون لمعرفة الأخبار.
لكن، ثمة مشكلة واحدة، فالرسالة غير مفهومة. هي ليست تالفة، بل تبدو لغتها حقيقية، وتظهر فيها جمل مألوفة مبعثرة، لكنها مملوءة بكلمات غريبة مرتبة ترتيباً غير متوقع، وكلمات تضم لواحق وبادئات غريبة وجملاً لا تحمل أي معنى بنظر العلماء. كل شيء في لغة الرسالة من قواعد ونحو وبنى ومفردات يبدو غريباً. يُصدم العلماء فور إدراكهم الحقيقة، فقد تغيرت لغة المستعمرين، ولم يعد بإمكان أهل الأرض فهم ما يقولونه.
اللغويات والسفر إلى الفضاء
عادة، عندما نفكر في اللغويات والسفر إلى الفضاء، نضع تصوراً يتطلب التواصل مع كائنات فضائية، شيئاً يشبه فيلم "الوافد" (Arrival). ولكن بسبب تغير اللغة، يمكن أن يواجه مستكشفو الفضاء في المستقبل مشكلة جوهرية أكثر، وهي أنه من الممكن أن تتغير لغتهم في أثناء الرحلة لدرجة أنهم سيجدون لغة أهل الأرض غريبة، والعكس صحيح. وحتى لو تجنبنا كارثة عدم الفهم المتبادل بأكملها، ستظهر مشكلات أخرى في التواصل حتماً، لأن سفينة الفضاء هي مناخ مثالي لتسريع تغير اللغة.
وذلك لأن اللغة تتغير عندما يجد الناس أنفسهم في أوضاع اجتماعية جديدة، ويضطرون لاتباع طرق جديدة من أجل وصف واقعهم. وعيش حياة كاملة داخل سفينة فضاء هو بكل تأكيد وضع جديد كلياً. كما تتغير اللغة بسرعة عندما تنعزل مجموعة من متحدثيها لفترة مطولة من الزمن، ولن يكون أحد في التاريخ الإنساني معزولاً أكثر من المستعمرين على متن سفينة الفضاء.
وأخيراً، يتعمد الإنسان عادة تغيير لغته كعلامة للتمييز، وهي طريقة ليميز نفسه كشخص ينتمي لفئة معينة دون الأخرى. (حتى في وقتنا الحاضر، إذا نشأت نزاعات في أثناء مهمة فضائية أو تجربة محاكاة البيئة، فيندر أن تكون هذه النزاعات شجاراً بين رواد الفضاء أنفسهم. بل يسعى رواد الفضاء للتوحد في وجه الجهة التي تقود المهمة). ولأن مستعمري الفضاء لن يعودوا إلى الأرض أبداً، فعلى الأرجح أنهم سيشعرون برابط قوي يوحدهم، في حين يضعف ارتباطهم بالمعايير الأرضية، وسيكون تبني أشكال جديدة من اللغة هو الطريقة الطبيعية لإظهار ذلك.
لذا، وباعتبار أن لغة المستعمرين ستتغير بفعل العزلة والظروف الاجتماعية الجديدة، ما هي أنواع التغييرات التي يمكننا توقعها؟
بعض هذه التغييرات سيكون بلا شك دقيقاً. خذ مثلاً نبرة الكلام المتصاعدة، أي العادة المتمثلة بإنهاء كل جملة بنبرة متصاعدة. بدأت نبرة الكلام المتصاعدة بين مجموعات معينة من الأستراليين في ثمانينيات القرن الماضي، وسرعان ما انتشرت في جميع أنحاء العالم. لكن على الرغم من احتمال استغراب أهل الأرض من النظير الفضائي لنبرة الكلام المتصاعدة، فهو لن يعيق التواصل بدرجة كبيرة. ينطبق الأمر ذاته على المفردات الجديدة التي يطورها المستعمرون في الرحلة من تقنياتهم المؤقتة أو الميزات الجديدة التي واجهوها في رحلتهم بين النجوم مثلاً. إذا كانت هذه الكلمات عبارة عن مشتقات أو مجموعات من الكلمات المألوفة، فمن الممكن أن يتضح المعنى من خلال مؤشرات السياق.
لكن قد يحتاج التعود على بعض التغييرات الأخرى وقتاً أطول. في ورقة بحثية حديثة بعنوان "تطوير اللغة في أثناء السفر بين النجوم"، يشير العالمان اللغويان أندرو ماكنزي وجيفري بانسك إلى أن الناس منذ مائتي عام كانوا يستخدمون صيغاً مختلفة للجمل التي نقولها في عصرنا الحالي، وقد نعتبرها اليوم غريبة وغير صحيحة من ناحية القواعد، وبتنا نستخدم صيغاً مختلفة للتعبير عن نفس المعنى.
كما ينوه العالمان إلى أن اللفظ أيضاً يتغير بمرور الوقت. فبين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، شهدت اللغة الإنجليزية ما يدعى "التحول الكبير في أحرف العلة". قبل التحول، كان حرف (a) مثلاً في كلمة (tame) يلفظ مثلما يلفظ في كلمة (father)، وكانت كلمة (teem) تلفظ مثل كلمة (fame) التي نعرفها اليوم، وعلى ذلك فقس. ثم تغير كل شيء، ولم نتمكن من توضيح الأسباب بعد. من المحتمل أن التغيير كان في البداية محصوراً بحرف علة واحد أو حرفين فقط، لكن تبعتهما عدة أحرف حتى أصبح كل منها متميزاً. إجمالاً، قسمت هذه التغييرات اللغة الإنجليزية إلى معسكري ما قبل التحول وما بعده يختلف أحدهما عن الآخر اختلافات دقيقة بالكاد يمكن ملاحظتها.
ونتيجة لذلك، ما زلنا اليوم قادرين على فهم مؤلفات شيكسبير بعد أربعة قرون من كتابتها، في حين تبدو اللغة الإنجليزية التي استخدمها جيفري تشوسر في أشعاره في بدايات القرن الخامس عشر غير مفهومة. ففي زمن تشوسر، لم تتبع قواعد محددة للإملاء، وكان الناس غالباً يكتبون الكلمات كما تلفظ. ثم حدث التحول الكبير في حروف العلة، وبدت الطرق القديمة لكتابة الكلمات ولفظها غامضة فجأة. وكما كتب ماكنزي وبانسك في ورقتهما البحثية: "حتى شيكسبير في القرن السابع عشر لم يكن يفهم لغة تشوسر الإنجليزية من دون تعلم هذه اللغة المختلفة". يساعد هذا النوع من التحولات في تفسير السبب الذي يجعل الإملاء في اللغة الإنجليزية خادعاً للغاية في عصرنا هذا.
اللغات المحكية حول العالم
لكن لا تنحصر هذه التحولات على الماضي البعيد فحسب، فقد انتشرت لغة المراسلات النصية بسرعة ملحوظة في العقود القليلة الماضية، وهي تبدو بلا معنى بالنسبة لشخص غريب، ولن يتمكن من فهم اختصاراتها ورموزها إلا إذا وضح له أحد ما معانيها. أما بالنسبة للغة المحكية، فإن منطقة "البحيرات العظمى" (Great Lakes) في أميركا الشمالية تخوض حالياً فيما يسمى تحول أحرف العلة في المدن الشمالية. مثلاً، يتحول الحرف الإنجليزي (a) في كلمة (bat) ليلفظ مثل حرف (e) في كلمة (bet). وفي الوقت نفسه، يتحول لفظ كلمة (bet) ليصبح أشبه بلفظ كلمة (but)، التي يتحول لفظها بدوره ليصبح أقرب إلى لفظ كلمة (bought)، وهلم جراً. يقول ماكنزي وبانسك أيضاً: "اليوم، بات كثير من علماء اللغة ... يعتبرون اللغة الفرنسية المنطوقة واللغة المكتوبة لهجتين مختلفتين"، لأن ما يقوله الفرنسيون في المحادثة لا يتبع دائماً قواعد الكتابة "الصحيحة". إذا كان من الممكن أن تنشأ مثل هذه الانقسامات داخل مجموعة سكانية واحدة في فترة زمنية قصيرة نسبياً، فكم ستبلغ احتمالات الانقسام بين مجموعتين من الناس تفصل بينهما مليارات الأميال؟
استكشفت عالمة اللغة سارة توماسون أيضاً فكرة التحولات اللغوية بين مستعمري الفضاء، لاسيما في مفرداتهم. (وردت ورقتها البحثية بعنوان "تغيير اللغة والاستمرارية الثقافية" في كتاب "السفر بين النجوم وسفن الفضاء التي تحمل عدة أجيال" (Interstellar Travel and Multi-Generational Space Ships)، وهو غير متاح على الإنترنت). مجدداً، سيحتاج المستعمرون الفضائيون إلى كلمات جديدة لوصف عالمهم الجديد كلياً. وفي هذه الأثناء، ستضمر الكلمات التي نستخدمها على الأرض وتضمحل. وكما تشير توماسون، ما الذي سيفعله الناس على متن سفينة فضاء بكلمات مثل "ثلج، وعاصف ونهر ومحيط وجبل وحروق الشمس والصيف والشتاء والحصان والنمر، والقارب والشاحنة والطائرة وناطحة السحاب والنفق والجسر"؟ ومع ذلك، قد يصادف المستعمرون الفضائيون هذه الكلمات في الكتب أو القصص عن كوكب الأرض، لكنها ستكون مجرد آثار في أفضل الأحوال وسيتلاشى صداها على الأرجح.
لتوسيع هذه الفكرة، من المرجح أن تؤدي الحياة المستمرة والمنعزلة في أثناء السفر إلى الفضاء إلى ظهور استعارات جديدة، وربما ظهرت علوم غيبية جديدة مع تطور ممارسات دينية جديدة. ستتحول الفنون أيضاً بلا شك، هل ستلاقي حكايات الحروب أو لوحات "فيرمير"، التي تتميز بتصوير أماكن يغمرها نور الشمس، صدى عند شخص محتجز في مركبة من الصفيح؟ بل سيظهر فن جديد يتناسب مع التجارب الجديدة، وكل هذا سيغير لغة المستعمرين.
ما هي اللغة المستخدمة في الرحلات الفضائية؟
ستصبح الأمور مربكة أكثر إذا فكرت في احتمال اختلاط اللغات. في الوقت الراهن، يعتبر السفر إلى الفضاء مشروعاً أحادي اللغة بدرجة كبيرة. فاللغة الروسية هي اللغة الرسمية على متن صواريخ "سويوز" التي تنقل رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية، ولكن ما أن يصلوا إلى هناك تصبح اللغة الإنجليزية هي المستخدمة في معظم المواقف. قد لا ينطبق ذلك على المهمة الاستعمارية. فلأسباب سياسية، ومن أجل ضمان أكبر قدر ممكن من التنوع الجيني بصورة خاصة، من الممكن أن يتم جمع بعثة مستعمري الفضاء من عدة قارات مختلفة. في هذه الحالة، من المحتمل أن يكون لدى البعثة لغتان رسميتان على الأقل، وسينشأ الأطفال الذين يولدون في أثناء الرحلة على التحدث بكلتيهما.
لكن هذا الانقسام لن يدوم طويلاً، فأدمغة الأشخاص الذين ينشؤون مع لغتين مختلفتين لا تحتفظ بكل لغة في قسم منفصل، بل تمتزج اللغتان وتؤثر كل منهما في الأخرى، وأبرز مثال على ذلك هو اللغة "الإسبانجليزية". لا تعاني هذه اللغة الهجينة من أي مشكلة، ويمكن أن تؤدي إلى إثراء اللغتين التي نتجت عن اندماجهما. ولكن إذا كانت القواعد النحوية واللغوية مختلفة بدرجة كبيرة بين اللغتين الأساسيتين، وكانت اللغة الهجينة تدمج جوانب من كلتيهما، فسيصبح التواصل مع أهل الأرض أكثر صعوبة.
سيكون كل هذا معقداً، لأن لغة أهل الأرض لن تبقى على حالها على مدى الأعوام التي ستتطور فيها لغة المستعمرين المسافرين إلى الفضاء. وستتغير لغة المستعمرين ولغة أهل الأرض كلتاهما في نفس الوقت، وبذلك ستكون الرحلة التي تدوم مائتي عام بين النجوم مساوية فعلياً لـ 400 عام من تغيير اللغة. بالمثل، فكر بما قد يحدث إذا قرر أهل الأرض إرسال عدة بعثات استعمارية إلى كوكب واحد آخر في رحلات يفصل بينها عقد أو عقدان من الزمن. ستتطور لغة المسافرين في كل رحلة بشكل منفصل، ويمكن للمستعمرين اللاحقين أن يصلوا إلى كوكبهم الجديد دون امتلاك أي فكرة عما يقوله المستعمرون الذين سبقوهم إليه.
تدريب رواد الفضاء على علوم اللغة
لذا، هل من طريقة للتغلب على هذه المشكلات؟ أم أن لغة الفضاء محكوم عليها بأن تصبح مجرد ضجيج بالنسبة لأهل الأرض؟
يقترح ماكنزي وبانسك تدريب رواد الفضاء المستقبليين على علوم اللغة، لتوعيتهم بشأن التغيرات المحتملة والمساعدة في الحد من الخلاف الذي قد ينشأ. من المؤكد أن علم اللغة سيبقى ثانوياً في الحفاظ على المحاصيل أو الاستمرار بتشغيل المولدات. ولكن كما تشير توماسون، فإن التواصل السيئ هو مضيعة للوقت في أحسن الأحوال، وخطر حقيقي في أسوئها، بالنظر إلى مدى خطورة البقاء على قيد الحياة في الفضاء. إذ يمكن أن يقوم أفراد البعثة الثانية الواصلين إلى الكوكب الجديد بتصرف غبي يعرض حياة جميع من على الكوكب للخطر، ببساطة لأنهم لم يفهموا بعض تفاصيل ما يجري.
لكن الحل الحقيقي هنا قد يتطلب العودة إلى الماضي البعيد. فمن المؤكد أن الأطفال الذين يولدون وينشؤون على متن سفينة الفضاء سيحصلون على التعليم. ومن الممكن الاستفادة من دراستهم لتعليمهم لغة مشتركة تتمثل في نسخة مجمدة من اللغة الإسبانية أو الصينية أو الإنجليزية.
حيث سيكون الدور الأساسي لهذه اللغة المجمدة مماثلاً لدور اللاتينية بالنسبة للعلماء الأوروبيين على مدى جزء كبير من الألفية السابقة. لم يتحدث أحد اللاتينية بصورة طبيعية، لكن استخدمها الكثيرون للتواصل. غالباً ما نسخر من أنظمة المدارس الجامدة القديمة التي كانت سائدة في الماضي، التي تركز على الحفظ عن ظهر قلب واللغة اليونانية أو اللاتينية "المثالية"، فهي تبدو مملة وبالية في عالمنا عالي التقنية. لكن يبدو أن نظاماً شبيهاً بهذه الأنظمة سيكون أملنا الوحيد لضمان التواصل السلس في المغامرة البشرية القائمة على أعلى التقنيات على الإطلاق في غضون الحديث عن استخدام اللغة عند السفر إلى الفضاء.