ظهر أول وصف لهوس البشرية بمعالجة الموت وبوصف الشيخوخة على أنها مرض في "ملحمة جلجامش" (The Epic of Gilgamesh)، التي يعود تاريخها إلى عام 1800 قبل الميلاد على أقل تقدير، وهي أيضاً واحدة من أولى أعمال الأدب المسجلة في تلك الحقبة. بعد مرور قرون من الزمن، قال تيرينتيوس، الكاتب المسرحي الروماني القديم: "الشيخوخة بحد ذاتها مرض"، وقال سيسيرو: "يجب أن نقاوم الشيخوخة، مثلما نقاوم المرض".
في عام 450 قبل الميلاد، كتب هيرودوت عن ينبوع الشباب، وهو ينبوع يرمم جسم الإنسان ويوقف الشيخوخة، وقد ألهم المستكشفين مثل خوان بونثي دي ليون. ولكن يبدو أن ما كان في السابق كأساً مقدساً أسطورياً أصبح اليوم يُتداول كثيراً. مع تزايد فهم البشر للعلوم والتكنولوجيا ومعرفتهم بها، زاد متوسط عمر الإنسان أيضاً. حتى القرن التاسع عشر، كان متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء أوروبا يتراوح بين 30 و40 عاماً، بينما يبلغ الآن متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة أقل من 79 عاماً، ويتجاوز في اليابان وهونج كونج أكثر من 84 عاماً.
هل يمكن معالجة الشيخوخة؟
ربما لم يكن القدماء مخطئين، ولا يمكن تأخير الشيخوخة فحسب، بل يمكن أيضاً علاجها مثل المرض. على مر السنين، اكتسبت الحركة لتصنيف الشيخوخة على أنها مرض زخماً ليس فقط من قبل المهووسين بطول العمر، ولكن أيضاً من قبل العلماء. في عام 1954، نشر روبرت بيرلمان، ورقة بحثية في "مجلة الجمعية الأميركية لطب الشيخوخة" (Journal of American Geriatrics Society)، بعنوان "متلازمة الشيخوخة"، وصف فيها الشيخوخة بأنها "مجمع الأمراض". ثم انضم إليه آخرون في وقت لاحق، بمن فيهم أطباء أمراض الشيخوخة، الذين يشعرون بالإحباط من نقص التمويل لدراسة عملية الشيخوخة نفسها. وقد صدر منشور في عام 2015 لفريق من الباحثين الدوليين يتضمن التالي: "لقد حان الوقت لتصنيف الشيخوخة العائدة لأسباب بيولوجية على أنها مرض". في عام 2018، أضافت "منظمة الصحة العالمية" (WHO)، رمزاً إضافياً في أحدث إصدار من التصنيف الدولي للأمراض خاص بالأمراض "المرتبطة بالشيخوخة"، التي تعرف بأنها "ناجمة عن العمليات التي تؤدي باستمرار إلى فقدان تكيف الكائن الحي وتقدمه في العمر". بعبارة أخرى، تلك الأمراض التي تحدث وتتفاقم مع مرور الوقت، مثل السرطان والتهاب المفاصل. وقد يمهد هذا القرار الطريق أمام تعريف الشيخوخة ذاتها على أنها مرض.
إلا أن تسمية الشيخوخة ذاتها بأنها مرض، هو أمر مضلل وسيئ، ومحاولة جعل عملية التقدم في السن وكأنها مرض يجعلها تبدو غير مقبولة على الإطلاق. في المجتمع الأميركي المهووس بالشباب، تتفشى الشيخوخة في هوليوود، وسوق العمل، وحتى السباقات الرئاسية. ووصف الشيخوخة بالمرض لا يسهم في الإجابة عن أسئلة حاسمة حول سبب تقدمنا في العمر. بدلاً من وصف الشيخوخة بالمرض، يجب أن يهدف العلماء إلى تحديد العمليات الأساسية التي تسبب الشيخوخة وتدهور الخلايا المرتبط بالشيخوخة وعلاجها.
بدأ الفهم الطبي لتدهور الخلايا هذا في عام 1962، عندما قدم ليونارد هايفليك، وهو أستاذ في علم التشريح في كلية الطب بجامعة "كاليفورنيا" في سان فرانسيسكو، اكتشافات أساسية في فهم الشيخوخة، حيث اكتشف الحد الأقصى لعدد المرات التي تنقسم فيها الخلايا البشرية النموذجية قبل أن تصبح هرمة أو منهكة. وكان العلماء قد افترضوا قبل ذلك أن الخلايا البشرية خالدة. كما اكتشف هايفليك أيضاً أن التيلوميرات، التي تغطي نهايات الصبغيات وتمنعها من التفكك، مثل تلك الأطراف البلاستيكية التي تحافظ على نهايات أربطة الحذاء، تقصر في كل مرة تنقسم فيها الخلية، وعندما تصبح التيلوميرات قصيرة إلى حد معين، تتوقف الخلية عن الانقسام.
سمات الشيخوخة
إن التساؤلات حول العمليات الأساسية للشيخوخة وعلاقتها بأمراض محددة لا تزال مطروحة. في عام 2013، حدد فريق من الباحثين الدوليين تسع "سمات للشيخوخة"، وهي اضطراب الاتصال بين الخلايا، والطفرات الجينية (المرتبطة بالسرطان)، وتقلص التيلوميرات، والتغيرات في البنية الكيميائية للحمض النووي (بصرف النظر عن الرمز الوراثي)، وتدهور بروتينات الخلايا، وتناقص قدرة الخلايا على تحديد مستويات المغذيات والتكيف معها، وضعف وظائف الميتوكوندريا، وشيخوخة الخلايا (عندما تتوقف الخلايا عن الانقسام والنمو بسبب العمر)، وعدم تجدد الخلايا الجذعية. في حين أن كل سمة مميزة لها أعراض، "لا توجد مؤشرات حيوية لوصف الشيخوخة بشكل عام"، وفقاً لتشوك دينرشتاين، وهو كبير الزملاء الطبيين في "المجلس الأميركي للعلوم والصحة" (American Council on Science and Health). تظهر تلك السمات لدى كل إنسان، ولأن العديد منها يحدث في وقت متزامن، فمن الصعب إبراز كل عملية فردية أو تحديد العلاقات السببية. نحن نعلم أن الأثر النهائي هو الشيخوخة، ولكن هناك الكثير من العلماء لا يعلمون حتى الآن عن العمليات التي تسبب تلك السمات. ذكر هايفليك أن التمييز بين الشيخوخة والأمراض المرتبطة بالشيخوخة أمر بالغ الأهمية، وأن عدم التمييز بينهما "يمثل أخطر عائق أمام فهمنا لعملية الشيخوخة".
تتفاقم الدلالات وعدم الموضوعية من صعوبة المسألة، إذ إن الشيخوخة ليست عملية غير طبيعية، فلماذا تكون الشيخوخة مرضاً؟ إذا كانت الشيخوخة مرضاً، فإن 7.7 مليار شخص على الأرض مصابون به، وكل شخص فوق سن 65 لديه حالة متقدمة. إذا شعرت بالضيق جراء هذه الفكرة، فسيكون لديك إحساس بأنها وصمة بمجرد تسميتها. يرى سوريش راتان من "مختبر شيخوخة الخلايا بجامعة آرهوس الدنماركية" (Denmark’s Aarhus University’s Laboratory of Cellular Ageing)، أن الحالة التي يعاني منها الجميع لا يمكن أن تكون مرضاً. صحيح أن الشيخوخة ترتبط بالعديد من المشكلات الصحية، مثل أمراض القلب ومرض الزهايمر والعديد من أنواع السرطان والسكري لكن في حين أن هذه الأمراض تصبح أكثر شيوعاً مع تقدم العمر، لا يصاب بها كل شخص كبير في السن، بينما قد يكتسبها الشباب في بعض الأحيان. وأشار بيتر بولينغ، مدير طب الشيخوخة في كلية الطب بجامعة "فرجينيا كومنولث" (Virginia Commonwealth University Medical School)، في مؤتمر "الجمعية الأميركية لأمراض الشيخوخة" (Gerontological Society of America) لعام 2019، إلى أن "هذه الحالات لا ترتبط بالشيخوخة مباشرة باعتبارها ظاهرة بيولوجية بحد ذاتها". بعبارة أخرى، على الرغم من أن هذه الحالات مرتبطة بالشيخوخة، إلا أنها ليست ناجمة بالضرورة عن الشيخوخة نفسها، بل بسبب العمليات البيولوجية للشيخوخة، أو بسبب تلك السمات التسع المذكورة أعلاه. إن العمليات البيولوجية هي المسببة لتلك الحالات، في حين أن الأمراض المرتبطة بتقدم العمر هي النتيجة. وهذا يعني أن العلاجات التي يبدو أنها تبطئ الشيخوخة بالعموم قد تكون في الواقع تعالج حالة واحدة فقط من الأعراض، وقد لا يدرك الأطباء والمرضى أن فاعليتها محدودة إلا بعد مدة طويلة.
الوقاية من الشيخوخة
يشير تصنيف الشيخوخة على أنها مرض أيضاً إلى أنه يمكن الوقاية منه أو علاجه، وإذا تمكن العلماء في مرحلة ما من معرفة أسباب عملية الشيخوخة الأساسية، فقد يكون ذلك صحيحاً. مع ذلك، لا شيء يمكن أن يمنع البشر من التقدم في السن، وقد تفتح هذه الفكرة المضللة الباب أمام العلاجات الشعبية. يحذر بيان موقف أعده هايفليك وأكثر من 50 عالماً آخر من أن الادعاءات التي تطرحها الشركات المنتجة للعقاقير المضادة للشيخوخة، والمكملات الغذائية، والهرمونات، وغيرها من العلاجات "هي لا شك خاطئة أو مضللة أو مبالغ فيها، ومع ذلك تطرح لأغراض تجارية". لا يؤدي هذا التسويق إلى إنفاق المستهلكين غير المثمر فحسب، بل يمكن أيضاً أن يجعل من الصعب على الجمهور فصل الحملات الدعائية التي تطلقها الشركات عن البحث العلمي. إن هوس المجتمع بالشباب إلى جانب قابلية البشر للتفكير المستند إلى التمني والوعود السحرية يضمن الطلب على هذه المنتجات، والتي سيلبيها الموردون المشبوهون بكل سعادة.
لم يتم التدقيق في الادعاءات القائلة بإن العلاجات المختلفة تحارب الشيخوخة، لأن "إدارة الغذاء والدواء" (Food and Drug Administration)، لا تنظم حالياً أي إجراءات أو منتجات مصممة لمعالجة الشيخوخة. يشير بولينغ إلى أنه حتى لو ابتكر شخص ما عقاراً للحد من عمليات الخلايا الكامنة وراء الشيخوخة، فإنه "ربما لن يجد طريقاً إلى السوق". هذا هو السبب الأكثر إلحاحاً لتصنيف الشيخوخة على أنها مرض، والسبب الذي يدعمه بعض المتخصصين في أمراض الشيخوخة. بالإضافة إلى المزيد من التوجيه التنظيمي، من المرجح أن تتلقى أبحاث الشيخوخة تمويلاً أكبر. إذ يخصص "الكونجرس" الأموال لإجراء الأبحاث في الحالات المتعلقة بتقدم العمر مثل مرض الزهايمر، ولكن دفعه لتمويل الأبحاث لا تتعلق بأمراض حقيقية هو بمثابة الخوض في معركة مضنية.
من ناحية أخرى، وفقاً لما ذكره ألكسندر فليمنغ، وهو مشرف سابق في المجال الطبي في "إدارة الغذاء والدواء"، فإن "إدارة الغذاء والدواء" قد "اعتمدت منذ فترة طويلة منتجات تمنع الإصابة بالأمراض المزمنة". وتبدو هذه المسألة هنا دلالية إلى حد كبير، لكنها تؤكد أهمية معالجة ليس آثار الشيخوخة فحسب، ولكن الأسباب الكامنة وراء هذه الأعراض. بالنظر إلى أن الشيخوخة هي أكبر عامل خطر لحدوث الأمراض المزمنة، يمكن للعلاجات التي تركز على عملية الشيخوخة الأساسية، وفقاً لفليمنغ، "أن تتدخل في العديد من الأمراض المزمنة المتعلقة بالشيخوخة دفعة واحدة". علاوة على ذلك، من المحتمل أن تتداخل العمليات الكامنة وراء الأمراض المرتبطة بالشيخوخة. لذلك، إذا تمكن الباحثون من معرفة العمليات البيولوجية التي تجعل الأشخاص أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب أو مرض الزهايمر، فيمكنهم علاج حالات متعددة في وقت واحد.
هل تعتبر الشيخوخة مرضاً حقاً؟
يؤثر التمييز بين الشيخوخة وأسبابها الأساسية أيضاً على تمويل الأبحاث. قالت جيمي جاستيس، وهي أستاذة مساعدة في أمراض الشيخوخة وطب الشيخوخة في جامعة "ويك فورست"، خلال ندوة "الجمعية الأميركية لأمراض الشيخوخة" إنها لا تعتقد أن السؤال المتمثل في "هل الشيخوخة مرض؟" هو السؤال الصحيح. وقالت إن السؤال الأفضل هو "لماذا يتعين علينا ادعاء أن الشيخوخة مرض، وندفع الأطباء والمسؤولين عن التنظيم الرقابي وأصحاب المصلحة لفعل شيء حيال ذلك؟". وفقاً لهايفليك، فإن جزءاً من الإجابة هو أن ما لا يعرفه صنّاع السياسات عن الشيخوخة هو الذي يملي قراراتهم، ويقول: "يجب على صنّاع السياسات إدراك أن إيجاد حلول للمشكلات المرضية المرتبطة بتقدم العمر لن يوفر رؤى حول فهم البيولوجيا الأساسية للتغيرات العمرية، وغالباً ما سيعلمون أنها قرارات مبنية على سوء الفهم".
بسبب هذا المفهوم الخاطئ، فإن تمويل الأبحاث المتعلقة بالأمراض المرتبطة بالعمر مثل السرطان ومرض الزهايمر يتجاوز بكثير تمويل الأبحاث المتعلقة بعمليات الشيخوخة البيولوجية. إذا كانت الشيخوخة عامل خطر لجميع الحالات التي من المحتمل أن تقتلنا تقريباً، يتساءل هايفليك، "لماذا إذاً لا نكرس موارد أكبر لفهم ما يزيد من قلة المناعة ضد الأمراض المرتبطة بتقدم العمر؟". إن فهم العمليات الأساسية سيسمح للعلماء بالعمل على العلاجات التي تعالج أسباب الشيخوخة، وليس آثارها فقط.
يوضح راتان مخاوفه حول "الخطاب الموجه عن الشيخوخة على أنه عدو، مثل "الحرب ضد الشيخوخة" و"هزيمة الشيخوخة" و"قهر الشيخوخة". حتى في الطب، فإن اللغة مهمة، أي أن الشيخوخة ليست عدواً، ولا هي سلبية تماماً. وإذا اعتنقنا فكرة قهر هذا "العدو"، فقد لا نعزز الشيخوخة فحسب، بل قد نغفل أيضاً الطرق التي يمكننا من خلالها تحسين صحتنا ونوعية حياتنا مع تقدمنا في العمر.
يميز العديد من المتخصصين في أمراض الشيخوخة بين "امتداد الصحة" و"امتداد الحياة"، وهي المدة الزمنية التي يتمتع فيها الشخص بصحة جيدة نسبياً مقابل طول حياته. أي أن طول حياة الشخص يصبح لا معنى له إذا كان في حالة صحية سيئة أو يعاني من ألم أو قيود تضعف جودة حياته. ويحث فليمنغ "الأجهزة الرقابية وصنّاع السياسات على تبني مفهوم امتداد الصحة واعتماده محوراً تنظيمياً لتسهيل تطوير الأدوية التي تستهدف الشيخوخة والأمراض المزمنة". سيعزز هذا التحول البحث في العمليات المسببة للأمراض، والتي يمكن أن تساعدنا على منع الإصابة بالمزيد من الأمراض المرتبطة بالعمر، وليس إدارتها فحسب.
وكما قال متخصصان في أمراض الشيخوخة شونلينغ، وبريان كينيدي: "الشيخوخة شبيهة بتغير المناخ، لكنه تغيير يحدث في مجال الرعاية الصحية". يتوقع "مكتب المراجع السكانية" (Population Reference Bureau)، أن 100 مليون أميركي سيبلغون 65 عاماً أو أكثر بحلول عام 2060. كيف سنهتم بهؤلاء السكان؟ من الصعب التفكير في شيخوخة المرء، ناهيك عن أن 16% من سكان العالم سيكونون من شريحة كبار السن بحلول منتصف القرن. إن نهج الصورة الكبيرة الذي يركز على عمليات الشيخوخة بوصفها مرضاً يصيبنا، أي العمليات التي نشاركها مع جميع الكائنات الحية تقريباً، سيضعنا على مسار لا يقودنا إلى حياة أطول فحسب، بل إلى حياة مليئة بالصحة على حد سواء.