"سوف ننقل جميع الصناعات الثقيلة من الأرض، وسوف يكون كوكبنا هذا مخصص للسكن والصناعات الخفيفة"، هذا ما تنبأ به جيف بيزوس بجرأة خلال مقابلة معه عام 2018. بحسب هذا الرأي، قد يتيح لنا الفضاء عيش مستقبل لا يتعارض فيه النمو والاستدامة مع بعضهما، إذ يمكن أن نقيم الصناعات الملوثة خارج الأرض، تاركين كوكبنا ينعم بهواء نظيف ومياه عذبة وأنظمة بيئية متكاملة وسليمة وتنوع بيولوجي. ولكن من الطبيعي أن يدفع هذا التنبؤ، الصادر عن ملياردير تتراكم ثروته نتيجة هذا النمو الجامح، النقاد إلى التساؤل حول الأسباب الكامنة وراء هذا التوقع. فمن الذي يتخذ قرارات حول هذه التحولات الجذرية؟ أو بالأحرى، كيف ينبغي اتخاذ قرارات بشأنها؟
تفضي مثل هذه الآراء إلى ذات المواقف السلطوية وروايات الأبطال التي أسفرت عن العيش لمدة قرون من الزمن تحت وطأة الإخضاع السياسي والاقتصادي لأولئك الذين لا لديهم سلطة أقل، وهو ما يثير قلقنا نحن الذين نريد إنهاء الاستعمار الذي سوف يتكشف من خلال هذه الرؤى المستقبلية. لا يتمحور الانتقال إلى الفضاء حول المكان الذي سوف نذهب إليه فحسب، بل بالوسيلة التي سوف نصل من خلالها إلى هناك. وقد عبّر أستاذ الفيزياء تشاندا بريسكود وينستاين عن ذلك بالقول إنه علينا التساؤل عما إذا كان بإمكاننا "تجنب استنساخ سلوكيات استعمارية راسخة بعمق في أثناء سعينا إلى فهم نظامنا الشمسي بشكل أفضل". على الرغم من أن الاستعمار شقّ طريقه نحو موارد وأسواق ومغامرات وعلوم جديدة، إلا أنه استعان أيضاً بمصادر خارجية أدت إلى إحداث صناعات ملوثة وخلق طبقات اقتصادية وهياكل اجتماعية غير متكافئة إلى حد بعيد.
قد تقول لنفسك إنّ البشر لم ينتقلوا بعد إلى سطح القمر أو المريخ أو إلى مستوطنات تدور حول الأرض حتى هذه اللحظة، فماذا يعني الوقوف بوجه الاستعمار ضمن هذا السياق؟ وكيف يمكننا إنهاء الاستعمار في مكان لم يُستعمر أصلاً؟
ما نعنيه بإنهاء الاستعمار هو أن يكون لدينا آراء خاصة بشأن الانتقال إلى الفضاء. وعلى الرغم من أننا لا نعيش ولا نعمل على كواكب أخرى حتى الآن، إلا أن وجهات النظر والقيم والتاريخ الثقافي والآراء الممثلة في مرحلة الإعداد سوف تشكّل تلك المهمات الأولى إلى عوالم أخرى، وسوف تكون تلك المهمات بدورها أساساً لعقود مستقبلية طويلة الأجل. الدعوة إلى إنهاء الاستعمار هي مناشدة موجهة للجميع من أجل المشاركة في طرح أسئلة مهمة والاستماع إلى وجهات نظر متباينة حول تلك العقود المستقبلية. لقد شارك بيزوس رؤية يمكننا الرد عليها، لكن البقية منا مستضعفة بما يكفي للمشاركة برؤاها في تلك المعمعة.
إحدى الطرق الجديرة بالذكر والتي من شأنها استنساخ الاستعمار هي من خلال القصص التي نرويها. إذ يُعتقد على سبيل المثال أن "رحلة سفينة البيغل" (HMS Beagle) هي واحدة من رحلات الاستكشاف الأولى في التاريخ الغربي، لكن الغرض منها كان في الحقيقة هو الاستعداد لعمليات التبادل التجاري والتوسع البريطاني. وقد شارك تشارلز داروين بادئ الأمر في الرحلة بصفته رفيق للقبطان روبرت فيتزروي؛ ذلك القبطان الذي أنهى حياته، وتلك الرحلة التي كانت مجهدة وموحشة إلى حد كبير.
أما القصة التي نعرفها جميعاً فقد تمت إعادة حبكها بالعودة إلى الماضي، والتي تمحورت حول قصة العبقري الشجاع والخلّاق "داروين" الذي يُعتبر بطل العلم، كما تُعرف الرحلة على وجه الحصر تقريباً باكتشافاته ونظرياته. أما قصة شعب "منطقة تييرا دل فويجو" الأوائل الذين تم اختطافهم فإنها تُنسى تماماً، وكذلك حال قصة افتتاح سبل التجارة التي أتاحتها إحدى مهمات تلك السفينة، وتبقى لنا حكاية نقية لبطل الاستكشاف. في زمننا الحالي، يتم الاستكشاف بصورة مشابهة لنموذج البطل، إذ يتم التعامل مع رواد الفضاء ورواد الأعمال البارزين كأبطال، بينما نتراجع نحن في دهشة من أمرنا!
لكن روايات الأبطال هذه تمحو مراحل تاريخية معقدة وتتواطأ لإقناعنا بأن المستقبل قد يكون بسيطاً. إنهم يستعمرون المستقبل من خلال الاستحواذ على قصصنا حول الماضي. ونحن بدورنا بحاجة إلى النأي بأنفسنا عن قصص الأبطال، وإدراك أن قصص ماضينا ومستقبلنا معقدة وغير موضوعية.
إذا كنت لا تمتلك الموارد التي يمتلكها بيزوس، فقد تشعر بأنك لا تملك القدرة على سرد قصص تتعلق بالمستقبل. لكن الأطراف الفاعلة الأولى التي اتجهت إلى الفضاء ليست هي الجهات الوحيدة المعنية في مستقبل الفضاء، بل نحن بحاجة إلى إنشاء منتديات لخوض نقاشات على نطاق واسع، خاصة فيما يتعلق بالمواضيع السياسية التي تتجاوز الحدود، بحيث يصبح من الممكن للآخرين المشاركة في هذه القرارات الحاسمة. نحن نواجه طائفة جديدة من المسائل على مستوى الحكومات، بدءاً من الحياة خارج كوكب الأرض والذكاء الاصطناعي وليس انتهاء بالجلسات الفضائية المنعقدة بخصوص البيانات، والهندسة البيولوجية، ومستوطنات الفضاء. تتسم هذه المسائل بالقدرة على التغيير السريع، وتعذّر الرجوع عنها، والآثار المجتمعية واسعة النطاق، والأسئلة الأخلاقية الجوهرية، والإدارة المؤسسية المتأخرة. ومن الجدير بالذكر أن هناك مؤسسات مثل "مؤتمر باجواش للعلوم والشؤون الدولية" (Pugwash Conferences on Science and World Affairs)، و"مجموعة مهندسي شبكة الإنترنت" (Internet Engineering Task Force)، و"المرصد العالمي لتعديل الجينات" (Global Observatory for Gene Editing) عملت على إتاحة النقاش والمشاورات أمام فئات جديدة من المعنيين.
نحتاج اليوم إلى منتدى يركز عمله على مهماتنا وشيكة الانطلاق والمتعلقة بالفضاء، مثل بناء قاعدة دائمة على سطح القمر، أو خطط إيلون ماسك لاستعمار المريخ. لا ينبغي أن تكون الجهات الفاعلة الحكومية هي الوحيدة التي يكون لها رأي في هذه القرارات، بل نحن نتصور دعوة الجهات الفاعلة الخاصة والتجارية إلى طاولة الحوار كأقران مع الدول، وتسخير أفضل نظرياتنا في الموارد المشتركة وإدارة الموارد، وخلق مساحة آمنة لمشاركة الرؤى الطموحة واستكشاف المجهول والمشاركة في التنسيق المباشر. نحتاج إلى فرص للمشاركة على مستوى المجتمع العريض والتي تتيح النقاش والتفكير العميق الفعّال، وهو ما يشبه كثيراً المسائل المتعلقة بالهندسة الوراثية والأسلحة النووية. هذا الأمر حيوي ليس فقط من أجل مهماتنا على سطح القمر ولكن من أجل مستقبلنا أيضاً الذي يزداد ترابطاً مع الأرض.
سوف تتيح هذه العملية إجراء حوار مدني مستمر يستخدم النقد للارتقاء بالمهمات الهندسية الرائدة وإيصال المعلومات لها، وسوف تتميز باستكشاف وسائل عملية لمستقبلنا المشترك، بالإضافة إلى صياغة اتفاقيات مشتركة حول الشمولية والشفافية وإفساح المجال للاختلاف.
من أجل تجنب أن تصبح مخاوفنا من الاستعمار الأعمى حقيقة واقعة، فقد حان الوقت للتخلي عن نموذج البطل المستكشف ورؤية أنفسنا كجزء من فريق. ومع وجود كل الآراء والضوابط على طاولة الحوار، يمكن تحويل أفكارنا المشتركة حول مجتمع أفضل إلى واقع ملموس. إنها فرصة لتشكيل مجتمع إنساني يتميز بالشمول والفاعلية، وتكوين رؤية أفضل للمكان الذي سوف نذهب إليه والطريقة التي سوف توصلنا إلى هناك.
إذا أردنا خلق مستقبل في الفضاء نؤيد جميع أبعاده، فنحن بحاجة إلى أن نشمر عن سواعدنا وننخرط في هذا الشأن. إذاً، دعونا نعمل على صياغة حكاية جديدة حول الاستكشاف؛ لنكن "جميعنا" داروين، ولنساعد "جميعنا" في التخطيط للرحلة، ولنخفف الضغط على الأفراد من خلال بناء فريق.