يواجه الناس مشاكل كثيرة في استخدام العديد من الحلول المتعلقة بالأدوات أو المنتجات أو الخدمات، ويحبطون منها ويتوقفون عن استخدامها كونها لا تلبي احتياجاتهم أو لا تتلاءم مع قدراتهم. وعادة ما تنبع هذه المشاكل من أن مصمميها لم يُشركوا الإنسان -عبر سؤاله أو ملاحظته- أثناء عملية تصميم الحلول. ونتيجة لذلك، ظهرت الحاجة إلى وضع الإنسان في محور عملية تصميم الحلول؛ أي جعل الإنسان -باحتياجاته وقدراته ومعتقداته وقيمه ورغباته وتفضيلاته وتوقعاته ومواقفه وسلوكياته وتصوراته وانتماءاته وبيئته- في مركز عملية حل المشكلات. وقد أدت تلك الحاجة إلى بروز فلسفة في الفضاء المعرفي أطلق عليها فلسفة "التصميم المتمحور حول الإنسان" (Human-Centered Design، واختصاراً: HCD). وتهدف هذه الفلسفة إلى فهم الإنسان أولاً ومن ثم تصميم الحلول بناء على ذلك.
مراعاة الاحتياج الإنساني في تصميم الحلول منذ القدم
منذ القدم، تم تصميم العديد من الأشياء التي يستخدمها الإنسان بشكل يراعي احتياجاته وقدراته؛ حيث راعى الحرفيون والمهنيون احتياجات الإنسان عند تصميم الملابس والأدوات والمساكن. ولو أخذنا "الفأس" كأحد الأدوات الأساسية التي استخدمها الانسان منذ القدم، سنجد في بعض الحالات التصميمية أنها تصنع بيد خشبية بطول وعرض ملائم من أجل الاستخدام السهل، وسن حادة لكي تقوم الأداة بقطع الأشجار بفاعلية، ووزن مناسب من أجل الحمل بشكل مريح، وهذه كلها مراعاة للاحتياج الإنساني والقدرة البشرية.
ولو تناولنا ساعة الفيل كمثال روبوتي قديم، وهي تعد ساعة دقيقة ميكانيكية اخترعها العالم الجزري (1136م - 1206م)، فقد تم تصميم المزولة التي تتضمن عدداً من الدوائر بطريقة تساعد على فهم الإنسان لعدد الساعات المنقضية، وطائر العنقاء الذي يدور كل نصف ساعة مصحوباً بصوت لتنبيه الأشخاص بمرور نصف ساعة؛ ما يعني أنه أخذ في الاعتبار الحاجة والقدرة البشرية عند تصميم ساعة الفيل.
ولكن يجب الانتباه أن الاستشهاد بالفأس وساعة الفيل هو فقط للإشارة لقِدَم مراعاة الاحتياجات والقدرات الإنسانية عند تصميم الحلول باعتبار ذلك أمراً منطقياً وممارسة إنسانية بديهية. كما أن الاستشهاد لا يعني أن تصاميم الحلول القديمة يراعى فيها كل الاحتياجات والقدرات الإنسانية بشكل مثالي، وخاصة أنه لم يكن هناك فلسفة أو منهج أو أساليب علمية يتم استخدامها لتصميم حلول تلبي الاحتياج الإنساني.
فلسفة التصميم المتمحور حول الإنسان
ظهر مصطلح وفلسفة التصميم المتمحور حول الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين، وتطور مجاله المعرفي حتى أصبح أحد أهم الفلسفات في التصميم في وقتنا الحاضر. ومن الجدير بالذكر أنه سبق ظهور هذه الفلسفة مجال علمي يسمى الأرغونوميات والعوامل البشرية (Ergonomics & Human Factors) أو الهندسة البشرية وهو علم يختص بدراسة التفاعل ما بين الإنسان والعناصر الأخرى وملاءمة المنتجات والأنظمة والمهام وغير ذلك، لتتوافق مع طبيعة الإنسان واحتياجاته.
ويعد التصميم المتمحور حول الإنسان نهجاً لحل المشكلات؛ حيث يتم استخدامه في الأطر التي تهدف إلى تطوير حلول للمشاكل من خلال محورة المنظور الإنساني في جميع خطوات عملية حل المشكلات. وتركز عملية التصميم المتمحور حول الإنسان على حل المشكلة الصحيحة أو المشكلة الجذرية المسببة للأعراض، وعلى حل المشكلة بطريقة تلبي احتياجات الإنسان. ويتم في العادة إشراك الإنسان (المستفيد من الحل) أثناء محاولة فهم المشكلة في السياق المتعلق بها، وأثناء عملية توليد الأفكار للمشكلة، وإبان مراحل تطوير وتنفيذ وتقييم الحل.
كيف يتميز التصميم المتمحور حول الإنسان عن غيره من أساليب حل المشكلات؟
يتميز التصميم المتمحور حول الإنسان عن غيره من أساليب حل المشكلات بتركيزه الشديد على فهم منظور الأشخاص الذين يواجهون المشكلة، واحتياجاتهم، وما إذا كان الحل الذي تم تصميمه لهم يلبي احتياجاتهم بشكل فعال أم لا. ويعد الأشخاص الذين لهم علاقة رئيسية بالمشكلة جزءاً محورياً خلال عملية تصميم حل المشكلة؛ حيث يتم فهمهم بشكل عميق عبر عدة أساليب، وقد يصل الأمر حتى بجعلهم جزءاً من فريق تصميم الحل.
وبناء على ذلك، فإن التصميم المتمحور حول الإنسان يختلف عن العديد من المسالك التي يتم انتهاجها في تصميم الحلول دون اعتبار للمنظور الإنساني؛ فهو -على سبيل المثال- يختلف عن النهج الذي يشرع فيه الشخص بتصميم الحلول دون النظر في احتياجات وقدرات وسلوكيات البشر ومن ثم محاولة القيام بإجراءات من أجل أن يتبنى البشر تلك الحلول، أو النهج الذي يتم فيه تصميم الحلول تبعاً للتطورات التكنولوجية أو التوجهات السوقية ومن ثم محاولة العمل على تسويقها للأشخاص وحثهم لتغيير سلوكياتهم وعاداتهم تبعاً لما تم تصميمه في تلك الحلول، أو النهج الذي يتجاهل الإنسان عند تصميم الحلول ومن ثم يُتبِع التصميم بدورات لتعليم الأفراد كيفية استخدام تلك الحلول وطرق التعامل مع المشاكل أو الصعوبات المتعلقة بها.
التصميم المتمحور حول الإنسان في سياق الأنظمة الحاسوبية
وخلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر تم تبني فلسفة التصميم المتمحور حول الإنسان في حقول التصميم المتعددة مثلاً في تصميم التجربة والتصميم الصناعي وتصميم التفاعل. وقد استخدم التصميم المتمحور حول الإنسان في سياق تطوير الأنظمة الحاسوبية التفاعلية، حيث تم تعريفه من قِبل المنظمة الدولية للمعايير على أنه "نهج لتطوير الأنظمة التفاعلية يهدف إلى جعل الأنظمة قابلة للاستخدام ومفيدة من خلال التركيز على المستخدمين واحتياجاتهم ومتطلباتهم، (والأخذ في الاعتبار) بالعوامل البشرية/الأرغونوميات، (وتطبيق) المعرفة والأساليب المتعلقة بقابلية الاستخدام". ويتم النظر إلى نهج التصميم المتمحور حول الإنسان على أنه يعزز الفاعلية والكفاءة، ويحسن رفاهية الإنسان، ورضا المستخدم، وإمكانية الوصول، والاستدامة، ويتصدى للآثار الضارة المحتملة للاستخدام على صحة الإنسان وسلامته وأدائه.
التصميم المتمحور حول الإنسان في ظل التقدم والابتكار التقني المتسارع
وقد استُخدِم نهج التصميم المتحور حول الانسان لترويض التقنيات، وجعلها قابلة للاستخدام البشري؛ ما أسهم في تبنِّي وقبول الكثير منها من قبل الأفراد والمنظمات والدول. وبما أن الموجات التقنية مستمرة ولا تكاد تهدأ، وفي ظل التقدم والابتكار التقني المتسارع، كان لزاماً على المجتمعات المتخصصة وخاصة مجتمعات التفاعل البشري الحاسوبي أن تعمل بدأب لمواكبة الثورات التقنية والابتكارات الرقمية المستمرة، وذلك من أجل جعل تجربة البشر للتقنيات الجديدة والناشئة والابتكارات الرقمية سلسة وسهلة ومفيدة وممتعة ومسعدة ومشوقة ومحفزة ومرنة وغير ذلك من الصفات التي ترتبط بالتجربة الإنسانية للتقنية.
الذكاء الاصطناعي المتمحور حول الانسان
نشهد تطور الذكاء الاصطناعي بشكل متسارع بفضل الاعتقاد البشري على مستوى الأفراد والمؤسسات والحكومات بأهميته، بالإضافة إلى الممكنات الحديثة من التقنيات والسياسات وغيرها التي أدت إلى النمو غير المسبوق في أنظمة الذكاء الاصطناعي. وقد بدأ الذكاء الاصطناعي يؤثر على حياتنا جميعاً وأصبح واقعاً في العديد من القطاعات، مثل الرعاية الصحية، والاعلام، والإسكان، والاقتصاد والتخطيط، والمياه والزراعة، والبيئة، والتعليم، والثقافة، والطاقة، والموارد البشرية، والنقل، والرياضة، والسياحة، والإدارة العامة، والعدل والقانون، والمالية، وغير ذلك.
ولكن يجب لهذا التطور والنمو المتزايد في أنظمة الذكاء الاصطناعي أن يواكبه توسعٌ في أساليب وتقنيات وأدوات ونماذج التصميم المرتكز حول الإنسان للذكاء الاصطناعي؛ من أجل الاستفادة القصوى من هذه التقنية. وتركز اليوم الكثير من أدبيات الذكاء الاصطناعي على الجانب التقني، وتهمل العامل البشري الذي يعد أساس نجاح أنظمة الذكاء الاصطناعي.
وبما أن خطاب الذكاء الاصطناعي الحالي في جله يركز على الجانب التقني، فإنه لن يكون مُستغرباً أن تأتي تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي بفجوات عديدة تؤثر على تبني وقبول وتفاعل المستخدم مع الذكاء الاصطناعي، مثل التعتيم الخوارزمي، والإجحاف الخوارزمي، والإقصاء الخوارزمي، والضبابية المتعلقة بالمسؤولية عن القرار الخوارزمي، وصعوبة استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، وغياب القيمة والفائدة من الذكاء الاصطناعي، وغير ذلك.
ومن أجل معالجة القضايا المتعلقة بالمستخدم، يجب أن نرى خطاباً متيناً في الأدبيات ينادي بأنظمة ذكاء اصطناعي متمحورة حول الإنسان وأن يتم تقوية منطقة البحث التي تعنى بموضوع تصميم التفاعل البشري مع الذكاء الاصطناعي مع إعادة صياغة أجندتها لتغطي كافة الأبعاد ذات العلاقة بالموضوع، وأن يتم الانتقال من المستويات المفاهيمية والتنظيرية الحالية المتعلقة بتصميم التفاعل البشري مع الذكاء الاصطناعي إلى المستويات التطبيقية والعملية ضمن "صناعة" الذكاء الاصطناعي.
إن البشرية اليوم تتطلع لتطبيقات ذكاء اصطناعي تدفع بالتنمية للأمام في كافة المجالات، وتسهل حياة الإنسان، وتسهم في رفاهيته، ولكي تنجح تلك التطبيقات يجب أن تحل كافة قضايا المستخدم. على سبيل المثال، يجب أن يجلب الذكاء الاصطناعي منفعة وقيمة حقيقية للمستخدم، وأن يكون ميسراً للاستخدام، وعادلاً وغير متحيزاً، وقابلاً للتفسير. ومن أجل الوصول لذلك، يجب أن يكون الإنسان (المستخدم) دائماً محوراً وشريكاً في عملية بناء تلك التطبيقات.