في ظل ازدياد عدد سكان العالم، وارتفاع الطلب على الطاقة، قدَّم مجموعة من الخبراء رؤاهم حول آفاق قطاع الطاقة والتحوُّل الذي سيمر به في المستقبل القريب.
وأثناء فعاليات مؤتمر إيمتيك مينا لعام 2018 -الذي نظمته مؤسسة هيكل ميديا بالشراكة مع مؤسسة دبي للمستقبل، في دبي بتاريخ 23-24 سبتمبر- ناقش هؤلاء الخبراء الطرق المبتكرة والإبداعية لتوليد الطاقة وتخزينها واستخدامها بغرض حلِّ التحديات الحاسمة التي تواجه المجتمعات المستقبلية.
وفي معرض النقاش، قال دونالد سادواي (الأستاذ بجامعة إم آي تي بالولايات المتحدة): "ما من تقنية دون كهرباء، فحيثما ترى الضوء يمكنك توقُّع حضارة حديثة، ومن المفترض حقاً -إن أردنا إنشاء حضارة عصرية مستدامة- أن تكون مصادر الكهرباء مستدامة".
ولتحقيق هذا الغرض تركِّز الأمم المتحدة على 17 هدفاً في التنمية المستدامة، يتمثل أحدها في ضمان حصول الجميع على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة والمستدامة بتكلفة ميسورة (الهدف 7)، وأحد المقاصد الفرعية لهذا الهدف تتضمن "تقديم خدمات الطاقة الحديثة والمستدامة للجميع". كما يعتقد البروفسور سادواي أن "تخزين الطاقة" هو العنصر الأساسي لتحقيق هذا الهدف، وهو يبرر ذلك بقوله: "إن تخزين الطاقة يتيح لنا أن نعالج مشكلة التقطُّع التي تعاني منها مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. لكننا نستطيع -بتقنيات تخزين مناسبة- أن نستفيد من الطاقة الشمسية حتى لو كانت السماء مغيمة، مما سيتيح لنا إنشاء شبكة طاقوية شاملة وغير متقطعة. ولذلك ينبغي على الإمداد بالطاقة أن يكون مستمراً وفي توازن مثالي بين الطاقة المتوافرة والطلب الناشئ، لأننا إن كنا نملك طاقة شمسية تفوق الطلب المتوقع عليها فلن يفيدنا ذلك في شيء؛ لأنه سيرفع من حدة الجهد الكهربائي، وسيجبرنا على التعامل مع هذه الطاقة الفائضة عن الحاجة، مما سيضر بالبنية التحتية، ومن ثم يضرنا".
ويؤكد البروفسور سادواي على أهمية التخزين ليس فقط بالنسبة للشبكات الطاقوية التي ستعتمد على المصادر المتجددة فحسب، بل في شبكتنا الطاقوية الحالية، حيث إن هذا سيجعلها ذات كفاءة عالية. لكن الانتقال من المختبرات ومراكز البحوث إلى السوق التجارية رحلة طويلة وصعبة، وبهذا الصدد يقول البروفسور سادواي: "لا بد على بطاريات التخزين التي ستستخدم في شبكات الطاقة الكهربائية أن تدوم لمدة عقود وليس مجرد أشهر، كما ينبغي أن تكون آمنة، ولا بد أيضاً من أن تكون مرنة من ناحية التشغيل، وأن تكون تكلفة صناعتها معقولة".
والطريق نحو إنشاء تقنية تخزين مناسبة لا يقتصر على هذا فحسب، بل ينطوي أيضاً على تسخير العلوم الكيميائية لاستغلال المواد التي يزخر بها كوكبنا، ويتابع البروفسور سادواي قائلاً: "إن أردت صناعة شيء رخيص رخص التراب، فلا بد أن تصنعه من التراب أصلاً، ويفضَّل أن تكون المواد التي ستصنعها منه متوافرة محلياً وسهلة التصنيع. ولهذا أرى أن بطاريات الليثيوم ليست مجدية، فهي معقَّدة للغاية، وتتطلب منك أن تفكر في التصميم وأنت لا تزال في مرحلة الاستكشاف. كما أن عملية الابتكار صعبة للغاية في هذا القطاع، لكننا ما زلنا نأمل في إيجاد طريقة أخرى ضمن البحوث التي نجريها في معهد إم آي تي، حيث نسعى لابتكار بطاريات لا تسخن كثيراً، وتستطيع أن تخزن الكثير من الطاقة، ويكون تصنيعها غير مكلف".
ويرى فيكيل براشيت (أستاذ الهندسة الكيمائية في معهد إم آي تي) أن الحصول على هذه المزايا في قطاع بمثل هذا التعقيد يعتمد على عدة عوامل تقنية واجتماعية وسياسية، حيث يقول: "إن أي حل مقترح للتخزين سيواجه حتماً كل هذه العوامل، وإذا تأملنا في الطلب العالمي المستقبلي على الطاقة، فسنجد أن كثيراً من التطورات التي شهدها العالم كانت مدفوعة بوفرة الطاقة وغنى الأرض بالوقود الأحفوري، لكن هذه الوضعية لن تظل آمنة مع مرور الزمن، بل ستصير تحدياً، وهذا ما يجعل من الضروري أن نحدَّ من الانبعاثات الكربونية".
وفي ظل تفاقم العواقب الوخيمة للتغير المناخي، تبرز الحاجة الملحَّة إلى الحد من الانبعاثات الكربونية دون الإضرار بالنمو الاقتصادي، والحفاظ على مستوى صحي من نقاوة الهواء الذي تقل جودته يوماً تلو آخر نتيجة التوسع العمراني، ونظراً لأنها معركة متعددة الجبهات فإن وضع حلول لها يصبح أمراً صعباً للغاية. وبهذا الصدد يقول البروفسور براشيت: "يتعلق الأمر بالطريقة التي نولِّد بها الكهرباء ونغذي بها خطوط النقل ونمدُّ بها المصانع. وقد أحرزنا بعض التقدم بالفعل؛ ففي غضون السنوات العشر الماضية شهدنا انخفاضاً هائلاً في تكلفة توليد الطاقة من الشمس والرياح".
ويشير البروفسور براشيت إلى أن دور الطاقات المتجددة في تزايد بوتيرة سريعة، كما أن انتشارها وتطبيقها على نطاق واسع يعد عاملاً حاسماً في مجتمعاتنا المستقبلية، إلا أن التحدي بشأن هذه الطاقات المتجددة يكمن في "التقطع"، حيث يقول البروفسور براشيت: "إن هناك مناطق في العالم حتى لو كنا نملك فيها طاقة كافية من الرياح والشمس، إلا أنها تظلُّ غير متوازنة مع الأماكن التي نخزن فيها هذه الطاقة، كما أننا نجد مناطق أخرى لا تملك ما يكفيها من مصادر الطاقة المتجددة. ولا يخفى عليكم أن عمليتَيْ توليد الطاقة والطلب عليها وثيقتا الصلة ببعضهما البعض، فكيف إذن سنحل هذه المشكلة؟".
من بين الحلول المقترحة للاستفادة القصوى من إمكانيات الطاقات المتجددة هو إدخال هذا التيار المتقطع من الإلكترونات في عملية "صندوق أسود" تحولها إلى تيَّار مستمر من الطاقة الكهربائية دائمة التدفق، ويعلق البروفسور براشيت على هذا قائلاً: "إن مجال التقنيات الإلكترو-كيميائية يحمل آفاقاً واعدة بشأن هذا الحل، ونحن نستخدمها الآن بالفعل في مجالات شتى، وإليها يعود الفضل في صنع الأجهزة المحمولة وخلايا الوقود وبعض العمليات الصناعية الأخرى مثل الصهر وما شابه".
لكننا إن أردنا تطبيق هذا الحل فلا بد أن نخفِّض من تكاليفه، ونرفع من مستوى متانته وصلابته وتطبيقه على نطاق واسع، حيث يقول البروفسور براشيت: "إن البطاريات لا تمثل -للأسف- إلا نسبة 1% أو أقل من شبكة تخزين الطاقة الكهربائية، وأكثرها يتم بالتخزين الضخِّي، ولا غرابة في ذلك، بل علينا أن نتعلم من سرِّ نجاحها، فطريقة التخزين الضخي هذه تكمن في توليد الكهرباء باستخدام تدفق السوائل من خلال توربين (وهي معدَّات غير مكلفة إلى حد ما)، وبالتالي -ومع طول مدة تخزين الطاقة- تصبح سعة التوربين أصغر كثيراً من سعة تخزين الطاقة، ومن ثم نستطيع الفصل بين هذه الطاقة وبين القوة، مما يخفِّض سعر توليد الكهرباء".
وقد شمل النقاش أيضا ذكر الطاقة النووية، نظراً لقدرتها على توليد كميات هائلة من الطاقة. إضافة إلى أن الطاقة المولَّدة باستخدام كميات منخفضة من الكربون لا تقتصر على المصادر الطبيعية فقط، بخلاف طاقة الشمس والرياح، كما أنها لا تسبب أي تلوث بيئي كذلك. وبهذا الشأن قالت الدكتورة لين وين هو (مديرة قسم الأبحاث والخدمات في مختبر المفاعلات النووية بمعهد أم آي تي): "كان البشر -طَوال سنين كثيرة- يحرقون الفحم لأغراض التدفئة، أما الطاقة النووية فنحن نستخدمها منذ عدة عقود من الزمن، وقد أثبتت موثوقيتها لفترة طويلة، وهي تلبي بشكل وافٍ الطلبَ المتزايد على الطاقة الذي يشهده العالم".
ونحن نجد حالياً -ووفق الإحصائيات- أن أكثر من 90% من محطات الطاقة النووية في جميع أنحاء العالم تولد الطاقة باستخدام مفاعلات الماء الخفيف "LWR"، وتعلِّق الدكتورة لين على هذا قائلةً: "نشأت هذه التقنية أولاً من أجل استخدامها في التطبيقات العسكرية قبل أن ينتشر استخدامها في جميع أرجاء العالم، لكن العالم شَهِد -مع مرور الزمن- تطوراً تقنياً ثورياً في مجال الطاقة النووية، ولذلك لا بد أن نواجه السؤال المطروح هنا، وهو: هل ينبغي علينا التخلي عن هذا النوع من المفاعلات أم لا؟ ولا بد أن نلاحظ هنا أن تقنية المفاعلات الحالية محدودة، نظراً لاحتياجها لنظام مضغوط".
وبهذا الصدد تقول الدكتورة لين إننا إذا طوَّرنا مفاعلات نووية جديدة وأكثر تقدماً، فسنحصل على الكثير من المنافع والمزايا، منها إمكانية أن نشغِّلها في بيئات أكثر حرارة بكثير مما تشتغل فيها المفاعلات الحالية، وإمكانية أن ننتج المزيد من الطاقة الكهربائية، وأن نستعملها كمصدرٍ مباشر للتسخين الذي تحتاجه المناجم ومواقع التعدين.
وتضيف الدكتورة لين: "من شأن هذه المفاعلات الجديدة المتطورة فتح آفاق عظيمة في مجالات التصنيع المختلفة، ولذلك تدرس الولايات المتحدة تصميماً جديداً للمفاعلات يُدعى: المفاعلات البنيوية الصغيرة؛ نظراً لقدرتها على سد ثغرات سوق الطاقة بفعالية عالية". وتشمل التقنيات الناشئة -التي أشارت لها الدكتورة- مستشعراتٍ صغيرة، وتحكماً رقمياً، وشبكة لاسلكية، كما أن التصاميم الجديدة تتضمن تحسينات معززة للسلامة والأمان، وعمليات مراقبة نظام المفاعل الصغير، فضلاً عن تضمُّنها "تعلم الآلة"، الذي من شأنه توقُّع سلوك المفاعل بشكل استباقي، لضمان عمله بشكل مستدام وآمن.