استهلاك بيتكوين للطاقة
ما زالت العملة المشفرة الرقمية الأصلية، بيتكوين، تستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام بعد أن كسرت قيمتها الرقم القياسي مراراً وتكراراً. كما أنها أصبحت محل جدل متزايد بسبب تأثيرها البيئي. وعلى سبيل المثال، فإن إيلون ماسك، مالك شركة تسلا لتصنيع السيارات الكهربائية ورئيسها التنفيذي السابق، وأحد أبطال الطاقات المتجددة المعروفين، تعرض لانتقادات حادة بسبب استثماره في عملة البيتكوين. ويعود هذا إلى كون متطلبات الطاقة الكبيرة لبيتكوين تتضارب مع توجهات التنمية. وبالفعل، وحتى 2021، فإن شبكة بيتكوين تستهلك من الطاقة كل سنة ما يعادل دولة هولندا، كما أن الأثر الكربوني لكل تعامل بالبيتكوين يكافئ الأثر الكربوني لما يصل إلى 1,218,903 تعامل ببطاقات فيزا.
ومع تصاعد شعبية الشبكة في السنوات الأخيرة، تزايدت حاجاتها إلى الموارد بنسبة كبيرة، ومن المُفترض أن تواصل تزايدها هذا. وهو ما يثير عدة مخاوف حول تأثيراتها المحتملة على الصحة والمناخ. فإذا تُركت عمليات تنقيب بيتكوين وشأنها دون قيود أو تنظيم، فقد تؤدي إلى إعاقة جهود إزالة الكربون بدرجة خطرة. وعلى سبيل المثال، يقع التنقيب ضمن المراتب العشر الأولى من حيث الاستهلاك في الصين من بين 182 مدينة و42 قطاعاً صناعياً.
وإضافة إلى هذه المسائل الحساسة، التي تناقشها وسائل الإعلام بكثافة، نقول أيضاً إن بيتكوين يجب أن تنتقل إلى ممارسات أكثر استدامة حرصاً على قيمتها الاستثمارية، وبقائها لفترة طويلة.
حوكمة بيتكوين وإثبات العمل
تُعد البيتكوين من العملات الرقمية غير الملموسة. ولهذا، يمكن نسخها بسهولة، ما يعني أنها تحتاج إلى نظام لتفادي "الإنفاق المضاعف". يتم هذا عبر سجل عام، يسمى بلوك تشين، حيث تُسجل جميع التعاملات المتعلقة بهذه العملة منذ ظهورها. ولهذا، يمكن تتبع كل عملة منفردة إلى لحظة تشكيلها، عبر جميع تعاملاتها واحداً واحداً، وعبر عدة مالكين ومحافظ رقمية. ولهذا، لا يمكن نسخ البيتكوين.
وُصفت فكرة البلوك تشين للعملات المشفرة لأول مرة من قِبل المخترع الغامض للبيتكوين، ساتوشي ناكاموتو. ويُعتقد أن الاسم نفسه ظهر مع شبكة البيتكوين، حيث لا تتم معالجة التعاملات فردياً، بل يتم تجميعها ومعالجتها ضمن كتل من التعاملات. وحتى تصبح الشبكة أكثر مقاومة للتغيرات، تحتوي كل كتلة أيضاً على رقم تجزئة فريد من نوعه يشير إلى الكتلة السابقة. وبهذا، ترتبط كل كتلة بالكتلة السابقة واللاحقة، ما يؤدي إلى تشكيل سلسلة.
تُدار البلوك تشين من قبل شبكة من الحواسيب المتصلة طرفاً إلى طرف، تسمى بالعقد. ويجب أن تلتزم كل عقدة ببروتوكول مفتوح المصدر لإدارة البلوك تشين بأكملها. ويسمى البروتوكول الذي يحدد كيفية تسجيل الكتل في السجل بالإجماع، الذي يشير إلى ضرورة اتفاق أغلبية العقد في الشبكة على الحالة الصحيحة للبلوك تشين. تمثل بروتوكولات الإجماع أيضاً حافزاً يحث العقد على الحفاظ على عمل الشبكة. فعندما تُسجل كتلة جديدة في السلسلة، يقوم البروتوكول بتأسيس عملات بيتكوين جديدة تُقدم كمكافأة إلى العقدة التي أكدت الكتلة.
ويُبنى بروتوكول الإجماع في بيتكوين على "إثبات العمل"، الذي يُعرف أيضاً باسم التنقيب. ولهذا، غالباً ما يُطلق على عقد بيتكوين اسم المناجم. يتضمن التنقيب بشكل أساسي إيجاد حل لمسألة تشفير معقدة. ونظراً لهذا التعقيد، لا يمكن العثور على الحل سوى بطريقة المحاولة والخطأ، أي توليد العديد من الإجابات حتى تخمين الإجابة الصحيحة.
تحتاج العملية إلى حِمل "عمل" ثقيل، يحتاج إلى قدرات حاسوبية ضخمة، ما يعني أنه مكلف للغاية ويستهلك كميات ضخمة من الطاقة. ولكن، لماذا تزايدت كميات الطاقة المستهلكة؟
الصعوبة واستهلاك الطاقة
عندما تعثر العقدة على الحل، يجب أن تقوم كافة العقد الأخرى بالمصادقة عليه. ومن المثير للاهتمام أن مصادقة حل صحيح أمر سهل للغاية. وعندما تؤكد أغلبية العقد صحة الحل، تُسجل كتلة التعاملات على السلسلة وتُشكل كتلة جديدة فيها. ويعتمد بقاء الشبكة بشكل أساسي على هذا. فإذا تمكن منقب واحد أو مجموعة من المنقبين المتفقين من التحكم بأكثر من 50% من الاستطاعة الحاسوبية، فمن الممكن أن يتدخلوا في تعاملات بيتكوين ويقوموا بالمصادقة عليها إفرادياً، وهو ما يسمى بهجوم 51%، وقد يؤدي إلى تقويض الشبكة بصورة خطيرة.
بيتكوين مصممة لتوليد كتلة كل عشر دقائق. غير أن توليد الكتلة الجديدة يعتمد على حل مسألة عشوائية. ولهذا، فإن تطور الحواسيب المستخدمة في التنقيب يعني إمكانية إيجاد الحل بسرعة أكبر. ولإضفاء الاستقرار على توليد كتل جديدة، تقوم الشبكة بتعديل صعوبة المسألة. ولتعويض زيادة سرعة العتاد الصلب المستخدم وتغيرات تشغيل العقد عبر الزمن، يتم تحديد صعوبة إثبات العمل عبر متوسط متغير يستهدف قيمة محددة لمتوسط عدد الكتل في الساعة. فإذا تم توليد الكتل بسرعة كبيرة، تزيد الصعوبة. وبالتالي، فإن زيادة عدد العقد وزيادة قدرة كل عقدة يعني زيادة الصعوبة.
عادة ما يستخدم المنقبون حواسيب خاصة التصميم، تسمى بالمنصات. وعند إضافة استطاعة حاسوبية جديدة إلى المنصة، لا تزيد المكافأة، ولكن توزيعها يتغير؛ حيث إن فرصة النجاح في تشكيل كتلة جديدة يتناسب طرداً مع حصة المنقب من الاستطاعة الحاسوبية الكلية. ولهذا، فإن كل منصة جديدة تؤدي إلى تخفيض احتمال النجاح لدى الآخرين. وهو ما أدى إلى ظهور منافسة في الاستطاعة الحاسوبية، بشكل أقرب إلى سباق تسلح. وللحفاظ على القدرة التنافسية، يستبدل المنقبون منصاتهم كل 18 شهراً. وبالتالي، فإن البيتكوين تؤدي إلى توليد كمية سنوية من النفايات الإلكترونية تضاهي ما تولده اللوكسمبرج، أي ما يكافئ 134.5 جرام من النفايات الإلكترونية لكل تعامل.
وكما ذكرنا سابقاً، تولد الشبكة بيتكوين جديدة كل عشر دقائق. إضافة إلى ذلك، فإن العدد الكلي للبيتكوين لا يتجاوز 21 مليون. ولهذا السبب، وعند تزايد الطلب على البيتكوين، يجب أن يزيد السعر، بما أن العرض محدود ومقيد. وما أن يحدث هذا، يزيد الدافع لدى المنقبين لحل مسائل التشفير، ما يؤدي إلى استثمار أكبر في منصات جديدة. وعلى حين أن ديناميكية التنافس تزيد من الصعوبة وتحافظ على استقرار توليد كتل جديدة، فإنها تؤدي أيضاً إلى زيادة متطلبات الطاقة للشبكة.
إضافة إلى الحفاظ على استقرار تشكيل العقد الجديدة، فإن زيادة الصعوبة تساعد في الحفاظ على أمان الشبكة. وكلما زادت صعوبة المسألة، أصبح إطلاق هجوم 51% أكثر صعوبة وتكلفة.
التحديات المقبلة
مع انتقال بيتكوين إلى حيز الاستخدام العام، يمكن أن يتحول تأثيرها البيئي إلى خطر داهم. وعلى حين أن بيتكوين يمكن أن تحسن عائد المخاطرة في محفظة ملكيات استثمارية منوعة، فإنها تزيد الأثر الكربوني. وتتوقع شركة بلاك روك، وهي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، انتقالاً سريعاً وكبير الحجم لرؤوس الأموال نحو استثمارات مستدامة. وقد أسس مجلس الاستقرار المالي مجموعة خاصة للكشوف المالية المتعلقة بالمناخ، وذلك لتطوير معيار عالمي لقياس الأثر الكربوني للمحافظ الاستثمارية. ومع انتقال المستثمرين نحو الاستدامة، فقد يصبح الأثر البيئي للبيتكوين عبئاً ثقيلاً. إضافة إلى ذلك، فإن التصاعد المتواصل لاحتياجات الطاقة تكشف عيباً خفياً في بيتكوين؛ حيث إن تكاليف تخزين الأصول المالية أو التجارة بها لا تزداد عادة مع زيادة قيمتها. أما بيتكوين، فتصبح أعلى تكلفة مع ازدياد قيمتها.
تتراوح قيمة تنقيب بيتكوين واحدة ما بين 5,000 دولار لمجموعات التنقيب الكبيرة و8,500 دولار للمنقبين الأفراد، مع وجود اختلافات كبيرة بين البلدان تبعاً لتكاليف الكهرباء. وبقيمة سوقية حافظت على قيمة مستقرة نوعاً ما فوق 30,000 دولار في 2021، فهناك حافز قوي لتركيب منصات جديدة. وكما ذكرنا سابقاً، فإن هذا سيؤدي إلى زيادة الصعوبة لمنع التركيز الزائد للاستطاعة الحاسوبية في أيدي بضعة منقبين. ولكن، وفي 2020، أدى النقص العالمي في الشرائح الميكروية إلى ارتفاع أسعار المنصات؛ ما أدى إلى إخراج المنقبين الصغار من المنافسة وتسارع تشكل التجمعات في هذه الصناعة. وفي 2020، كانت أكبر أربعة مجموعات تنقيب (مجموعات من المنقبين الذين يعملون بشكل منسق) تقوم بتشكيل أكثر من نصف إجمالي الكتل الجديدة. ولكن التركيز لم يصل إلى درجة إمكانية إطلاق هجوم 51%. ولكن، وبما أن أغلب المجموعات الكبيرة موجودة في الصين، وبما أن الحكومة الصينية تقرض قيوداً على تنقيب البيتكوين، فقد يؤثر هذا بشكل كبير على مرونة وفعالية الشبكة. وقد تؤدي هذه المشاكل إلى حوافز عكسية تثبط المنقبين، ما قد يقوض شبكة بيتكوين في المستقبل.
بدائل أكثر استدامة
ولكن، ليست جميع العملات المشفرة شديدة الاستهلاك للطاقة مثل بيتكوين؛ فهناك بدائل أخرى لإثبات العمل. وعلى سبيل المثال، فإن إيثيريوم -وهي ثاني أكبر عملة مشفرة- تتجه نحو آلية إجماع تسمى إثبات الرهان، وهو نظام يتم فيه اختيار مستخدمين لديهم عملات مشفرة يمكن المراهنة بها (على الأقل 32 إيثيريوم في المحفظة الرقمية) بشكل عشوائي لبناء كتل جديدة، ومشاركتها مع الشبكة، والحصول على الجوائز، ما يلغي الحاجة إلى منقبي البيانات وتحديث العتاد الصلب بشكل متواصل. وهناك شبكة أخرى باسم ألجوراند، وقد قام ببنائها البروفسور سيلفيو ميكالي الحائز على جائزة تيورينج والذي يعمل في إم آي تي، وتعتمد هذه الشبكة بالكامل على إثبات الرهان. وفي هذه الحالة، يمكن لأي حامل للعملة أن يصادق على كتل جديدة، ويتناسب احتمال اختيارهم لهذا العمل طرداً مع عدد العملات التي يمتلكونها.
وبدلاً من العمل الحاسوبي المكثف، يجب على المصادقين أن يكونوا ببساطة من مالكي عملات الشبكة. ويمكن لبروتوكولات إثبات الرهان أن تحافظ على استقرار الشبكة بفعالية، ويمكن أن تمهد الطرق نحو عملات مشفرة أكثر استدامة.