سر التناقض الغريب بين التقنيات المتقدمة والنمو البطيء الذي لا يجاريها

3 دقائق

إذا نظرت حولك في أي اتجاه فسترى الأدلة على التطور التقني الكبير الذي تتقدمه التقنيات الرقمية، ويكفيك في هذا أن تشهد فقط التعقيد المتزايد للهواتف الخلوية والأنظمة الحاسوبية، والمنصات الرقمية التي تعالج المعلومات والاتصالات، وتزايُد استخدام الروبوتات والذكاء الاصطناعي. وتعتبر التكنولوجيا دافعاً أساسياً لنمو الإنتاجية؛ حيث تسمح للبشر بتحقيق مستويات أعلى من الفعالية، ولهذا يمكن أن تتساءل: ما سبب تباطؤ نمو الإنتاجية في الاقتصادات الكبيرة على مدى العقود القليلة المنصرمة بالتزامن مع صعود هذه التقنيات وتطورها؟ وكيف يمكن أن نفسر هذا التناقض الظاهري؟

ستلاحظ عند التدقيق في البيانات أن إجمالي نمو الإنتاجية قد تباطأ في معظم الاقتصادات الكبرى، ويمكن أن نرى بوضوح اتجاهاً بعيد الأمد لهذا التباطؤ منذ الثمانينيات؛ فقد شهدت بعض الاقتصادات نوبة سريعة من نمو الإنتاجية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الجديد، ويمثل هذا بشكل أساسي انعكاساً للاعتماد على الابتكارات الرقمية؛ حيث احتلت الولايات المتحدة الصدارة في هذا المجال، غير أن هذه النوبة انتهت بسرعة، وعادت الإنتاجية إلى التباطؤ ثانية، وزادت الأزمة المالية العالمية من الطين بلة. وعلى الرغم من أن تباطؤ النمو بعد الأزمة أمر طبيعي، إلا أنه موجود من قبلها، ويشير الاتجاه العام على المدى الطويل إلى وجود معامل بنيوي عميق آخر، وهو ما يؤثر سلباً على معدل نمو الإنتاجية.

ويمكننا تأمين المزيد من المعلومات الهامة عن طريق تحليل ديناميكيات الإنتاجية على مستوى الشركات، فقد تباطأت الإنتاجية بشكل عام، باستثناء الشركات التقنية الكبيرة، أما لدى الأغلبية العظمى من الشركات الأصغر فقد تراجعت الأرباح إلى حد كبير، مؤثرةً سلباً على إجمالي معدل نمو الإنتاجية.

ويمكن تلخيص تأثير هذا النمط في أن المشكلة قد لا تكون في التقنيات نفسها، بل في قلة انتشارها؛ حيث توجد عوائق تقف في وجه زيادة الإنتاجية وتمنع الانتشار الواسع للابتكارات بين الشركات، بدلاً من وجود ضعف في الابتكارات نفسها، وإن التفاوت المتزايد في الأداء الإنتاجي بين الشركات يمكنه أن يساعد على تفسير التناقض بين تباطؤ الإنتاجية الإجمالية والتطور التقني.

ومن ضمن وجهات النظر حول هذا التناقض -والتي حازت على بعض التأييد- هي أن الفكرة بأسرها وهمية؛ مما يعني أن الإنتاجية أكبر مما تبدو وفق التقديرات، وذلك لأن الإحصائيات لم تعبر عن المدى الحقيقي للأرباح من التقنيات الجديدة، كما أن المعلومات الإحصائية تتجاهل التحسينات في نوعية المنتجات وتنوُّعها، ومدى السلع والخدمات المتاحة للمستهلكين، والتي لا تحمل سعراً سوقياً (مثل عمليات البحث على جوجل)، ولكن على الرغم من أن الأبحاث أثبتت وجود تقليل في تقدير أرباح التقنيات الجديدة، إلا أن هذا المعامل لا يكفي إلا لتفسير جزء صغير من التباطؤ في النمو الاقتصادي؛ أي أن التباطؤ الإنتاجي والتناقض الناتج عنه -إلى حد كبير- ظاهرة حقيقية.

وفي نفس الوقت -ومع تباطؤ معدلات الإنتاجية- زاد التفاوت في الدخل لدى معظم الاقتصادات الكبيرة، وتشير معظم الأبحاث الحديثة إلى وجود رابط بين تباطؤ الإنتاجية وتزايد التفاوت في الدخل، مع وجود عوامل مؤثرة مشتركة تستوجب اعتماد مقاربة متكاملة من أجل تشكيل سياسة ملائمة.

ومن النواحي التي تستلزم الاهتمام هو دفع المنافسة من جديد؛ حيث يجب أن يهدف الإصلاح الإداري إلى إزالة القوانين التي تثبِّط من المنافسة، والتأكيد على تطبيق قواعد وقوانين مناسبة تمنع استغلال النفوذ في السوق.

ويجب أيضاً أن يُطال الإصلاح سياسات التكنولوجيا؛ وذلك لتحفيز الإبداع ودعم انتشاره عبر المزيد من الاقتصادات، حيث يتوجب إعادة ضبط أنظمة حماية الملكية الفكرية لتصبح أكثر توازناً، فتكافئ الإبداع وتدعم التأثير الاقتصادي واسع النطاق في نفس الوقت، كما توجد حاجة ملحَّة إلى زيادة الاستثمار الحكومي في قطاعات البحث والتطوير. وإن خلق توازن جديد بين المخاطر والأرباح المشتركة في الاستثمار الحكومي في الأبحاث سيكون على تناقض مع المنظومة الحالية ذات المخاطر الموزعة والأرباح المخصخصة.

أما الناحية الثالثة التي يجب تحسينها فهي الاستثمار في المهارات؛ حيث أدت التطورات في الرقمنة والروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى توقع سيناريوهات كارثية من فقدان الكثير من الوظائف بسبب الأتمتة، لكن المسألة الأساسية هي أن طبيعة العمل نفسها بدأت تتغير، ويكمن التحدي الأساسي في تزويد العمال بمهارات من المستوى المرتفع الذي تتطلَّبه التقنيات الجديدة، ودعمهم أثناء هذه المرحلة الانتقالية.

وبالنسبة للناحية الرابعة فهي إعادة صياغة سياسات سوق العمل والضمان الاجتماعي؛ إذ يجب أن تتكيف إجراءات مؤسسات سوق العمل والضمان الاجتماعي مع عالَم العمل الذي يتغير بشكل جذري، متجِهاً نحو نموذج يتميز بزيادة النقلات بين الوظائف، والمزيد من الناس الذين يعملون بشكل مستقل.

وتحمل التطورات في التقنيات الرقمية الكثيرَ من الإمكانيات الواعدة، ويجب أن ترقى السياسات إلى مستوى تحديات العصر الرقمي؛ من أجل تحقيق عوائد أفضل في الإنتاجية والمساواة، ويمكن أن نصل إلى مستقبل أفضل بإعادة إطلاق المنافسة، ودعم الابتكار في المجالات الرقمية، ورفع مهارات العمال وإعادة تدريبهم من جديد، وإصلاح العقود الاجتماعية.

إذن فالتحديات كبيرة، وليس من السهل إصلاح الاقتصاد السياسي، ولكن من حسن الحظ أن خيارات السياسة ليست محصورة في الإنتاجية أو المساواة، بل توجد سياسات يمكن أن تدعم كلتا الناحيتين، ويجب على صانعي هذه السياسات التعامل معهما عن طريق إصلاحات متكاملة.

المحتوى محمي