الحدائق الرقمية تتيح لك تطوير مساحتك الصغيرة الخاصة على الإنترنت

5 دقائق
مصدر الصورة: إم إس تك | ويكيميديا، بيكساباي

أثناء قيام مهندسة البرمجيات سارة جارنر بتحديث موقعها الشخصي على الإنترنت، راودها شعور مزعج يوحي بأن أمراً ما لم يكن على ما يرام؛ فالموقع لم يعطِ انطباعاً صحيحاً عن شخصيتها.

ورغم أن الموقع كان يحتوي على الروابط المطلوبة إلى أعمالها في مجال تخصصها وحساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه لم يعكس شخصيتها تماماً. وهذا ما دفعها إلى إنشاء صفحة تركز على موضوع يأسرها، وهو المتاحف. ومع أن الصفحة لا تزال قيد الإنشاء، لكن رؤيتها تهدف إلى تضمينها أفكاراً عن متاحفها المفضلة، وتوصيفاً للمشاعر التي تثيرها، ودعوة للآخرين لمشاركة أفكارهم حول متاحفهم المفضلة وما اكتشفوه فيها.

تقول جارنر: "ما أسعى وراءه هو إنشاء صفحة تمنح شعوراً بالدهشة والتواصل عبر الزمن".

مرحباً بكم في عالم "الحدائق الرقمية". إن هذا النوع من عمليات إعادة التصور الإبداعية للمدونات قد فرض سطوته على أنحاء الإنترنت الأكثر غرابة، مزعزعاً أساليبها التقليدية. وتقوم فيه حركة متنامية من الأشخاص بتوظيف رماز برمجي يعمل في الخلفية لإنشاء مواقع أكثر شبهاً بالملصقات المصورة والأعمال الفنية، على غرار موقعي مايسبيس وتمبلر، وبشكل أقل قابلية للتنبؤ وأقل تنسيقاً من فيسبوك وتويتر. تستكشف الحدائق الرقمية مجموعة متنوعة وواسعة من الموضوعات، ويتم تعديلها وتغييرها باستمرار لإظهار التطور والتعلم، لا سيما بين الأشخاص ذوي الاهتمامات المتخصصة. ومن خلال هذه الحدائق الرقمية، يقوم الناس ببناء إنترنت أقل تركيزاً على العلاقات وردود الفعل وأكثر اهتماماً بالمساحات الهادئة الخاصة بهم التي تعبِّر عن شخصياتهم.

"لكل شخص اهتماماته الغريبة والفريدة"

ربما لم تكتسب الحركة زخماً إلا الآن، لكن جذورها تعود إلى عام 1998، عندما طرح مارك بيرنشتاين فكرة "حديقة النص التشعبي"، داعياً إلى توفير مساحات على الإنترنت تتيح للشخص الخوضَ في المجهول. وقد كتب بيرنشتاين: "تقع هذه الحدائق فيما يشبه منطقة وسطى بين الأراضي الزراعية والبرية؛ فهي أرض زراعية تبهج الحواس، مصممة لبعث السرور بدلاً من استهلاك السلع" (تتضمن حديقته الرقمية تقييماً حديثاً لطبق كاربونارا الخاص بمنطقة خليج سان فرانسيسكو وتأملات في مقالاته المفضلة).

تتناول الموجة الجديدة من الحدائق الرقمية مناقشة الكتب والأفلام، مع منشورات يوميات متعمقة، بينما يعرض آخرون أفكارهم حول الفلسفة والسياسة. وبينما يمكن اعتبار بعضها بمنزلة أعمال فنية في حدِّ ذاتها؛ روائع بصرية تدعو الناظر إليها للاستكشاف، فإن البعض الآخر يتسم ببساطة أكبر وتوجّه نحو تقديم فائدة معينة؛ مستخدمةً محرِّر مستندات جوجل أو قوالب وورد بريس لمشاركة قوائم كثيفة بالمعلومات الشخصية. لقد تبنى القراء المتحمِّسون على وجه الخصوص هذا المفهوم؛ حيث شاركوا رفوف كتب رقمية إبداعية وجميلة توضِّح رحلة القراءة الخاصة بهم.

رغم انضوائها تحت المصطلح الشامل، فإن الحدائق الرقمية لا تلتزم بقواعد معينة؛ فهي ليست مدونات، اختصاراً لـ "منشورات الويب"، وهو مصطلح يشير إلى سجل زمني للأفكار. كما أنها ليست منصة تواصل اجتماعي؛ فرغم إمكانية التواصل عبرها، ولكن غالباً ما يتم ذلك عبر إضافة روابط إلى حدائق رقمية أخرى، أو عبر التجمع في منتديات مثل ريديت وتيليجرام لتبادل شغفهم بالرماز البرمجي.

يوضِّح توم كريتشلو، المستشار الذي عمل على تطوير حديقته الرقمية لسنوات، الفرقَ الرئيسي بين التدوين بالطريقة القديمة وممارسة البستنة الرقمية قائلاً: "عندما تقوم بالتدوين، فإنك توجِّه حديثك إلى جمهور كبير. أما في البستنة الرقمية، فإنك تتحدث مع نفسك من خلال التركيز على ما ترغب في [زراعته] وتطويره مع مرور الوقت".

ويشترك التدوين والبستنة الرقمية في أنه يمكن تحريرهما وتعديلهما في أي وقت حتى يعبّران عن التطور والتغيير. تشبه الفكرة تحرير فقرة في ويكيبيديا، على الرغم من أن الحدائق الرقمية لا تهدف إلى تقديم الكلمة الفصل في موضوع معين. يقول مايك كولفيلد، خبير محو الأمية الرقمية في جامعة واشنطن الحكومية، إن الحدائق الرقمية تتمتع بأنها لا تمثل المصدر الحاسم حول موضوع ما وإنما أحد المصادر الموجودة باعتبارها طريقة بطيئة وعتيقة لاستكشاف الإنترنت.

في الواقع، يتجسد المغزى وراء فكرة الحدائق الرقمية في أنها قابلة للنمو والتغيير، وفي إمكانية تواجد وتعايش صفحات متنوعة تهتم بمناقشة نفس الموضوع. تقول المصممة ماجي أبليتون: "تتمحور الفكرة بدرجة أكبر حول التعلم العام وبدرجة أقل حول التعلم محدد المراحل". وعلى سبيل المثال، تتضمن حديقة أبليتون الرقمية أفكاراً حول اللحوم نباتية المصدر، ومراجعات الكتب، واستطرادات حول جافا سكريبت والرأسمالية السحرية. وتنص مقدمة حديقة أبليتون على أنها "مجموعة مفتوحة من الملاحظات والمصادر والرسومات والاستكشافات التي أقوم بتنميتها وتطويرها حالياً. بعض الملاحظات عبارة عن شتلات، وبعضها براعم، وبعضها نباتات كاملة النمو و’دائمة الخضرة’".

وتقول أبليتون، التي اختصت في علم الإنسان، إنها انجذبت إلى الحدائق الرقمية بسبب عمقها، وتوضِّح: "لا يتم نشر محتواها على تويتر، ولا يتم حذفه مطلقاً. كل شخص له اهتماماته الغريبة والفريدة، ولا حدود هنا إلا السماء".

ردد العديد من الأشخاص الذين تحدثت معهم روحَ الإبداع والتفرد هذه. وأشار بعضهم إلى أن الحديقة الرقمية كانت بمنزلة رد فعل عنيف على الإنترنت التي اعتدنا عليها على مضض؛ الإنترنت التي تحقق فيها بعض المنشورات انتشاراً واسع النطاق، الإنترنت التي يُنظر فيها إلى التغيير بازدراء، الإنترنت التي تضم مواقع أحادية البُعد. تحتوي الحسابات الشخصية على فيسبوك وتويتر على تنسيقات أنيقة للصور والمشاركات، لكن عشاق الحدائق الرقمية ينبذون هذه العناصر ثابتة التصميم؛ ففي الحدائق الرقمية، يشكِّل الإحساس بزمان ومكان الاستكشاف أمراً جوهرياً.

كتب كولفيلد، الذي أجرى أبحاثاً عن التضليل والمعلومات الخاطئة، منشور مدونة في عام 2015 يدور حول الموعظة التقنية تيكنوباستورال (technopastoral)، وصف فيه البنية التوثيقية الموحدة التي روّج لها مبرمج الحواسيب وارد كننجهام، الذي رأى أن الإنترنت يجب أن تدعم "جوقة من الأصوات" بدلاً من الأصوات القليلة التي تحظى بالتهليل على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم.

يقول كولفيلد: "لقد هيمن هذا التيار على حياتنا منذ منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين". لكن هذا يعني أن الأشخاص إما ينشرون محتوى أو يستهلكونه. ويقول كولفيلد إن الإنترنت في وضعها الحالي تكافئ المحتوى الذي يثير مشاعر الصدمة ويُسطِّح الأمور. ويضيف: "من خلال الانخراط في البستنة الرقمية، ستجد باستمرار روابط جديدة، ومزيداً من العمق والتفاصيل الدقيقة. ما تكتب عنه في حديقتك ليس جزءاً متحجراً من التعليقات على منشور مدونة ما، وعندما تتعلم المزيد، تضيفه إلى منشورك. لا يتمحور الأمر هنا حول إحداث صدمة أو إثارة الغضب؛ إنها وسيلة ارتباط أوثق". في عصر التمرير السريع للصفحات على الشاشة وإنهاك زوم، يقول بعض المتحمسين للحديقة الرقمية إن الإنترنت التي يعيشون فيها "تبعث على التفاؤل"، وفق تعبير كولفيلد.

بينما يبحث العديد من الأشخاص عن مجتمعات أكثر حميمية على الإنترنت، لا يستطيع الجميع إعداد حديقة رقمية؛ إذ يجب أن تكون قادراً على القيام ببعض البرمجة البسيطة على الأقل. ورغم أن إنشاء صفحة من نقطة الصفر يتيح حريةً إبداعية أكثر من مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع استضافة الويب التي تسمح لك بسحب العناصر وإفلاتها على صفحتك، لكنها قد تكون عملية شاقة وتستغرق وقتاً طويلاً.

يحاول كريس بيسكاردي التخلص من هذا العائق أمام الراغبين بإنشاء حدائقهم الرقمية الخاصة بواسطة محرِّر نصوص، يسمى توست (Toast) خاص بالحدائق الرقمية لا يزال في مرحلة التطوير الأولية. ويقول بيسكاردي إن هذا المحرِّر "قد يكون شبيهاً بالتعامل مع وورد برس".

في نهاية المطاف، لم يتضح بعد ما إذا كانت الحدائق الرقمية ستشكل بقايا هروب من جحيم عام 2020 أم ستذبل في مواجهة وسائل التواصل الاجتماعي الأسهل استخداماً. يقول أبليتون: "أنا مهتم بمعرفة ما ستؤول إليه الأمور في هذا الصدد".

ويقول كريتشلو: "بالنسبة إلى بعض الأشخاص، تمثل الحدائق الرقمية ردّ فعل على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالنسبة للآخرين فهي تمثل توجهاً قائماً في حد ذاته. وسيتضح لاحقاً ما إذا كان هذا التوجه سيبلغ النقطة الحرجة لتبنيه على نطاق واسع".

 

المحتوى محمي