عندما توقفت النشاطات الاقتصادية في كافة أنحاء العالم في وقت سابق من هذا العام، أصبح التكيف اضطرارياً للجميع، فهو لم يقتصر فقط على مالكي الشركات والمستهلكين. فقد وجد المجرمون أنفسهم، فجأة، في مواجهة مشكلة جديدة. فكيف سيتسنى لهم نقل أموالهم؟
عادة ما يتم تمرير أرباح الجريمة المنظمة عبر شركات وأعمال شرعية، وفي أغلب الأحيان، يتم تناقل هذه الأموال من طرف إلى آخر عدة مرات وعبر الحدود، إلى أن يصبح تعقبها وصولاً إلى المصدر صعباً للغاية، وتُعرف هذه العملية باسم: غسيل الأموال.
ولكن مع إغلاق الكثير من الأنشطة الاقتصادية، أو تضاؤل مداخيلها إلى أقل من المعتاد، أصبح من الصعب إخفاء الأموال أمام الجميع عن طريق محاكاة النشاط المالي اليومي. تقول إيزابيلا تشيس، التي تختص بدراسة الجريمة المالية في معهد الخدمات الموحدة الملكي (RUSI)، وهو مؤسسة بحثية تُعنى بمسائل الدفاع والأمن ومقرها في المملكة المتحدة: "ما زالت الأموال تتدفق، ولكن لم يعد هناك مكان لإخفائها".
وهكذا، اضطرت العصابات الإجرامية بسبب الوباء إلى ابتكار أساليب جديدة لتحريك الأموال. ومن ناحية أخرى، أدى هذا إلى ظهور تحديات جديدة أمام فرق مكافحة غسيل الأموال المختصة بكشف التعاملات المالية المريبة وتعقبها وصولاً إلى مصدرها.
وأصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة تلعب دوراً أساسياً في إستراتيجياتهم. وفي حين أن بعض المؤسسات المالية الأكبر والأقدم كانت تواجه صعوبة في تكييف أنظمتها القديمة المبنية على القواعد، فقد بدأت الشركات الجديدة الصغيرة تستخدم التعلم الآلي للبحث عن النشاطات غير الطبيعية، مهما تكن طبيعتها.
ليس من السهل تحديد الحجم الفعلي للمشكلة بدقة. ولكن وفقاً لمكتب المخدرات والجريمة في الأمم المتحدة، تخضع نسبة 2% إلى 5% من الناتج العالمي الإجمالي –أي حوالي 800 مليار دولار إلى 2 تريليون دولار، وفق الأرقام الحالية- إلى عمليات غسيل الأموال سنوياً، ويبقى معظمها من دون أن يكتشفها أحد. وتشير التقديرات إلى أن السلطات المختصة تصادر حوالي 1% فقط من أرباح المجرمين.
وكان هذا قبل تفشي وباء كوفيد-19. تفاقمت عمليات الاحتيال، كما ازدادت المخاوف من أن يؤدي كوفيد-19 إلى ظهور سوق نشطة لمعدات الوقاية المقلدة أو الأدوية المقلدة. إضافة إلى ذلك، فإن إمضاء الناس لوقت أكبر على الإنترنت سيؤدي أيضاً إلى اتساع مجال هجمات التصيد الإلكتروني وغيرها من أساليب الاحتيال. وبطبيعة الحال، ما زالت المخدرات تُشترى وتُباع.
وفي أقل تقدير، أصبحت تخبئة الأرباح صعبة بسبب إجراءات الحجر. وفي الواقع، فإن المشكلة التي يعاني منها المجرمون هي أن الكثير من الشركات والأعمال التي تعد أفضل واجهات لغسيل الأموال هي نفسها التي تعرضت لأسوأ آثار الوباء. وعادة ما يفضل المجرمون الاعتماد على المتاجر الصغيرة، والمطاعم، والحانات، والأندية، حيث يُستخدم المال النقدي بكثرة، ويصبح من السهل خلط الأرباح غير الشرعية مع الدخل القانوني.
مع إقفال الكثير من فروع البنوك، أصبح من الصعب إيداع مبالغ نقدية كبيرة. أما خدمات تحويل الأموال مثل ويسترن يونيون -التي تسمح لأي شخص بإرسال الأموال إلى دول أخرى بشكل مباشر- فقد أقفلت مقراتها أيضاً.
غير أن المجرمين يتسمون بالانتهازية. ومع إقفال القنوات المعتادة لغسيل الأموال، ظهرت قنوات جديدة. وقد بدأت كميات كبيرة من الأموال تتدفق ثانية إلى الأعمال الصغيرة بفضل الدعم الحكومي؛ وهو ما أدى إلى تزايد النشاط المالي بشكل يؤمن تغطية جيدة لغسيل الأموال.
انتهاك القواعد والأنظمة
أما الناحية الإيجابية فهي تزايد الطلب على تكنولوجيا مكافحة غسيل الأموال؛ حيث تعتمد الأنظمة القديمة على قواعد محددة، مثل وجوب إطلاق إنذار لدى تجاوز المبلغ المنقول حداً معيناً. ولكن هذه القواعد تؤدي إلى الكثير من الإنذارات الخاطئة، ما يؤدي إلى ضياع التعاملات الإجرامية الحقيقية في خضم هذا الضجيج. مؤخراً، ظهرت أنظمة التعلم الآلي التي تحاول كشف أنماط النشاطات الطبيعية، وتطلق الإنذارات فقط عند ظهور أنماط شاذة. وبعد ذلك يتم عرض نتائج هذه الإنذارات على المختصين البشر، الذي يأخذون بها أو يرفضونها.
ويمكن استخدام هذه الآراء الصادرة عن المختصين البشر لمساعدة نموذج الذكاء الاصطناعي على التحسن بشكل ذاتي مع مرور الوقت. تعمل بعض الشركات على تطوير مقاربات هجينة تولّد قواعد جديدة بناء على الإنذارات الصحيحة التي يولدها نظام الذكاء الاصطناعي لتعديل النموذج بأكمله، مثل شركة فيتشرسبيس التي لها مقرات في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتي تستخدم التعلم الآلي لكشف النشاط المالي المريب؛ وشركة نابيير التي تبني أدوات التعلم الآلي لمكافحة غسيل الأموال.
أدت التغيرات السريعة في سلوك المنظمات الإجرامية إلى التأكيد على ميزات الأنظمة القابلة للتكيف بشكل واضح. فقد أطلق المشرعون الماليون حول العالم أنظمة إرشادية جديدة حول نوع النشاطات التي يجب أن تبحث عنها فرق مكافحة غسيل الأموال، ولكن هذا الإجراء أتى متأخراً للغاية، كما تقول أراليا سامي، مديرة الجريمة المالية في فيتشرسبيس، وتضيف: "عندما يقع حدث مثل وباء كوفيد -حيث تتغير أنماط الدفع لدى الجميع بشكل فجائي- ليس هناك ما يكفي من الوقت لوضع قواعد جديدة".
وبهذا، نصبح في حاجة إلى تكنولوجيا تستطيع التقاط هذه التغيرات لحظة حدوثها، كما تقول سامي: "وإلا، وفيما يمر الوقت حتى تتمكن من اكتشاف شيء ما وإنذار المعنيين بالأمر، تكون الأموال قد اختفت".
وبالنسبة لديف بيرنز، رئيس قسم تحصيل الإيرادات والضرائب في نابيير، فقد أدى كوفيد-19 إلى انفجار مشاكل ظلت كامنة لفترة طويلة. ويقول: "شكَّل الوباء نقطة تحول بأكثر من طريقة" "وهو أقرب ما يكون إلى دعوة للاستيقاظ تدعونا إلى التفكير بشكل مختلف". ويضيف: "لقد أُخذ بعضٌ من أكبر الجهات الفاعلة في هذا المجال على حين غرة".
غير أن هذا لا يعني أنه علينا ببساطة أن نتبنى أحدث التكنولوجيات. كما يقول بيرنز: "لا يمكننا ببساطة أن نلجأ إلى الذكاء الاصطناعي من دون سبب وجيه، وإلا فسنواجه مشاكل أخرى". ويضيف أن ما نحتاجه هو مقاربة مخصصة لكل بنك أو مزود لخدمات السداد.
ما زال هناك متسع للكثير من التطوير في تكنولوجيات مكافحة غسيل الأموال. وكما يقول بيرنز، فقد كشف الوباء عدة نقاط ضعف في الأنظمة الحالية، وهو ما أثار مخاوف الكثيرين. ويعني هذا أن الأشياء قد تتغير بسرعة أكبر مما كنا نظن. ويقول: "لقد أصبحنا في وضع طارئ أكثر إلحاحاً من ذي قبل؛ فما كان يعتبر عادةً ومنذ وقت طويل للغاية، عمليةَ اتخاذ قرار بيروقراطية، بدأ يتخذ منحى متسارعاً بشكل كبير".