بدأت صناعة الإعلان الرقمي تشيد بالميزات الخاصة للإعلانات الرقمية منذ أن انطلقت في التسعينيات، ويمكن لهذه الإعلانات -على عكس إعلانات الصحف والتلفاز- أن يتم توجيهها على الإنترنت بشكل مباشر إلى الأشخاص الذين ترغب الشركة في إيصال الإعلان إليهم بالضبط؛ بحيث لا تضطر الشركات إلى هدر الأموال على عرض الإعلانات على المستهلكين من خارج الشريحة المستهدفة، وفي 2016 أعلن مارك بريتشارد (مسؤول التسويق الأساسي في شركة بروكتر أند جامبل) أن الشركة ستقلل من الاعتماد على الإعلان الموجه على فيسبوك. ويعتبر هذا التصريح واحداً فقط من سلسلة تصريحات لبريتشارد فيما يخص عدم رضا الشركة عن الإعلان الرقمي، وإثر هذا الخبر بدأ البعض يشكك في قيمة الميزة الخاصة للإعلان الرقمي، وهي القدرة على استهداف شرائح محددة من الأشخاص.
وتندرج إعادة التقييم التي أجرتها الشركة في إطار توجهٍ يبدو أنه بدأ يتنامى بين المعلنين، وذلك كما يقول توم ريوردان؛ وهو مستشار العمليات الخاصة في سحابة أدوبي الإعلانية، وهي منصة تساعد المعلنين على إدارة إستراتيجية الإعلان وإجراءاته.
ولم يظهر أثر الحركة بعد في الأرقام الإجمالية؛ فقد تنامى الإنفاق على الإعلان الرقمي بشكل عام، حتى أن شركة الأبحاث إيماركيتر توقعت أن يتزايد الإنفاق على الإعلان الرقمي في الولايات المتحدة بشكل كبير من 83 مليار دولار في 2017 (أو حوالي 40% من مجمل الإنفاق الإعلاني المتوقع في 2017، والبالغ 206 مليار دولار) إلى أكثر من 219 مليار دولار في 2021، وسترتفع الأسعار بطبيعة الحال مع زيادة قدرة الاستهداف للإعلانات.
ويوجد الكثير من أنواع الاستهداف الرقمي التي يمكن أن ترفع أسعار الإعلانات؛ حيث إن قدرة الاستهداف لا تقتصر على الإعلان عن أحذية أو سيارة رباعية الدفع لشخص كان يبحث عن هذه الأشياء على الإنترنت، بل تصل إلى توجيه الإعلانات بناء على البيانات الجغرافية والديمغرافية والنفسية، كما يمكن تضييق الشريحة المستهدفة بناء على بيانات من مجموعة كبيرة من المزوِّدين؛ مثل معلومات عمليات الشراء السابقة أو الطقس الحالي في منطقة المستهلك.
ولكن إلى أي مدى تُحقِّق هذه المعلومات أهداف المعلنين؟ حيث ينفق المعلنون من أمثال بروكتر أند جامبل المليارات سنوياً على إعلانات علامات تجارية مثل كريست وأولد سبايس وجيليت، وقد جربوا أن يقيِّموا فعالية زيادة الميزانيات المخصصة للإعلان الرقمي، واكتشفوا أن الاستهداف المكثف للمستهلكين لا ينجح على الدوام.
وقد رغبت إحدى العلامات التجارية في مجال المشروبات في أن تستهدف شريحة صغيرة من المستهلكين الذكور، الحريصين على الحدِّ من استهلاك الوحدات الحرارية في الغذاء، والذين تتراوح أعمارهم بين 21 و27 سنة. وقد اختبرت شركة أدوبي هذا التكتيك وأظهرت لشركة المشروبات أنها ربما كانت تحاول قياس النجاح بطريقة خاطئة؛ فعندما خفَّفت من الاستهداف بعض الشيء، خفضت من كُلفة الإعلان، وباعت كمية أكبر من المشروبات، حيث يقول ريوردان إن زيادة الشريحة لتشمل الذكور ما بين 21 و 34 سنة أدى إلى زيادة شراء المنتج.
ومن المؤكد أن المعلنين لن يتخلوا نهائياً عن الإعلانات الموجهة، ولكنهم بدؤوا يدركون أن أهدافهم الأصلية كانت خاطئة في بعض الأحيان، فقد طرحت إحدى الشركات -على سبيل المثال- لباساً مخصصاً للياقة البدنية، وطلبت توجيه الإعلان إلى الذكور ما بين 18 و24 سنة (الذين صُمِّم اللباس لهم)، ولكن الشركة أدركت أن المبيعات كانت ناتجة فعلياً عن "الأمهات والزوجات اللواتي كُنَّ يشترينه لأبنائهن وأزواجهن" كما يقول ريك إيليرت، وهو رئيس شركة كونفيرسانت المتخصصة في الإعلان الرقمي، والتي انطلقت في عملها من الإعلانات الرقمية المباشرة والشخصية.
ويشغل إروين جوتليب منصب رئيس مجلس إدارة جروب إم جلوبال؛ وهي وكالة إعلامية تتحكم في أكبر نسبة من الإعلانات على مستوى العالم، وتعمل مع شركة بروكتر أند جامبل في الأسواق العالمية، ومع منافستها يونيليفر على المستوى العالمي وفي الولايات المتحدة، وهو يقول: "إن المسألة ليست في ما إذا كان يجب إجراء استهداف دقيق أو لا؛ لأن الاستهداف الدقيق أمر بديهي"، ويتابع قائلاً إن الخطأ الذي ارتكبته الشركات هو الاتكال أكثر من اللازم على الإعلانات الموجهة، حتى قلَّلت إلى حد كبير من الإعلانات العامة التي تبني سمعة الشركة بين الناس من خارج قاعدة المستهلكين الحالية، والتي تقود في نهاية المطاف إلى مبيعات جديدة. إذن فمن الممكن للتركيز الزائد على الاستهداف أن يؤدي في بعض الأحيان إلى تحسين عائدات الشركة من الاستثمار الإعلاني على المدى القصير، ولكنه قد يؤدي إلى خسارة في حصة الشركة من السوق على المدى البعيد.
وليس من الضروري أن تكون تصريحات الشركات مثل بروكتر أند جامبل بمنزلة الدعوة إلى إجراء استفتاء على الإعلان الرقمي بشكل عام، بل يمكن النظر إليها على أنها علامة نضج في مجال سوق الإعلانات على الإنترنت، وتقييم إستراتيجياتها وَفقاً لنجاحها.