لم يعد الأمر خافياً على أحد أن هنالك مشكلة عميقة في كيفية استهلاكنا للمعلومات في العصر الرقمي الحالي، والحديث هنا هو الانتشار الكبير للمعلومات الزائفة والحقائق المضللة ويدعم هذا الأمر السهولةُ الكبيرة التي توفرها شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل، وبالرّغم من أن هذا الأمر بحد ذاته قد شكَّل تحدياً في السابق، إلا أن هذا التحدي قد تضاعف وامتلك أهميةً أكبر بدءاً من تفشي فيروس كورونا المستجد وتحوله لجائحة عالمية؛ تتطلب مكافحة الفيروس وعياً وإدراكاً جيداً من الأفراد بالتفاصيل المتعلقة به وكيفية الوقاية منه وعلاجه، وبالتالي فإن انتشار المعلومات المضللة سيمثل تهديداً لحياة البشر.
مكافحة انتشار الأخبار الزائفة لا يقتصر فقط على إعطاء الأولوية لمصادر المعلومات الموثوقة فقط، فهذا الأمر لن يوقف أي شخص من مشاركة رابط أو منشور على فيسبوك -مثلاً- يتضمن معلومات غير صحيحة حول دواءٍ ما لعلاج فيروس كورونا. معالجة هذه المشكلة -أي انتشار المعلومات المضللة- يتطلب فهم مَنشئها: لماذا نقوم بمشاركة معلومات غير صحيحة؟
حول الدراسة
مثل هذا السؤال هو محور دراسة قام فريقٌ من العلماء من عدة جامعات أميركية بتنفيذها، في محاولةٍ لفهم الدوافع والعوامل المرتبطة بقيام فردٍ ما بمشاركة خبر أو منشور غير دقيق أو صحيح، وبالتحديد تلك المتعلقة بفيروس كورونا المستجد. تم تنفيذ الدراسة على مرحلتين، وعلى عينةٍ من المتطوعين وصل عدد أفرادها إلى 1700 شخص. تم تنفيذ نفس الإجراءات في كل مرحلة: تقسيم المتطوعين إلى قسمين ويتم عرض نفس العناوين على كل قسم، لكن مهمة كل قسم مختلفة: يتوجب على الأفراد المنتمين للقسم الأول تحديد ما إذا كانوا سيشاركون عنواناً محدداً أم لا، بينما مهمة الأفراد في القسم الثاني تقييم العناوين ومحاولة تقدير أي منها تمثل أخباراً صحيحة وأي منها تمثل أخباراً كاذبة.
بلغ عدد العناوين المعروضة على كامل الأفراد في الدراسة 30 عنواناً حول أخبار مرتبطة بفيروس كورونا المستجد، وتم تنظيمها بشكلٍ مشابه لطريقة عرض الأخبار على شبكة فيسبوك: رابط بعنوان مع اقتباسٍ من نص الخبر نفسه وصورة تعبر عنه. بالنسبة للعناوين نفسها فإنها تضم 15 عنواناً لأخبار صحيحة و15 عنواناً لأخبار كاذبة. في المرحلة الأولى من الدراسة التي تضمنت 853 فرداً، تمكن أفراد القسم المسؤول عن تقييم وثوقية العنوان من تحديد دقة وصحة ثلثي العناوين المعروضة عليهم، إلا أن أفراد القسم الآخر -الذين طُلب منهم تحديد ما إذا كانوا سيشاركون هذه العناوين أم لا- قرروا مشاركة نصف العناوين الكاذبة وكذلك نصف العناوين الصحيحة، ما يعني أن احتمالية مشاركة خبر صحيح هو أمرٌ عشوائيّ تقريباً. تضمنت المرحلة الثانية من الدراسة 856 فرداً، وتم إجراؤها مع تعديل بسيط؛ حيث قامت المجموعة الأولى بقراءة عناوين أخبار مرتبطة بفيروس كورونا وتحديد إن كانوا سيشاركونها أم لا، بينما طُلب من أعضاء المجموعة الثانية تقييم دقة وصحة مجموعة من الأخبار غير المرتبطة بفيروس كورونا، ومن ثم طُلب منهم تحديد ما إذا كانوا سيشاركون مجموعة من الأخبار والعناوين المرتبطة بفيروس كورونا. أثَّر هذا التعديل البسيط في توليد نتائج مختلفة بشكلٍ كبير: أصبح الفارق بين عدد الأخبار الكاذبة والصحيحة التي سيتم مشاركتها أكبر بثلاث مرات بالمقارنة مع أعضاء المجموعة الأولى.
تفسير النتائج
في سبيل فهم هذه النتائج، أخذ القائمون على الدراسة العديدَ من العوامل بعين الاعتبار، مثل الفئة العمرية والخلفية العلمية للمشاركين، وأظهر تحليلُ النتائج أثراً هاماً للتحصيل العلمي على أداء الأفراد؛ إذ كانت احتمالية مشاركة خبر زائف أو مضلل أقل عند الأشخاص الذين يمتلكون خلفية علمية.
سلَّط الباحثون أيضاً الضوءَ على عوامل أخرى ذات دورٍ هام جداً في تفسير نتائج الدراسة، وهو طبيعة وهيكلية وسائل التواصل الاجتماعي وكيفية تفاعلنا معها؛ نظراً لكون فلسفة وسائل التواصل الاجتماعي (وطريقة عمل خوارزمياتها) مبنية على زيادة التفاعل بين الأفراد، فإن التركيز هنا سيكون على التفاعل بالطريقة التي ستجذب أعلى اهتمام ومتابعة ممكنَيْن، بغض النظر عن طبيعة المحتوى أو الخبر الذي يتم مشاركته.
تخلص الدراسة إلى أن رغبة الأشخاص بمشاركة المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر على قدرتهم على تقييم دقتها، خصوصاً في ظل الكم الهائل من المعلومات في وقتٍ مليء بمشاعر القلق والخوف؛ لأن الموضوع هنا مرتبط بجانب هام بالنسبة للبشر، والمقصد هنا الصحة والخوف من فيروس كورونا المستجد، وبالتالي حين يكون الإنسان في حالة اضطراب عاطفي فإنه معرض لخسارة جزء من مهارته التحليلية، أو على الأقل إعطائها قدراً أقل من الأهمية عند استهلاك المعلومات والأخبار واتخاذ خيار مشاركتها من عدمه.
أخيراً، أشارت الدراسة بشكلٍ واضح إلى أن إثارة موضوع الدقة والوثوقية سيدفع الأفراد إلى التفكير بشكلٍ نقدي أكثر تجاه المعلومات التي تعرض أمامهم، حتى لو كانت عن مواضيع مختلفة، وظهر ذلك من نتائج الأفراد في المرحلة الثانية من الدراسة، الذين طلب منهم تقييم دقة ووثوقية بعض الأخبار غير المرتبطة بمرض كوفيد-19، ومن ثم عُرض عليهم مجموعة أخبار مرتبطة بمرض كوفيد-19 وطُلب منهم تحديد إن كانوا سيقومون بمشاركتها أم لا، وكانت النتيجة هي مشاركة عدد أقل من الأخبار الكاذبة.
تم نشر الدراسة في مجلة علوم طب النفس (Psychological Science) تحت عنوان: محاربة المعلومات الزائفة حول مرض كوفيد-19: دليل تجريبي على تزايد الدقة عبر حث تداخلي (Fighting Covid-19 misinformation on Social Media: Experimental evidence for a scalable accuracy nudge intervention).