خطة جديدة لبناء مصادم جسيمات هائل تثير الحماسة في الوسط العلمي

3 دقائق
مصدر الصورة: سيرن

يعتبر مصادم الهدرونات الكبير (LHC) أكبر مختبر علمي تم بناؤه في التاريخ؛ إذ يتكون هذا الصرح العملاق من حلقةٍ دائرية ضخمة يبلغ محيطها 27 كيلومتراً تقع بالمنطقة الحدودية بين فرنسا وسويسرا. ما الذي يريده العلماء من مختبر عملاق كهذا؟ ببساطة: يريدون تسريع الجسيمات دون الذرية ومن ثم صدمها ببعضها البعض عند مستويات عالية جداً من الطاقة، بهدف الغوص أكثر والبحث عن الإجابات المتعلقة بالعديد من الألغاز الفيزيائية المرتبطة بنشوء المادة وطبيعة الكون.

يتبع مصادم الهادرونات الكبير للمركز الأوروبي للأبحاث النووية، المعروف اختصاراً باسم سيرن، وتمكن المصادم من تحقيق العديد من النجاحات والاكتشافات الفيزيائية الهامة، التي كان أبرزها وأشهرها إثبات وجود جسيم بوزون-هيجز الذي يلعب دوراً هاماً في آلية اكتساب المادة للكتلة، وهي الآلية المعروفة أيضاً باسم آلية هيجز، نسبةً لعالم الفيزياء البريطاني بيتر هيجز الذي وضع النظرية التي تصف هذه الآلية والتي تتوقع وجود جسيم بوزون-هيجز في ستينيات القرن الماضي، وانتظر قرابة 50 سنة حتى يوليو من سنة 2012 عندما تم تقديم الدليل التجريبيّ على وجود الجسيم من خلال تجارب صدم الجسيمات عالية الطاقة في مصادم الهادرونات الكبير.

بالرّغم من أهمية اكتشاف جسيم بوزون-هيجز بحد ذاته، وبالرّغم من الإسهامات الكبيرة التي قدمها مصادم الهادرونات الكبير، إلا أن هنالك الكثير من الأسئلة والجوانب التي لا تزال غامضة في فيزياء الجسيمات والظروف الأولى التي أدت لنشوء كوننا كما نعرفه اليوم. كمثالٍ على ذلك، يستخدم علماء الفيزياء نظريةً شهيرة تعرف باسم النموذج المعياري (Standard Model)، وهي تصف القوى والجسيمات الأساسية في الطبيعة وتفاعلها مع بعضها البعض. تمتلك هذه النظرية استقراراً كبيراً من ناحية التوصيف الذي تقدمه، إلا أن علتها الأساسية أنها غير قادرة على دمج القوى الأساسية الأربعة في الطبيعة؛ أي الجاذبية، وهذا يعني أن نظرية النموذج المعياري لا توضح تفاعل قوة الجاذبية مع بقية القوى الأخرى وعلاقتها بالجسيمات الأساسية. على صعيدٍ آخر، لا توفر نظرية النموذج المعياري تفسيراً لظواهر كونية مثل المادة المظلمة والطاقة المظلمة، التي تشير الدراسات النظرية إلى أنها تشكل غالبية الكون، والتي لا نزال لا نعرف عنها سوى القليل واليسير.

التحقق من صحة وسلامة أي نظرية يتطلب اختباراتٍ تجريبية تُثبت أو تنفي التوقعات الخاصة بها. كان هذا هدف مصادم الهادرونات الكبير، ولكن يبدو أنه لن يكون قادراً على توفير الوسائل اللازمة للبحث في الأسئلة الأكثر عمقاً التي تتجاوز وجود جسيم بوزون-هيجز من عدمه؛ فمعرفة التفاصيل التي صاحبت نشوء جسيمٍ ما أو سلوكٍ معين يتطلب سوياتٍ مرتفعة جداً من الطاقة. يستطيع مصادم الهادرونات الكبير إجراء تجارب الصدم حتى سويات مرتفعة تصل لحدود 13 تيرا إلكترون فولط، ولكن الغوص في تفاصيل عالم الجسيمات دون الذرية ومحاولة البحث عن جسيمات المادة المظلمة يتطلب أكثر من ذلك.

كل ما سبق هو الدافع الأساسي للإعلان الجديد من سيرن: وافق مجلس المركز على خطةٍ جديدة لبناء مصادم جسيمات هائل على شكل حلقة دائرية طولها 100 كيلومتر يتم ضمنها إجراء تجارب صدم الجسيمات حتى سويات طاقية تصل إلى 100 تيرا إلكترون فولط، ووقع الخيار على المصادم الدائري المستقبلي (Future Circular Collider) -أو اختصاراً: (FCC)- ليكون اسم هذا المشروع العلميّ الجبار.

بالرّغم من أهمية الإعلان والحماسة التي رافقته في الوسط العلميّ، إلا أنه لا يعني على الإطلاق أن تنفيذ المشروع سيبدأ على الفور؛ فهنالك العديد من العقبات والمشاكل: هناك مشكلة التمويل من ناحية؛ إذ تم تقدير كلفة المشروع الجديد بحوالي 21 مليار دولار أميركي، وهو الرقم الذي يأمل القائمون على المشروع تحقيقه عبر تمويلٍ عالميّ، ليمثل المشروع الجديد تعاوناً علمياً على مستوى الكوكب. من ناحيةٍ أخرى، يتطلب المشروع وما يرافقه من تجارب صدم الجسيمات بطاقة عالية جداً تقنياتٍ وأدواتٍ ليست جميعها في متناول اليد، بمعنى أن التقنيات اللازمة تحتاج أيضاً لتطويرٍ وعمل.

وبحسب الإعلان من سيرن، فإن المشروع برمته سيمر عبر مرحلتين، في المرحلة الأولى سيتم تحديث قدرات مصادم الهادرونات الكبير (مسرع الجسيمات الحالي) ورفع قدرته الطاقية من أجل إجراء المزيد من تجارب الصدم وتوليد بوزونات-هيجز ودراستها بشكلٍ مفصلٍ أكثر، والمرحلة الثانية هي بناء المصادم الجديد الذي سيستغل القدرات التي يوفرها المصادم الحاليّ. يتوقع القائمون على المشروع أن تبدأ خطوات البناء الفعلي للمشروع في عام 2038، وذلك بعد أن تكون مراحل التخطيط والتصميم والدراسة قد انتهت، بالإضافة لتأمين التمويل اللازم للمشروع.

 

المحتوى محمي