هناك الكثير من المزايا التي يتمتع بها نظام الرعاية الصحية عندما يكون واحداً من أضخم أنظمة الرعاية الصحية أحادية الدافع. وبالنسبة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة -أو اختصاراً: إن إتش إس (NHS)- فإن البيانات الكبيرة هي إحدى تلك المزايا.
فقد أدى إطلاق برنامجها ريكوفري ترايل (تجربة التعافي) في بداية تفشي وباء كورونا إلى جمع معلومات من كافة أنحاء النظام، ما أدى بدوره إلى اكتشاف ديكساميثازون، باعتباره أحد أنجح العلاجات الواعدة لمعالجة المرض الجديد. وفي مجالات طبية أخرى، يعتبر مخزنها الخاص بالبيانات السرطانية، الذي يكاد يصل عمره إلى عقد كامل، أحد أغنى مصادر المعلومات السريرية حول الأبحاث السرطانية في العالم.
ولهذا، عندما اقترح الوزراء البريطانيون إطلاق تطبيق للهواتف الذكية لتتبع الاحتكاك، لم يكن من المفاجئ أن يجد مسؤولو إن إتش إس فرصة لتحقيق إنجاز تكنولوجي على مستوى العالم.
ولكن، أعلنت الحكومة البريطانية مؤخراً عن تخليها عن الخطة الأصلية، واعتمادها للخيار الاحتياطي الأكثر بساطة، ما أثار الاستياء والانتقادات، ناهيك عن المخاوف حول مفهوم تكنولوجيا تتبع الاحتكاك بشكل عام. ما الذي حدث؟
بيانات كبيرة، أفكار كبيرة
يمثل التتبع الرقمي للاحتكاك -أي الإشعارات التي تُرسل من هاتف إلى هاتف آخر لإنذار المستخدمين بوجود احتمال تعرضهم للوباء- نوعاً جديداً من التكنولوجيا، وتتلخص فائدة هذه التطبيقات في دعم جهود تتبع الوباء، ولكنها ما تزال غير مُثبَتة إلى حد بعيد. ولكن، إذا تمكن التطبيق أيضاً من جمع معلومات تساعد على تتبع الفيروس بأساليب أخرى -مثل البحث عن الأنماط التي ينتشر المرض وفقها، وتحديد مجموعات الانتشار، وكشف حالات التفشي مبكراً، أو حتى إضافة بيانات أخرى مثل البيانات الديمغرافية- فقد يؤدي هذا إلى ازدياد قدراته وإمكاناته إلى حد كبير.
هذا ما حفز المسؤولين والمطورين في إن إتش إس على دعم نموذج مركزي لهذا التطبيق؛ فقد اعتقدوا أن التطبيق يمكن أن يقوم بصب المعلومات التي جمعها حول حالات الاحتكاك ضمن مخزن بيانات محميّ، مع إمكانية إعادة الهوية إلى هذه البيانات بعد إزالتها بحيث يمكن إنذار الأشخاص المعنيين لدى احتكاكهم مع شخص يعاني من أعراض الإصابة بفيروس كورونا، أو تلقى نتيجة اختبار إيجابية.
يسمح النموذج المركزي بمستوى أعلى من تحليل البيانات مقارنة بالنماذج اللامركزية، التي يمكن أن تعطي إشعارات بالتعرض، ولكنها لا تسمح للمسؤولين بالوصول إلى البيانات بنفس الطريقة. وتُعتبر هذه النماذج -مثل النموذج الذي اقترحته جوجل وآبل، والذي تستخدمه إن إتش إس حالياً- أقل انتهاكاً للخصوصية إلى حد كبير. ويؤمل بأن هذه الإجراءات لحماية الخصوصية ستزيد مستوى الثقة بالتطبيق، وتدفع المزيد من الناس إلى استخدامه.
كانت هناك عوامل أخرى ساهمت في توجه المملكة المتحدة نحو تطوير تطبيق مركزي؛ حيث إن إمكاناتها المحدودة في إجراء الاختبارات، والعدد المحدود من المتتبعين البشر، يعني أن نظامها الصحي سيرزح تحت وطأة أعداد ضخمة من الإشعارات للحالات المشتبه بها، في حين أن النظام المركزي المبني على الحالات المؤكدة بدلاً من الحالات المشتبه بها سيكون أفضل من هذه الناحية.
في هذه الأثناء، كان المسؤولون يسعون أيضاً إلى تحقيق المجد (بل الحصول على وسام الفروسية أيضاً)، وكان الوزراء يركزون على إطلاق نظام لا يُضاهى عالمياً، بدلاً من الاكتفاء بنظام ناجح، بحيث يحققون نصراً على مستوى العالم. وهكذا، اكتسب النظام المركزي زخماً لا يمكن إيقافه، وتم تجاهل جميع التحديات التي يمكن أن تعيق بناء نظام كهذا.
مشاكل فنية، وفوضى تنظيمية
يمثل أداء أنظمة البلوتوث أحد العوائق الفنية الكثيرة. تعتمد جميع تطبيقات تتبع الاحتكاك تقريباً على وظيفة البلوتوث في الهاتف لكشف اقتراب شخص من شخص آخر. من الناحية النظرية، يمكن لهذه الطريقة أن تكون دقيقة للغاية إذا كان النظام يعمل بشكل متواصل، ما يعطي نتائج موثوقة من دون إغراق نظام الرعاية الصحية بالإشعارات الإيجابية الخاطئة التي يمكن أن تقوض الثقة به، وتستوجب إجراء الآلاف من الاختبارات الإضافية، وترغم الناس على عزل أنفسهم بلا داعٍ حقيقي لذلك. ولكن من الناحية العملية، فإن الحصول على نتائج دقيقة أمر صعب، وقد بذل مطورو التطبيقات جهوداً إضافية ضخمة لتحسين دقة هذه النتائج.
يجري العمل على تحسين وتطوير هذه الأنظمة، ولكن المقاربة المبكرة للمملكة المتحدة تجاهلت أيضاً مسألة هامة أخرى: كانت لدى آبل وجوجل سياسة موجودة سابقاً لحماية خصوصية المستخدمين، وذلك بمنع التطبيقات تحديداً من تشغيل مسح البلوتوث باستمرار وإرسال البيانات إلى مكان آخر، ورفضتا تغيير هذه السياسة في تطبيقات فيروس كورونا. بدلاً من ذلك، قامت الشركتان العملاقتان ببناء مجموعة أدوات برمجية خاصة بهما لمساعدة التطبيقات اللامركزية على القيام بشيء مشابه، وذلك من دون تقديم بيانات المستخدم إلى جهة مركزية.
وهكذا، حاولت المملكة المتحدة إقناع أهم الشركات التكنولوجية في العالم باستثنائها من هذه الإجراءات، أو بناء تطبيق خاص يستطيع الالتفاف على الحواجز التي صممتها آبل وجوجل، مع أمل ساذج بوجود أبواب خلفية تركها المطورون في هذه الحواجز دون أن يتم إغلاقها.
لقد سارت عملية التطوير لتطبيق المملكة المتحدة بشكل أفضل مما ظنه بعض المشككين؛ فقد توصل المطورون إلى بعض الحيل التي مكنت التطبيق من العمل إلى حد ما، على الأقل على الهواتف العاملة بنظام أندرويد. ولكن العمل "إلى حد ما" ليس كافياً بالنسبة لأداة ستُنشر على نطاق واسع خلال أزمة صحية عالمية.
ولهذا، ومنذ أكثر من شهر، قامت الحكومة البريطانية -وبشكل سري- بتكليف فريق للبدء بتطوير تطبيق ثانٍ يعتمد على نموذج لامركزي. تم تطوير النظامين المتنافسين بشكل متزامن، وبتكلفة كبيرة.
وقد تصادف هذا مع سلسلة من التغييرات الفوضوية التي طالت الإدارات العليا المشرفة على جهود تتبع الوباء في المملكة المتحدة؛ حيث تم تعيين مديرين جدد، كما تم تبديل الوكالات المشرفة على نواحٍ مختلفة من العمل، ما أدى إلى حدوث حالة من الإرباك والتفكك في مفاصل عملية التتبع العامة، وقد وصل الأمر إلى وجود اختلافات بين النصوص المقدمة إلى متتبعي الاحتكاك وما يقابلها في التطبيق.
ومؤخراً، أفصحت الحكومة البريطانية عما كان واضحاً خلف الكواليس، أي أنها ستتخلى عن التطبيق المركزي لصالح التطبيق الاحتياطي اللامركزي. وكانت قد وقعت العقد التشغيلي قبل ذلك بأسبوع، ومن دون إثارة أي ضجيج إعلامي.
لم تعد المملكة المتحدة تسعى إلى بناء نظام "لا يضاهى عالمياً"، بل أصبح الهدف الآن بناء تطبيق ذي وظائف مشابهة للتطبيقات التي جربتها بلدان أخرى.
نظراً للتأخير في إنجاز التطبيق، وتفاوت مستويات نجاح التطبيقات اللامركزية في البلدان الأخرى، فإنه ليس من الواضح ما إذا كان النظام الجديد سيلعب أكثر من دور جانبي في استجابة المملكة المتحدة لفيروس كورونا.
أخطاء تسببت بالارتباك والكثير من الخسائر المادية
إذن، ما الدرس الذي يمكن أن نتعلمه مما حدث؟
أولاً، لطالما أاتسمت التغطية الإعلامية لجهود المملكة المتحدة بالارتباك، ما أعاق فهم الأخطاء التي حدثت فعلاً. أوردت عدة تقارير أن المملكة المتحدة ستستخدم الآن "تطبيقاً" طورته جوجل وآبل، فتسببت بالخلط بين مجموعة الأدوات التي يستخدمها المطورون والتطبيق الفعلي بشكله النهائي، وفاتها بالتالي أن المملكة المتحدة قطعت شوطاً كبيراً في تطوير تطبيق لامركزي.
أما منصات التواصل الاجتماعي فكانت أكثر انشغالاً بدور دومينيك كومينجز، وهو كبير مستشاري رئيس الوزراء، وهو شخص مثير للجدل إلى حد كبير، ويهتم إلى درجة كبيرة باستخدام البيانات في السياسة، وذلك بعد استخدامها بنجاح في الحملة المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التي سبقت عملية التصويت.
تزعم عدة تغريدات واسعة الانتشار أن مقاربة المملكة المتحدة كانت عبارة عن حيلة للشركات للحصول على البيانات، في حين أن المقربين من أوساط عملية التطوير الفعلية للتطبيق يقولون إنها كانت محاولة نزيهة لاستخدام البيانات الكثيرة لدى إن إتش إس لزيادة فعالية وفائدة التطبيق.
وينظر ناقدون آخرون إلى فشل التطبيق المركزي على أنه صدام قائم بين الحكومة البريطانية والشركات التكنولوجية العملاقة، الذي انتهى بفوز الشركات. لا شك في أننا سنشهد مثل هذه المواجهات في المستقبل، ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت هذه إحداها أم لا؛ حيث لم تبذل المملكة المتحدة أي جهد قانوني لإرغام جوجل وآبل على تنفيذ شروطها، بل طلبت منهما إضعاف إجراءات حماية الخصوصية طوعاً. غير أن الشركتين، وبعدما رأتا أن الدول الأخرى راضية بالمقاربة اللامركزية، قررتا عدم الاستجابة. وفي نهاية المطاف، وجدت المملكة المتحدة أن هذا النزاع لا يستحق بذل كل هذا الجهد.
تتعلق هذه المشاكل بشكل أساسي بالوضع في المملكة المتحدة، ما يجعل من الصعب التوصل إلى استنتاجات أكثر شمولية بناء على إخفاقات الهيئة إن إتش إس. ولكن هذا الإخفاق ما زال يحمل بعض الدروس، حتى لو كانت عمومية بعض الشيء.
أولاً، ركز الفريق على الإيجابيات المحتملة للتطبيق المركزي وتجاهل في البداية جميع التحديات الإضافية التي ترافقه. كما تم تجاهل المخاوف العامة، التي تم التعبير عن الكثير منها علناً. كما أُدير المشروع بشكل فوضوي، وأصبح عرضة للتجاذبات البيروقراطية. وكانت النتيجة هدراً كبيراً في الأموال، والجهود، والأسوأ من ذلك: الوقت.
إن ثمن التردد والخطأ مرتفع للغاية، خصوصاً أن بريطانيا واحدة من البلدان التي تعرضت لأشد درجات الإصابة؛ حيث بلغ عدد الوفيات الناتجة عن كوفيد-19 بشكل مؤكد 40,000 وفاة حتى الآن. سواء أكان مصير الخطة الأصلية يمثل نقطة سلبية ضد تكنولوجيا تتبع الاحتكاك أم لا، فإنه من الواضح أن الافتقار إلى التواصل الدقيق والصريح من السلطات البريطانية أحدث ضرراً بالخطط المستقبلية للتكنولوجيات الحالية.
أما العزاء الوحيد فهو وجود البديل، ما يعني أن الوضع كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير. كان من الممكن أن تقرر الحكومة مواصلة العمل على النموذج الأولي المليء بالمشاكل، والذي لا يمكن الاستفادة منه بشكل كامل، ودفع جميع المواطنين إلى استخدامه على الرغم من العوائق والمخاوف الكثيرة. ولكن إن إتش إس توقعت ما سيحدث، وبدأت بتطوير خطة احتياطية، ولم تحاول إطلاق التطبيق المركزي على مستوى البلاد بعد أن فشل في الاختبارات.
كانت عناوين الصحف سلبية للغاية إزاء الحكومة البريطانية، وهو أمر متوقع ومستحق من دون شك. ولكن الوضع كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير.