نشرة خاصة من إيرنست ويونغ
أثناء نشأتي، كانت إحدى الطرق الرئيسية التي يمكنني من خلالها التأثير والتفاعل مع الحكومة هي انتظار إجراء الانتخابات أو الاستماع إلي خطاب أحد الوزراء. ولن أبالغ إذا قلت إن فرصة أن تسمع الحكومة صوتي كانت ضئيلة للغاية. ولو أنك أخبرتني، عندما كنت أبلغ من العمر 20 عاماً، أنه من الممكن التفاعل مع حكومتك في أي وقت والتأثير على السياسات والقرارات، كنت على الأرجح سأضحك وأعتبرك مهووساً بالخيال العلمي.
وإذا انتقلنا بالزمن إلى شخصي الحالي، عندما شارك أحد زملائي مقالة تتناول كيفية استخدام السكك الحديدية الهندية لموقع تويتر للتواصل مع المسافرين مباشرة، وبدلاً من أن أتفاجأ، وجدت نفسي منخرطاً في نقاش عميق حول الكيفية التي يُمكن بها توسيع نطاق هذا المفهوم باستخدام تقنيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل تقنية دوبلكس التي طورتها شركة جوجل.
هذا التغير الفكري هو إحدى النتائج المباشرة للاضطرابات الرقمية التي وقعت خلال العقود الماضية، وللكيفية التي غيرت بها هذه الاضطرابات الطريقة التي نعيش بها اليوم. ولكي نرى الأمر من منظوره الصحيح، فإن هاتفي الذكي أٌقوى من أجهزة الكمبيوتر التي امتلكتها وكالة ناسا في ستينيات القرن الماضي، خلال بعثات أبولو التي وضعت البشر على سطح القمر.
دعنا نُمعن النظر في هذه الفكرة للحظة، الخبر السار هنا هو أننا ما زلنا نخطو أولى خطواتنا فيما يتعلق بإطلاق العنان لقوة التكنولوجيات الرقمية.
كما أدى ظهور صناعات جديدة مرتبطة بالذكاء الاصطناعي -مثل الروبوتات والبلوك تشين وإنترنت الأشياء وغيرها- إلى تغيير الطريقة التي تعمل بها الحكومات وكيفية تأثيرها على حياة الناس. وبفضل القنوات والحوافز والفرص الجديدة، يُمكن للحكومات إشراك الناس في محادثات ثنائية الاتجاه، وجمع البيانات وتفسيرها بشكل غير مسبوق.
وقد فتحت زيادة الشفافية وسهولة التواصل سبلاً جديدة أمام الحكومات للتعاون مع الأشخاص والشركات والمنظمات غير الربحية، بهدف التغلب على التحديات الاجتماعية. وبدورها، ساعدت طريقة التفكير ومقاربة التنمية المشتركة هذه في خلق شخصية للحكومات تتمحور حول المواطن.
يتمثل أحد الجوانب الإيجابية للتكنولوجيات الرقمية في قدرتها على خلق فرص متكافئة بين الحكومات في مختلف أنحاء العالم؛ إذ إن البرامج التكنولوجية كثيفة رأس المال ليست الوسيلة الوحيدة لتحسين تجربة المواطن، بل يمكن لكل من يتمتع بالرؤية السليمة ويمتلك إستراتيجيات مصممة بعناية أن يربط بين النقاط للاستفادة من التكنولوجيات الرقمية التي طورها مجتمع الشركات الناشئة والمنظمات غير الربحية، من أجل تقديم خدمات وظروف معيشية أفضل للمواطنين.
ولتسليط الضوء على هذه النقاط، استعنت بثلاث أمثلة على حالات من أفريقيا، كانت فيها الحكومات عادةً في وضع غير مواتٍ من الناحية الاقتصادية، ولا تعتبر سباقة في الابتكار. ومع ذلك -وكما يتضح من دراسات الحالة هذه- تمكنت هذه الحكومات باستخدام التكنولوجيا الرقمية من الاستماع إلى شعوبها وإشراكها وتمكينها، من أجل تحسين تجارب المواطنين.
تمكين المواطنين الأوغنديين من المشاركة باستخدام تطبيق للهواتف المحمولة
يساعد أحد تطبيقات الهواتف المحمولة سكان بلدة لويرو بأوغندا على تبادل التعليقات بشأن الطرق والجداول الزمنية الموضوعة لإصلاحها. وبفضل تلك المبادرة، لم ترتفع المشاركة المجتمعية في لويرو فحسب، بل تسارع أيضاً معدل إصلاح المزيد من الطرق في المناطق الريفية، وهو ما أثر مباشرة على تجربة السكان مع الحكومة. وقد أدى تحسن أحوال الطرق إلى تحسين سلامة الحركة، والحد من الأضرار التي تلحق بالمركبات، وتقليل تعرض المنتجات للتلف أثناء عملية النقل. علاوة على ذلك، فقد انخفضت أوقات السفر وتكاليفه إلى النصف بالنسبة للسكان.
وللانخراط مع المواطنين، تعاونت حكومة لويرو المحلية مع شركة موبيلزيد كونستركشن (Mobilized Construction) الناشئة، التي توفر حلولاً تعتمد على الهواتف الذكية لإدارة ورصد إصلاحات الطرق الريفية في البلدان النامية، حيث يتم تثبيت الهواتف على السيارات بهدف جمع البيانات من الطرق ذات الحالة السيئة. ويستخدم التطبيق مقياس التسارع ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وكاميرا الفيديو الخاصة بالهاتف، لتحديد ما إذا كان الطريق في حاجة إلى الإصلاح أم لا. وبمجرد الانتهاء من رسم خرائط الطرق السيئة، يساعد التطبيق على تنظيم طواقم الإصلاح التي تشكل جزءاً من المشاريع الصغيرة التي يشارك فيها السكان المحليون.
إنقاذ الأرواح في رواندا باستخدام الطائرات المسيَّرة
عملت الحكومة الرواندية على تمكين العاملين في قطاع الرعاية الصحية بها، بأول نظام في العالم لتوصيل الإمدادات الطبية الأساسية باستخدام الطائرات المسيَّرة. وتعمل وزارة الصحة الرواندية مع شركة زيبلاين إنترناشونال (Zipline International) لتوصيل أكياس الدم والأدوية إلى 21 مرفقاً طبياً، وذلك انطلاقاً من مركز توزيع رئيسي. في السابق، كان وصول هذه الإمدادات إلى المستشفيات يستغرق ساعات طويلة بسبب صعوبة الوصول على الطرق، ولكن مع استخدام الطائرات المسيَّرة، انخفض وقت التوصيل إلى أقل من 30 دقيقة. وعند الحاجة، يرسل العاملون بقطاع الرعاية الصحية رسالة نصية إلى الشركة، فتقوم إحدى الطائرات المسيَّرة بتوصيل الطلب باستخدام مظلة، وهو الأمر الذي لا يتطلب أي بنية تحتية إضافية للمرافق الطبية. وقد وضعت رواندا -مدفوعة بالتأثير الذي أحدثه هذا النظام- رؤيةً لتمكين وصول المستحضرات الطبية الأساسية إلى جميع المواطنين بمختلف أنحاء البلاد في غضون 30 دقيقة.
تطبيق تعليمي يساعد ملاوي على تحسين تجربة التعلم للمُدرسين والأطفال
تواجه مالاوي -شأنها شأن بلدان أخرى كثيرة- مشاكل تتعلق بعدم توافر موارد عالية الجودة في قطاع التعليم. ومع وصول عدد الطلاب في الفصل إلى 100 طالب، يصبح من الصعب على المعلمين إدارة الفصول الدراسية، ولا يحصل الطلاب على الاهتمام المطلوب، وهو ما يؤثر سلباً على تجربة المعلمين، والطلاب وأولياء أمورهم. لذا، تعمل منظمة الخدمة التطوعية في الخارج (VSO) -وهي منظمة غير ربحية- مع وزارة التعليم والعلوم والتكنولوجيا في البلاد، جنباً إلى جنب مع شركائها الآخرين، لتوفير حل تعليمي يعتمد على استخدام الكمبيوتر اللوحي. وقد دمجت الوزارة هذه المبادرة، كإحدى مقاربات التعليم والتعلم، في السياسة التعليمية الوطنية.
يستخدم المشروع المسمى (Unlocking Talent) أي إطلاق المواهب -بشكل رئيسي- التطبيقَ التعليمي وان كورس (Onecourse) الذي طورته شركة وان بيليون (onebillion)، وهي منظمة أخرى غير ربحية. ونظراً لأن تطبيق وان كورس ذو طبيعة معيارية، فإنه يساعد الأطفال على تعلم القراءة والحساب تحت إشراف بسيط من البالغين. وقد أجرت جامعة نوتنجهام تجربة عشوائية لدراسة تأثير مشروع إطلاق المواهب؛ حيث وجدت أن الأطفال المشاركين في المشروع استغرقوا ثمانية أسابيع لتحقيق نفس التقدم الذي استغرق عاماً من نظرائهم المسجلين في برامج الدراسة النظامية في البلاد. وحتى الآن، جمع المشروع الأموال اللازمة للوصول إلى 55 ألف طفل، كما تلقى دعماً من السفارة الملكية النرويجية والحكومة الأسكتلنديّة ووزارة التنمية الدولية بالمملكة المتحدة (DFID) وصندوق طوارئ الأطفال التابع للأمم المتحدة (اليونيسف)، وغيرها من الجهات المانحة المستقلة. كما تدعم شركات القطاع الخاص مثل سيسكو ميراكي وإيرتيل هذه المبادرة.
نيجيريا تحسن فرص الوصول إلى خدمات صحية أفضل من خلال التطبيب عن بعد
تواجه نيجيريا ارتفاعاً في معدل الوفيات نتيجة محدودية توافر الخدمات الصحية الجيدة، وتزداد هذه المسألة تفاقماً بسبب المشاكل اللوجستية التي تجعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى الخدمات الطبية. ولمعالجة هذه المسألة، وضعت الحكومة الفيدرالية خطة لإنشاء نظام متكامل للتطبيب عن بعد، أو ما يعرف بنظام سجلات الرعاية الصحية الإلكترونية (EHR). ويُستخدم هذا النظام السحابي لتوفير خدمات رعاية صحية للمناطق الريفية التي يصعب الوصول إليها في نيجيريا، كوسيلة لتحقيق نتائج صحية أفضل.
وقد تم تنفيذ المشروع بالتعاون مع الحكومات المحلية والعديد من المنظمات غير الحكومية. ونتيجة لهذا المشروع، نجحت الحكومة في توفير الخدمات الطبية لنحو 100 ألف شخص في المناطق الريفيةK كما شجع نجاح المشروع الحكومة أيضاَ على توسيع نطاقه، لإتاحة فرصة وصول الخدمات الطبية لجميع سكان المناطق الريفية بالبلاد.
تحويل التكنولوجيا الرقمية إلى ثقافة ينبغي أن يتصدر جداول الأعمال الحكومية
عندما أتحدث إلى الناس عن القيمة المتصورة للتكنولوجيا الرقمية في القطاع العام، فإن الشكوك عادةً ما تثور حول التكاليف والمكاسب المترتبة على زيادة الكفاءة، التي من شأنها أن تؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحسين الخدمات.
ومع ذلك، فإن قصر التكنولوجيا الرقمية على هذه العناصر سيُعد بمنزلة قصور شديد في استغلال إمكاناتها الحقيقية؛ إذ يمكنها -على سبيل المثال- أن تساعد الحكومات على معالجة القضايا الاجتماعية بطرق جديدة، وأن توفر لها أيضاً تجارب حياتية أفضل، على النحو المبين في الأمثلة السابقة.
إذن، من أين يبدأ المرء ليضمن الاستفادة بكامل إمكانات التكنولوجيا الرقمية؟
تتلخص الإجابة في تحديد الغرض المرجو، وفهم كيف يمكن الاستفادة من مختلف التكنولوجيات الناشئة لحل مسألة أو مشكلة ما، وتحقيق نتائج محددة، والتخطيط، ووضع إستراتيجيات قابلة للتنفيذ. ولضمان نجاح هذا الأمر، يجب أن تكون التكنولوجيا الرقمية جزءاً من عملية تفكير منظمة وليست مجرد مبادرة منفردة، ولهذا السبب ينبغي أن تصبح التكنولوجيا الرقمية إحدى الأولويات العليا بالنسبة للحكومات.