أحدثَ كوفيد-19 تأثيرات جذرية ومباشرة في جميع قطاعات الأعمال بما فيها القطاع المالي؛ فقد أدت إجراءات الحجر الصحي والابتعاد الاجتماعي إلى تزايد غير مسبوق في استخدام تطبيقات الخدمات المالية.
وترى مؤسسة دبي للمستقبل في تقريرها المعنون "المستقبل بعد كوفيد-19: مستقبل التقنيات المالية" أن قطاع التكنولوجيا المالية (فينتِك) مهيأ بطبيعته لمواجهة هذه الأزمة والخروج منها، محققاً مكاسب أوسع نتيجة اعتماد الناس بشكل أكبر على الخدمات الرقمية.
وهنا يبرز سؤال أساسي: كيف تتمكن شركات التكنولوجيا المالية من استغلال إمكاناتها الذاتية الفريدة ليس فقط للخروج من عنق الزجاجة وإنما للاستفادة من الفرص الجديدة في المستقبل؟
تفاعل شركات التكنولوجيا المالية مع أزمة كورونا
لم تقتصر تداعيات أزمة كورونا على المؤسسات المالية التقليدية، بل طالت أيضاً قطاع التكنولوجيا المالية.
ومن المنطقي أن نتوقع أن يكون هذا القطاع الناشئ أكثر عرضة للزعزعة من القطاع البنكي التقليدي؛ ذلك أن معظم شركات التكنولوجيا المالية لا يتجاوز عمرها عقداً من الزمن. بالإضافة إلى اعتمادها المباشر على تمويل رأس المال الجريء الذي شهد تراجعاً كبيراً خلال الأزمة، وتنافسها على الحزم الحكومية التحفيزية المحدودة. وقد تجلّت هذه التأثيرات في عدة نواحٍ، منها: تباطؤ التمويل، وتراجع معدّلات تأسيس شركات جديدة للخدمات المالية، وانخفاض عائدات معظم الشركات القائمة.
ومع ذلك، فإن عدم قدرة الناس على التوجه إلى المصارف بأنفسهم، بسبب التدابير الاحترازية المفروضة لمواجهة كوفيد-19، قد دفعهم إلى الاستفادة من مزايا التكنولوجيا المالية المتمثلة في السرعة وقلّة تكاليف الحصول على الخدمات المالية.
ووفقاً لشركة ديفير للاستشارات المالية، فقد ازداد استخدام التطبيقات المالية بنسبة 72% في آخر أسبوع من مارس، وازداد متوسط عدد مرات تحميلها بنسبة 20% بين الربع الرابع من العام 2019 ونهاية الربع الأول من العام 2020. ومن أهم منصات التقنيات المالية التي شهدت خلال هذه الفترة أعلى نمو في عدد المستخدمين هي باي بال ومصرف مونزو الرقمي في المملكة المتحدة، وفي الوقت ذاته ارتفعت مجموعة مستخدمي تطبيقات تداول الأسهم مثل روبن هود وإكورنز.
وإلى جانب ارتفاع الاستخدام الفردي للتكنولوجيا المالية بسبب أزمة كوفيد-19، فقد أصبحت فكرة العملات الوطنية الرقمية أقرب من أي وقت مضى للتحوّل إلى حقيقة ملموسة. حتى إن فكرة الدولار الرقمي كانت حاضرة في نقاشات مجلس الشيوخ الأميركي في مارس الماضي باعتباره وسيلة لتوزيع حزم الدعم الحكومي إلى الأميركيين مباشرة. كما أشار بنك إنجلترا في مارس إلى أن العملات الرقمية ستمكِّن المصارف المركزية من تطبيق أسعار الفائدة السلبية، مما يشجّع المصارف على الإقراض بحريّة أكبر من دون أن تدفع المستخدمين إلى ادخار الأموال.
خيارات مستقبلية في التكنولوجيا المالية
بعد كوفيد-19، وفي ظل توجه المزيد من الناس إلى استخدام القنوات الرقمية لإدارة أمورهم المالية، لا بدّ لشركات التكنولوجيا المالية أن تعيد النظر في نماذج عملها، وأن تدرس كيفية تحقيق أقصى استفادة من تفوقّها في التحوّل الرقمي وفهمها لتجربة المستخدم.
وإليكم أبرز الإستراتيجيات التي بدأت بعض شركات التكنولوجيا المالية في تبنّيها استعداداً للمستقبل بعد كوفيد-19:
- عقد شراكات مع المؤسسات المالية التقليدية، التي توفر رأس المال والبنية التحتية المطابقة للقوانين ولكنها تفتقر إلى الحلول الرقمية الفعالة.
- توسيع نطاق عملها حتى إلى خارج قطاع الخدمات المالية مثل قطاع تجارة التجزئة فيما يسمى تيل تِك (TailTech). وبعض الشركات قد بدأت بالفعل بهذا التوجه مثل الشراكة بين وال مارت وباي بال.
- تعزيز برامج الشمولية المالية: فوفقاً لتقرير البنك الدولي حول الشمولية المالية في عام 2017، كان هناك 1.7 مليار شخص حول العالم من دون أي حسابات بنكية. فيتعذر على هؤلاء الحصول على الخدمات والمساعدات المالية في الأزمات الاقتصادية. وهذا ما يبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه التكنولوجيا المالية في توفير وسائل بديلة أسرع وأقل تكلفة من الوسائل المالية التقليدية. وبالتالي تسمح بتوصيل الخدمات المالية إلى جميع فئات المجتمع بطريقة عادلة عبر عقد شراكات مع الحكومات والمؤسسات.
- تقديم الخدمات للعاملين المؤقتين الذين لا يمثلون شريحة مغرية للبنوك التقليدية؛ فهم لا يمتلكون دخلاً ثابتاً ولديهم متطلبات مالية وتأمينية وضريبية خاصة. وهذا ما يرشحهم باعتبارهم عملاء محتملين لشركات التكنولوجيا المالية.
- الاستفادة من الدفع بالاعتماد على إنترنت الأشياء، الذي يُجنّب المستخدمين التعاملَ بالأموال النقدية وملامسة السطوح التي قد تنقل العدوى.
- استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل تحسين تجربة المستخدم وزيادة الكفاءة، وكذلك لتخفيض تكاليف التشغيل.
وفي الختام، لا شك أن الأزمة الحالية قد فرضت تحديات كبيرة على جميع القطاعات، والتكنولوجيا المالية ليست استثناءً. لكن يبدو أن العديد من شركات التكنولوجيا المالية تتمتع بالقدرة الكافية لمواجهة الظروف الحالية والتكيف معها، بل حتى توفير الوسائل لمساعدة المؤسسات والحكومات على تخفيف آثارها. وبالنظر إلى ما تتمتع به من مزايا فريدة -كالابتكار وقابلية التوسع والوصول- فإن شركات التكنولوجيا المالية مؤهلة للصمود والانتعاش بعد الأزمة.